الأحد، 30 يناير 2022

لعب آخر

حينما أبصرت الطفلة السماء وقد تكاثفت الغيوم الداكنة في امتدادها الأزرق؛ خرجت بشوق مبتهج إلى الشرفة والتقطت صورة لما بدا وعدًا فاتنًا بمطر وشيك .. لم تغفل عيناها عن أن تضم لمشهد السماء نافذة كبيرة وعالية في البيت المقابل تسكن حافتها العريضة أصص زهور ونباتات بإغواءات لونية وشكلية متباينة ومنسجمة .. وكما تعوّدت أن تُكمل لحظاتها السعيدة؛ أرسلت الصورة إلى أبيها كهدية ثمينة لقلبه الذي ـ كما أخبرها مرارًا ـ خلقت روح الشتاء أحلامه.

كان أبوها يسير مرتعشًا وحده خارج البيت في تلك اللحظة، وحينما تأمل الصورة على هاتفه بابتسامة شهوانية ممتنة؛ جلس على جانب الطريق ثم بدأ يغيّر في تفاصيلها حتى أصبحت النافذة مثلما تبدو بعد إطفاء حريق وحشي التهم زهورها ونباتاتها كليًا .. في خطوته التالية وضع بين الغيوم الكثيفة تكوينًا يكاد يكون شفافًا لقبر، كما لو أنه متجذّر في باطن السماء ..  بدموع غاضبة ومكتومة وبأنفاس مختنقة أعاد إرسال الشتاء إلى طفلته بعدما فرغ من تعديله.

إذا رجع إلى البيت؛ حتمًا ستسأله الطفلة عن معنى ما فعله بالصورة؛ لكنه لن يقدر حينئذ سوى أن يقول لها بضحكة خافتة، مفتعلة ومرتبكة، كأنما يترك لها وداعًا مشفّرًا: "مجرد لعب آخر"، قبل أن يخرج إلى الشرفة وينظر إلى المشهد مجددًا.

اللوحة: رياض نعمة

الأحد، 23 يناير 2022

الوجه المرآة

بعد أن تحوّل وجهه إلى مرآة؛ لم تُستبدل طراوة جلده بالصلابة المصقولة كسائر المرايا، بل ظل محتفظًا بطبيعته الأصلية: جلد بشري عادي، ينعكس على سطحه المتعرّج كل ما يقابله .. أصبح هذا الوجه أشبه بشاشة صغيرة، متنقلة، عارضة لما يوجد أمامها .. لكن ما كان ينعكس فوق ملامحه ليس وجوه البشر كما تُرى في الواقع، وإنما كانت تنويعات غير محدودة من الماضي التي عاشها وجهه هو .. كان ما يُعرض فوق هذه الملامح جميع اللحظات التي مرت على وجهه، وقد جسّدتها وجوه الآخرين التي تظهر في مرآة هذا الوجه، بينما مازالت ملامح كل شخص منهم تبدو كما كانت عليه دائمًا خارج تلك المرآة .. عيناه كانتا تستطيعان رؤية هذا التحوّل أيضًا؛ ليس فوق جلد وجهه كما يفعل الجميع، حيث لا تقدر المرآة على التطلع لما تعكسه؛ ولكن بالنظر الطبيعي إلى ما حوله .. لذا بدا كأن ملامحه لا تستقبل الوجوه التي تختزن ذاكرته، بل كانت تخلقها.

اعتبر الناس ما يحدث في بداية الأمر أقرب إلى دعابة شيقة، تشبه تلك التي يكتشفها المرء أثناء تجواله في بيت المرايا، ولكن مع مرور الوقت، وبالرغم من أن ما ينعكس على سطح هذا الوجه لم يكن وجوههم بل ملامحه القديمة؛ إلا أن استياءً بدأ ينمو في نفوسهم، بعدما شعروا أن ثمة خدعة خبيثة تتعلق بهم .. بحياة كل فرد منهم، خاصة في أغوارها المجهولة، التي لا يدركون عنها شيئًا .. لذلك، وبعدما تصاعد الاستياء بصورة منطقية إلى ذروة الغضب؛ قرروا دون اتفاق معلن تمزيق هذا الوجه .. أن يتكالبوا عليه ويملئوه بالجروح حتى يصبح عاجزًا عن أن يعرض ما يحيط به من ملامح.

لكنهم اكتشفوا بعدما تساقطت أشلاء وجهه أنه لم يكن سوى مجرد طبقة يتوارى خلفها وجه آخر .. الفرق أن هذا الوجه حينما راح يعكس وجوههم لم تظهر على سطحه الأشكال المتغيّرة لملامحه طوال الماضي مثل الوجه السابق، وإنما كان يعرض وجوهًا أخرى، لا تشبهه ولا تماثل وجوه الناس المحيطين به .. كانت وجوهًا غريبة، تبدو عتيقة للغاية، كأنها لبشر من أزمنة أكثر بُعدًا مما يُمكن تخيّله، ومع ذلك كانت تمرر يقينًا لكل من يراها بأنها تحمل الروح ذاتها التي تكمن داخل صاحب الوجه الذي تحوّل إلى مرآة.

لم يكن هناك حل بالنسبة لهم سوى إحراق هذا الوجه، والذي سيضمن لهم التخلص من طبقات المرايا المحتملة التي تختبئ ورائه .. حينما فعلوا ذلك ـ دون دهشة عابرة من استسلامه ـ استرد وجهه ملامحه العادية، التي لا يداخلها أثر لمرآة .. وجه رجل لا يعكس الوجوه التي توجد أمامه، سواء في مظهرها الأصلي أو في حالة أخرى .. لكن في المقابل تحوّلت وجوه الجميع إلى هذا الوجه العادي .. أصبحت وجوههم التي تحاصره كافة تحمل ملامحه .. الرجال والنساء والأطفال لم يعد لديهم سوى نفس الوجه .. حينئذ تأكدوا أنه طوال الوقت كان ميتًا حقًا.

الصورة: Charles Harbutt

الأربعاء، 19 يناير 2022

أمام قبر فارغ

جئتك يا أبي بفريسة اليوم .. صورة جديدة التقطها بهاتفي المحمول دون أن يشعر بي أحد كالعادة .. حتى أمي التي أسير ملتصقة بها لم تنتبه لي وأنا أصطاد هذه الصورة من أجلك .. وجه آخر من عابري المدينة أحضره إليك يا أبي كما تعوّدت أن أفعل كل يوم منذ وقت طويل .. منذ أن توقفت عن مغادرة البيت ومقابلة الآخرين وأصبحت أنا شركك الخفي الذي يقتنص ملامح الغرباء لعينيك الخامدتين .. لا شيء يمكنه أن يمنعني عن الوفاء بعهدي لك، أو يجبرني على كشفه .. سأظل أغتنم صورًا للوجوه التي طالما دهست ظلالها جسدك وأنت تترنح بينها وأعود بها مخبأك .. سأظل أفعل ذلك بينما أتنقل مع أمي من شارع لآخر لنزور أقاربنا ونقضي احتياجاتنا ونمضغ الأحداث المتشابهة لأيامنا المتلاحقة .. سأواصل معك اكتشاف الحياة المجهولة للمحتجز داخل كل صورة؛ من ملامحه، نظرته، ملابسه، انطباع جسده تجاه ما يحيط به من تفاصيل وأشياء .. سنخلق لوجهه كالمعتاد تاريخًا جديدًا سواء كنت تعرف صاحبه أو صادفته في وقت ما أو لم تره من قبل .. سنغيّر ملامحه لأشكال متعددة بحسب ما يتطلب مزاجنا الجنوني الهازئ .. سيكون صديقًا مؤقتًا لنا، نتحدث معه عن الذكريات والأحلام والمدينة والحياة والموت، كأنه يسمعنا، وكأننا ننصت إليه .. سأتخيّل معك الطريقة المناسبة لقتله ونختار المكان الأكثر ملاءمة لإخفاء جثته أو لدفن أشلائه إذا ما قررنا تمزيقها .. لن أتوقف عن مشاركتك الضحكات الانتقامية من المدينة وأجسادها وحكاياتها السرية التي ضاع عمرك عالقًا عند عتباتها المعتمة .. سأعود طفلة من أجلك يا أبي وستعود حيًا .. سأصنع زمنًا آخر لنا يليق بما عرفته حين غادرت طفولتي وغادرت أنت العالم .. نعم يا أبي سيظل استمناءً .. لكنه بعكس الماضي سيكون تعويضًا حقيقيًا .. امتلاكًا فعليًا لكل ما لم تتمكن من حيازته .. لأنه بيدي أنا يا أبي لا بيدك.

اللوحة: Marc Chagall

السبت، 15 يناير 2022

قصص قصيرة جدًا

المنقذ

كان يجلس وحده في البيت أمام التليفزيون متنقلًا بالريموت بين قنواته، وحينما ظهر المنقذ فجأة وهو يُلقي خطابًا للجماهير؛ شكّل قبضته على هيئة مسدس ثم صوّبها مبتسمًا نحو الوجه المنتصب أمامه على الشاشة، لكنه قبل أن يُصدر صوت إطلاق النار من فمه؛ اخترقت رصاصة رأسه من الخلف فارتمى على الأريكة جثة هامدة.


امتلاك المدينة

في ليالي الطفولة، داخل ظلام الحجرة، وتحت أغطية الفراش؛ كنت أغمض عينيّ، وأبقي أذنيّ متيقظتين لأصوات كل صحبة عابرة أسفل الشرفة في ذلك الوقت المتأخر، وأحاول أن أتخيل من حواراتهم الصاخبة والمبتورة التي لا يستغرق مرورها أكثر من ثوان قليلة قبل أن تتلاشى كليًا أي سهرة قضوها في تلك الليلة، أين كانت، وماذا حدث خلالها، وما الذي انتهت إليه .. كنت أنصت إلى أسماء الشخصيات والأماكن وأنواع الألعاب والأكلات والمشروبات وأساليب المزاح والتخاصم والأحداث الناقصة للحكايات التي تتطاير من أفواههم وتتبدد سريعًا في سكون الشارع .. كنت أتخيل نفسي مع كل جماعة منهم حيث كانوا، أشاركهم ذلك المرح الحميمي، والدراما المشوّقة وأعود معهم بذكريات أحاول بعفوية جذلة أن أشبع فراغاتها الجائعة بتفاصيل ملائِمة من حياتي المنطوية على تاريخها الضئيل .. كنت أشعر أنني بذلك الجسد الصغير الذي لا يغادر البيت إلا قليلًا ولا يتحرك خارجه إلا خطوات ملجّمة؛ كنت أشعر أنني بهذا الإنصات اليومي لكلمات وضحكات العائدين من سهرات مختلفة قادر على امتلاك المدينة من تحت أغطية فراشي .. الشعور الذي حينما أصبح لدي جسد كبير، يمكنه الخروج من المنزل حين يشاء، وأن يسهر مع أصدقائه حتى وقت متأخر من الليل؛ فقدته تمامًا ودون أي عزاء.

أفكاري القديمة

أفكاري القديمة، أيتام صغار كنت أربيهم كأطفالي .. أساير ـ كأعمى ـ يقينهم بالبنوة تجاهي .. كنت أتقمّص أبوّتي لهم دون وعي بذلك .. كان الإيمان حيلة لا تدرك نفسها .. تجاوبًا مع ما يتحتم تصديقه، يتلصص في ذات الوقت وبشكل غير مستوعب على الأشباح بينما تتحرر من ظلامها تدريجيًا .. أفكاري القديمة، الخير الذي عرفت أنه شر .. كل الخير الذي أدركت بسببه أنه لا شيء سوى الشر .. أفكاري القديمة، في نهاية حياتي، أريد أن أعتنقها مجددًا، بقدرة استثنائية على قتل أشباحها.

الثلاثاء، 11 يناير 2022

استعادة السيىء في الأمر

كيف يمكن للذاكرة ألا تكون مجرد ماض مفتقد مرغوب في استعادته بل موضوعًا للتنقيب، وللبحث عن المعنى الخاص بهذا الماضي؟ .. كيف يمكن للموت أيضًا ألا يكون مجرد نهاية للحياة أو غياب عن العالم بقدر ما هو إدراك للعجز، وفشل الوعي وعدم اليقين في مواجهة العالم؟ .. إهداء الكتاب على سبيل المثال إلى الأب الميت وفترة الثمانينيات والحياة التي كانت تسمح أحيانًا بأن توصف بأنها ليست جميلة .. ربما كان في هذا الإهداء محاولة لتجاوز حدود التمني لعودة أبي إلى الحياة رغم علاقتنا التي لم تكن طيبة وأيضًا عودة حياة الثمانينيات ..  تجاوز نحو تأمل أبي نفسه ومساءلة المعنى الكامن في أن علاقتنا لم تكن طيبة .. معنى أن تنتهي العلاقات غير الطيبة بالموت، وأيضًا معنى أن يجعل العالم الإنسان  ـ رغم ذلك ـ يرغب في استعادة هذه العلاقة مع الأب .. هل لأن الحياة في الماضي الطفولي كانت تسمح بوصفها بأنها ليست جميلة؟ .. ما هي الحياة الآن إذن؟.

في (السيئ في الأمر) / 2008 ـ وهو أول كتاب أطلِق عليه (نصوص) ـ كان هناك استخدام لما يشبه فانتازيا ما باقتراح كلمة (صفقة) كوصف محتمل للعلاقة بين الابن وأبويه مع غياب المنطق الذي يعطي لهذه العلاقة وصفها الصحيح .. السييء في الأمر هنا هو ذلك العبث القدري، وفوضى الصدف التي تؤدي لجعل الإنسان رغمًا عنه ابنًا داخل أسرة ما فيتحكم بحياته ما يتحكم بحياتها ويرتبط مصيره بمصيرها، وتنتهي به لأن يقرر بأن المأوى والغذاء والملابس والرعاية الصحية والتعليم والشقة التمليك والوديعة البنكية ومبلغ الميراث مقابل عشرين عامًا من البنوة يعتبر صفقة رابحة إذا ما أُخذ في الاعتبار قدرة الذاكرة على التخلص من كوابيسها، وما وصل إليه فقر المصريين في الألفية الثالثة.

لم أكن أريد إقناع نفسي أو إقناع القاريء بشيء .. كنت أتعامل مع اللامنطق باللامنطق كنوع من مجاراة الدعابة أو الرد عليها بمثلها نظرًا لأنني عرفت وجرّبت أن عشرين عامًا ليست قليلة أبدًا، ولا أثق في احتمال أن أعيش مثلها .. كما أن الذاكرة قادرة على التخلص من كل شيء عدا كوابيسها، وما أمتلكه لا يكفي للنجاة من الفقر المصري.

الذاكرة والموت .. عشرون عامًا من البنوة الإجبارية بكافة كوابيسها وصراعاتها مع الموت الحاضر طوال الوقت، والذي يجعلك تعيش مهددًا ولا تثق في استمرار الحياة بعد سنوات البنوة الطويلة هذه .. هل الموت ناتج عن هذه الذاكرة؟ ، أم أن الذاكرة كانت تمهيدًا ضروريًا لهذا الموت؟.

الدعابة التي استخدمتها أو الفانتازيا التي تناولت بها اللامنطق والعبث والفوضى كنت أريد أن أصل بها إلى حد السخرية المشحونة بالمرارة والاندهاش والخوف بينما أحوّل انشغالي بصفقة البنوة ومساءلتها إلى ممر نحو التفكير في صفقة الدنيا والآخرة والحكمة المحتمية بغيابٍ مقدس.

فشل تصديق الجحيم خطأ ينبغي الاعتذار عنه! .. العالم رحيم لأنه يعتذر نيابة عنك! .. هكذا يمكنك أن تجرب السخرية من دوافع ومبررات العالم المتخم بكافة أنواع الجحيم الذي ليست لديه أي رحمة .. تحدثت عن الجنة كما وصفها الإسلام .. الجنة التي يسبقها خيانة غير مقنعة الأسباب .. خيانة مطلقة لا يمكن تحديدها لأنها كامنة في كل شيء .. عدم الاقتناع بالخيانة سبب لغضب إلهي قد يتم التجاوز عنه بالصفح عن الإنسان غير المقتنع وغير المصدّق وإدخاله الجنة! .. كنت أريد الخوض في مغامرة الربط بين العالم بجحيمه وخياناته، وبين الله كسلطة مسؤولة ، وبين الجنة والنار كآخرة .. أسعى لمحاكمة هذه العلاقة بين كل هذه الأطراف وفضح لامعقولية أسبابها ودوافعها ومبرراتها في الحدوث .. شهادة الأعضاء هو الحدث الحتمي يوم القيامة عند المسلم حيث يقر كل عضو من أعضاء جسد الإنسان الذي تتم محاسبته أمام الله بالذنوب التي ارتكبها في الدنيا .. هل عدم قدرتي على جعل العالم كما أريد يعتبر ذنبًا! .. جعل العالم كما أريد مثلما يفعل الإله بحسب النص المقدس الذي ورد فيه (إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون) .. القيامة كموعد لحساب الإنسان يجب أن تكون أكثر منطقية وصدقًا .. أن تكون شهادة على فشل الإنسان في أن يكون إلهًا .. ما هو المنطق الذي يبرر الحساب إذن بينما الإله الذي يقول للشيء كن فيكون لم يجعل العالم خاضعًا لإرادة الإنسان مثلما هو خاضع لإرادته كإله، الأمر الذي جعل من هذا العالم في علاقته بهذا الإنسان: يواصل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!.

أي في مقابل نعيم الجنة الذي لا يمكن استيعابه ووعد به الله البشر الصالحين؛ يوجد الشر أو الألم في الدنيا الذي لا يمكن استيعابه أيضًا، وهذه المفارقة المتعمّدة المتهكمة تحوي في باطنها التساؤل عن غياب الدافع أو عدم الاقتناع به ذلك الذي يجعل طبيعة العالم هكذا بينما في الآخرة جنة منتظرة .. مهما كان النعيم الذي لا يمكن شرحه أو توضيحه فهو لا يقارن في إعجازه بالجحيم الدنيوي ليس من باب المطابقة والقياس، وإنما من باب التفرقة بين تجربة واقعية غير مبررة وتجربة منتظرة لم تُختبر بعد لا يمكن اعتبار جمالها غير القابل للتخيل مبررًا لآلام التجربة الواقعية التي سبقتها.

كان هناك اشتباك آخر بين الذاكرة والموت حيث طفلة صغيرة تسير مع أبيها فوق جسر قديم .. الأب يحذّرها بألا تترك يده وتركض حتى لا تسقط من الثقوب الصغيرة المتناثرة في أرضية الجسر .. الأب أصبح ميتًا والطفلة كبرت وتستعيد هذا المشهد .. هذه الاستعادة ليس لمجرد افتقادها للأب ولسيرهما معًا فوق الجسر بل لمراجعة هذا المشهد وإعادة تأمله بكافة دلالاته الممكنة، وأيضًا للمرور من خلاله نحو استكشاف الأب ذاته كإنسان، حيث تتذكر الطفلة التي كبرت أن يد الأب التي لم تتركها خوفًا من السقوط كانت مرتعشة وحزينة رغم أنه كان يضحك وقتها بينما يراقب النهر المتسع .. إحياء للحظات القديمة، وإعادة بعث تفاصيل الذاكرة بعد أن كانت تمتلك وقت حدوثها في الماضي أسبابها الخاصة للاختزان، كأنما كانت توقن بحتمية هذا الاستدعاء المستقبلي لها وفقًا لشروط  ومقوّمات وعي اجتاز مراحل مختلفة ومتدرّجة من التعارف مع العالم فأضيفت إليه الخبرات المحفّزة لهذا الإحياء والبعث .. ربما رعشة يد الأب وضحكاته ومراقبته للنهر لم تكن أحداثًا هامة جديرة بالتأمل والاكتشاف والفهم لدى الطفلة الصغيرة .. ربما كانت مجرد أشياء عادية تحدث فحسب لا تنتظر منها الانتباه في حينها بينما تتحول تلقائيًا إلى ماض يتم الاحتفاظ به دون أي قصد أو تدخل من جانبها .. لكن ربما حين تصبح امرآة وتعيش الحياة التي قُدّر لها أن تعيشها فإنه من الممكن تصوّر أن شيئًا ما في هذه الحياة سيجعلها تدرك أن رعشة يد أبيها وضحكاته ومراقبته للنهر لم تكن مجرد أشياء عادية، وإنما كانت إشارات تستحق الملاحظة ونقاط ضوء تريد أن ترشدنا إلى أمور هامة تتعلق بالحياة وبالموت .. بالدنيا والمصير الذي لا يمكن حسمه.

هذا ما حدث للمرأة التي كانت طفلة صغيرة .. أن الموت لم يخاصم أبيها كشأن كل الصغار الذين يجبر الموت أيادي آبائهم على ترك أياديهم فتصبح خاوية عدا أسرار الحياة والموت التي تزداد قسوة وشراسة كونها بلا أجوبة مع تقدّم العمر .. هل من الممكن تصوّر أيضًا أن المرأة اكتشفت أن احتفاظها بمشهد الجسر مع أبيها وهي طفلة لم يكن دون قصد وإنما تعمّدت أن تختزنه في ذاكرتها لأسباب ربما لم تكن واضحة بالنسبة لها في ذلك الوقت ثم تكشّفت لها بعد أن كبرت؟ .. الطفلة حينما كبرت تخبر أبيها الميت إنها أدركت أن الثقوب التي كان يحذّرها منها كانت أصغر بكثير جدًا من أن تسقط داخلها، وأنه كان يخبرها بذلك فقط حتى لا تترك يده اعتمادًا منه على كونها طفلة صغيرة لن تستوعب حقيقة هذه الثقوب .. لكن هناك حقائق محتملة أخرى ربما تتعلق بهذه الثقوب التي على الرغم من كونها آمنة إلا أنها في نفس الوقت تضحك ..  لماذا تسمع الطفلة الصغيرة هذه الثقوب وهي تضحك؟ .. هل الضحك هنا هو تعبير عن سخرية هذه الثقوب من الأمان التلقائي والبديهي الذي يشعر به كافة العابرين فوق الجسر تجاهها باعتباره أمانًا تافهًا، ويمثل أقصى ما يقدر السائر فوق الجسر على امتلاكه من الحماية داخل عالم مرعب ومخيف لا يتوقف عن تهديدك بكل ما يمكن تصوّره من أشكال الأذى ودون أن تمتلك أدنى قدرة على الدفاع عن نفسك؟ .. أم أن هذه الضحكات تعبير عن إدراك هذه الثقوب بأنها الأشرس والأكثر خطرًا والأشد تدميرًا للعابر فوقها والغافل باطمئنانه إليها أو عدم انتباهه لقدراتها الهائلة والخبيثة في القتل؟ .. كأن الطفلة الصغيرة تريد أن تخبر أبيها الميت بعد أن كبرت إنها فهمت أيضًا أن الجروح الصغيرة المعتادة والمهملة هي الأكثر قسوة والأعنف إيلامًا من الجروح الكبيرة التي تستحوذ على كامل انتباهنا .. هي تبدو تساؤلات أكثر منها حقائق ولكن أتصور أن أي إجابة محتملة على هذه التساؤلات لحظة التفكير فيها أو تأملها تحتاج التعامل معها أحيانًا كحقيقة مطلقة يتم الاقتناع بها أو كيقين محسوم يتم الاستسلام لقرارته حتى يمكن تحفيز قدرة هذه الإجابة على إنتاج حقائق أو تساؤلات أخرى مغايرة.

كانت هناك أيضا عجوز وحيدة تكره الانتظار بجوار النافذة .. الكراهية الناجمة عن كون هذا الانتظار يبدو بلا نهاية .. أنه لن يسفر عن شيء لذا يُحتّم التخلي عنه والتحرك في الشوارع بحثًا عن ماض تحوّل إلى حاضر غريب ملغز ومدوّخ .. ربما الأهم أنه مهيمن ومسيطر وقابض على كافة تفاصيل الحياة التي غيّرت أسماء الشوارع، ولدرجة أن أقصى ما يسمح به هو إعادة عقارب ساعة قديمة للوراء فحسب .. مواجهة قسوة الانفصال والاغتراب عن الحاضر والافتقاد المؤلم للحضور الواقعي لذاكرة غائبة بفعل مجازي ضئيل يعمّق المرارة المصاحبة لجروح الانتظار .. الليل والنوم والفراش هي تفاصيل نهاية اليوم .. العيش المباشر والمتوحّد مع نتيجة ما حدث خلال الوقت الفائت .. ربما يعني النهاية بمعناها المطلق .. الاكتمال النهائي لليأس من عودة الذاكرة أو التثبيت الختامي لانتصار الفقد .. العجوز لا يمكنها مواجهة هذه النهاية المحتملة دون أن تحصل على الاطمئنان ولو بشكل رمزي .. الاطمئنان على نجاحها الوشيك في العثور على ماضيها الغائب .. لقاءها القريب مع حياتها القديمة التي اُنتزعت منها .. تحصل على الاطمئنان من تأمل تجاعيد وجهها في المرآة .. التجاعيد التي ما زالت تمنح الحياة للذكريات طالما أنها هي نفسها ما زالت تعيش .. التجاعيد هنا قد تكون البلورة السحرية التي يمكن التطلع من خلالها للماضي الذي لا يزال حيًا (بأمل استيعابه) والمُعتنى به ضد التشوّه أو النسيان.

إذا تحدثت عن رسالة للأم الميتة فهي ليست رسالة ندم أو اعتذار أو محاكمة أو تصفية حسابات قديمة .. هي رسالة مصالحة قائمة على كشف التشارك العميق في مأساة الماضي .. إعطاء تفاصيل وأحداث الذاكرة منطق مختلف يخلّصها من حماقة المعادلات التقليدية المؤسسة على الثنائيات المتضادة الخالدة: الظالم والمظلوم، الجاني والمجني عليه، الطيب والشرير … إلخ .. في هذه الرسالة تجاوز للصراع ليس من أجل التبرؤ من مسؤوليته ولكن لتأمل أسبابه الحقيقية الكامنة فيما هو قدري أو غيبي بالأساس .. كان هناك إقرار بعدم الندم على أفعال تصنّف أخلاقيًا بالسيئة خاصة لو كانت موجهة من الابن إلى الأم، وفي المقابل يجيء إقرار آخر بأن الابن يعتبر ما تم ضده من الأم لم يكن ذنوبًا .. إذن لم تكن هناك إدانة ولا تسامح بل إعلان ببساطة أن الحياة بينهما ـ الأم والابن ـ تستحق مقاربة أخرى مختلفة .. ما حدث لم يكن بسبب أخطاء من أحد بقدر ما كان فشلًا في تحقيق الآمال وبناء بيوت صالحة للسكن المشترك .. الألم كان نتيجة الأمواج التي هدمت البيوت الرملية ذات الأحجام غير الصحيحة، وليس نتيجة رغبة شخص ما في إحداث هذا الألم .. ينبغي ألا نندم لأن الحياة هي التي تجعلنا نفترض صلاحيتنا لها في حين أنها تعلم مسبقًا أن هذا الافتراض ما هو إلا محض أمل خائب .. لماذا يتم هذا الطرح بعد موت الأم؟ .. هل الموت كان ضروريًا لحدوثه؟ .. الموت الذي يُنهي صلة أحد الأطراف بالحرب كي يتمكن الطرف الآخر الذي لا يزال حيًا من التقاط أنفاسه، وإعادة تقييم الموقف من جديد بآليات مختلفة؟ .. هل الموت هو الذي يجعلنا فعلًا نستوعب الآخر ونستوعب معه أنفسنا وعلاقاتنا معه بصدق وأمانة بعدما حررنا موته من ورطة الاشتباك الأعمى التي سجنتنا بداخلها طوال الحياة؟ .. (الاختلاف في استيعاب الأذى) .. ربما هذا ما نطلق عليه نحن ببساطة وتلقائية (الصراع) الذي ليس أكثر من تعارض أفكارنا ومشاعرنا تجاه الألم .. قناعاتنا المتباينة عن الهموم والأحزان التي تصيبنا ونحن معًا .. ليس هذا فحسب بل وأيضًا تعارض أحلامنا بالنجاة .. معتقداتنا المتباينة عن الخلاص .. الخلاص الذي مع كل اختلافاتنا حوله نتفق على كونه غائبًا وبعيدًا .. قد يبدو هناك تساؤل غريب أيضًا: هل هناك رغبة خفية أبعد كنت أريد تحقيقها تتجاوز إعادة تناول الماضي للتخلص من الندم؟ .. ربما كنت أحاول تحرير أمي الميتة أيضًا من هذا الشعور بالندم عبر رسالة حقيقية يُفترض أنها على دراية بها بشكل واقعي وهي داخل العالم الآخر .. أريد أن أخلصها من الألم ذاته الذي أحاول أنا التخلص منه لو كانت مصابة به حقًا وهي ميتة  .. هل هذا جانب من الذنب لا يزال يؤلمني حتى الآن رغم عدم ندمي؟.

الخميس، 6 يناير 2022

هتشكوك وراء النافذة

هل أنت أب لطفلة لم تعد "صغيرة"؟

هل تحب طفلتك الطيور؟

هل تحب أنت فيلم "الطيور"؟           

حسنًا ...

طفلتك

ـ التي قد تقع في غرام ولد ما دون أن تعلم ـ

حاول ألا تجعلها تشاهد الفيلم

قبل أن تعرف الطريقة المناسبة

التي ستفهمها بها

أن الفيلم ليس عن "الطيور".

السبت، 1 يناير 2022

The other sister: السينما كتجميل للأنقاض الخالدة

تدور أحداث الفيلم حول الطفلة (كارلا) التي تقرر أسرتها إرسالها إلى مدرسة خاصة بالمعاقين ذهنيًا، نتيجة انخفاض معدل ذكائها ومواجهتها صعوبات في النمو العقلي الأمر الذي أدى إلى صدامات كثيرة داخل محيط الأسرة لعدم قدرتها على التكيّف مع أفرادها.

بعد سنوات، وحين تصبح الطفلة في بداية مرحلة الشباب؛ تعود (كارلا) إلى أسرتها بسمات نفسية أكثر هدوءً وأقل عنفًا عن تلك التي كانت تتسم بها شخصيتها في مرحلة الطفولة (كان عنفها في غالبيته رد فعل لعجزها عن الخضوع لآليات الواقع وأيضًا لسخرية أبطال هذا الواقع من سلوكها المخالف لقوانين التعاملات والعلاقات المعتادة).

تحاول الأم إخضاع الابنة إلى ممارسات وأهداف حياتية خاصة (تعليم التنس ودراسة الفن التشكيلي ولعب الشطرنج كما يليق بفتيات العائلات الراقية) الأمر الذي سيجعل (كارلا) تضيق بحياتها في بيت أسرتها وتتخذ قرارًا بالاستقلال المعيشي في منزل آخر بمفردها والالتحاق بمدرسة خاصة للتعليم المهني .. ورغم معارضة والدتها الشديدة لهذا السلوك المتمرد على إرادتها إلا أنها ترضخ في النهاية وتستجيب لمطالب (كارلا).

في المدرسة تتعرّف الفتاة على الطالب (دانييل) الذي تقارب حالته الذهنية حالة (كارلا) لتشرع في بناء علاقة معه تبدأ بالخروج للتجول بالدراجة وتناول الطعام وسماع الموسيقى ثم ممارسة الجنس (تم الأمر بقدر كبير من الارتباك الذي يصاحب بهجة وخوف الاكتشاف والإذعان المعلن لتلك المشاعر بين رجل وامرأة).

بعد ذلك تقرر (كارلا) الزواج من (دانييل) ورغم المعارضة والرفض الهائل لوالدتها إلا أن الزواج يحدث في النهاية بعد رضوخ الأم لرغبة ابنتها .

لم يتجاوز الفيلم المعالجة التقليدية التي اعتادت غالبية الأفلام التي تتناول “المعاقين ذهنيًا” على تقديمها من حيث نفس الطرح المستهلك عن ضرورة أن يمارس “المعاق ذهنيًا” حياة عادية مثل أي فرد طبيعي، وكأن الأنساق المعتادة لحياة هذا الفرد الطبيعي (أو ما نطلق عليه كذلك) أشبه بيوتوبيا أو فردوس مفقود، وتصلح أن تكون نموذجًا يسعى لتحقيقه كل فرد في العالم .

الفيلم تحكمه رؤية منتصرة جوفاء للحياة والواقع من خلال مؤسساته وأنماطه وعلاقاته التقليدية (الأسرة ـ الزواج ـ الصداقة … إلخ) .. وبالطبع كان لهذه الرؤية القاصرة أن تحجّم الفيلم عن التفاعل الحميمي والتوحد مع العالم الحقيقي لمن يوصف بـ (الإعاقة الذهنية) حيث غياب الأقنعة في مواجهة العالم والصدق في التعبير عن المشاعر وعدم الاكتراث بالآخرين وآراءهم وأفكارهم عن طبيعتك الذاتية.

كان هناك إصرار من مخرج الفيلم على تكبيل حياة (كارلا) و (دانييل) بقيود الواقع من منطلق إيمانه بأن آلياته التقليدية هي نفسها شروط السعادة، مع أنه يُفترض في هذا الثنائي القدرة على فضح شرورها، لكن الأمر يرجع دائمًا لمن يُحسن استغلال ذخيرته في اللعب والتقويض، ومن يستسهل على جانب آخر إرغامها على التشكّل داخل القوالب الصدئة.

يُعد استعمال “المعاق ذهنيًا” في تكريس الإيمان بالأنساق المألوفة للحياة بمثابة جائزة كبرى لهذه الأنساق؛ فالأشخاص العاديين الذين يتم توظيف حكاياتهم لتوطيد اليقين بخرافات العالم لا مساءلتها ومحاكمتها؛ هؤلاء يؤدون أدوارًا طبيعية وشائعة، لكن “المعاق ذهنيًا” حين يتم استعباده من خلال السلطة البديهية لهذا اليقين بحيث يتحدد رجاؤه الدنيوي في أن يصبح إنسانًا عاديًا، خاضعًا لأنساق الحياة فإن خرافات العالم تكتسب بفضل ذلك الدعم الاستثنائي مزيدًا من القوة والتأثير كحقائق حاسمة، في إنكارها أو التجرد منها مجابهة لغربة مضنية وهلاك محتوم.

أراجيك ـ 1 يناير 2022