الثلاثاء، 11 يناير 2022

استعادة السيىء في الأمر

كيف يمكن للذاكرة ألا تكون مجرد ماض مفتقد مرغوب في استعادته بل موضوعًا للتنقيب، وللبحث عن المعنى الخاص بهذا الماضي؟ .. كيف يمكن للموت أيضًا ألا يكون مجرد نهاية للحياة أو غياب عن العالم بقدر ما هو إدراك للعجز، وفشل الوعي وعدم اليقين في مواجهة العالم؟ .. إهداء الكتاب على سبيل المثال إلى الأب الميت وفترة الثمانينيات والحياة التي كانت تسمح أحيانًا بأن توصف بأنها ليست جميلة .. ربما كان في هذا الإهداء محاولة لتجاوز حدود التمني لعودة أبي إلى الحياة رغم علاقتنا التي لم تكن طيبة وأيضًا عودة حياة الثمانينيات ..  تجاوز نحو تأمل أبي نفسه ومساءلة المعنى الكامن في أن علاقتنا لم تكن طيبة .. معنى أن تنتهي العلاقات غير الطيبة بالموت، وأيضًا معنى أن يجعل العالم الإنسان  ـ رغم ذلك ـ يرغب في استعادة هذه العلاقة مع الأب .. هل لأن الحياة في الماضي الطفولي كانت تسمح بوصفها بأنها ليست جميلة؟ .. ما هي الحياة الآن إذن؟.

في (السيئ في الأمر) / 2008 ـ وهو أول كتاب أطلِق عليه (نصوص) ـ كان هناك استخدام لما يشبه فانتازيا ما باقتراح كلمة (صفقة) كوصف محتمل للعلاقة بين الابن وأبويه مع غياب المنطق الذي يعطي لهذه العلاقة وصفها الصحيح .. السييء في الأمر هنا هو ذلك العبث القدري، وفوضى الصدف التي تؤدي لجعل الإنسان رغمًا عنه ابنًا داخل أسرة ما فيتحكم بحياته ما يتحكم بحياتها ويرتبط مصيره بمصيرها، وتنتهي به لأن يقرر بأن المأوى والغذاء والملابس والرعاية الصحية والتعليم والشقة التمليك والوديعة البنكية ومبلغ الميراث مقابل عشرين عامًا من البنوة يعتبر صفقة رابحة إذا ما أُخذ في الاعتبار قدرة الذاكرة على التخلص من كوابيسها، وما وصل إليه فقر المصريين في الألفية الثالثة.

لم أكن أريد إقناع نفسي أو إقناع القاريء بشيء .. كنت أتعامل مع اللامنطق باللامنطق كنوع من مجاراة الدعابة أو الرد عليها بمثلها نظرًا لأنني عرفت وجرّبت أن عشرين عامًا ليست قليلة أبدًا، ولا أثق في احتمال أن أعيش مثلها .. كما أن الذاكرة قادرة على التخلص من كل شيء عدا كوابيسها، وما أمتلكه لا يكفي للنجاة من الفقر المصري.

الذاكرة والموت .. عشرون عامًا من البنوة الإجبارية بكافة كوابيسها وصراعاتها مع الموت الحاضر طوال الوقت، والذي يجعلك تعيش مهددًا ولا تثق في استمرار الحياة بعد سنوات البنوة الطويلة هذه .. هل الموت ناتج عن هذه الذاكرة؟ ، أم أن الذاكرة كانت تمهيدًا ضروريًا لهذا الموت؟.

الدعابة التي استخدمتها أو الفانتازيا التي تناولت بها اللامنطق والعبث والفوضى كنت أريد أن أصل بها إلى حد السخرية المشحونة بالمرارة والاندهاش والخوف بينما أحوّل انشغالي بصفقة البنوة ومساءلتها إلى ممر نحو التفكير في صفقة الدنيا والآخرة والحكمة المحتمية بغيابٍ مقدس.

فشل تصديق الجحيم خطأ ينبغي الاعتذار عنه! .. العالم رحيم لأنه يعتذر نيابة عنك! .. هكذا يمكنك أن تجرب السخرية من دوافع ومبررات العالم المتخم بكافة أنواع الجحيم الذي ليست لديه أي رحمة .. تحدثت عن الجنة كما وصفها الإسلام .. الجنة التي يسبقها خيانة غير مقنعة الأسباب .. خيانة مطلقة لا يمكن تحديدها لأنها كامنة في كل شيء .. عدم الاقتناع بالخيانة سبب لغضب إلهي قد يتم التجاوز عنه بالصفح عن الإنسان غير المقتنع وغير المصدّق وإدخاله الجنة! .. كنت أريد الخوض في مغامرة الربط بين العالم بجحيمه وخياناته، وبين الله كسلطة مسؤولة ، وبين الجنة والنار كآخرة .. أسعى لمحاكمة هذه العلاقة بين كل هذه الأطراف وفضح لامعقولية أسبابها ودوافعها ومبرراتها في الحدوث .. شهادة الأعضاء هو الحدث الحتمي يوم القيامة عند المسلم حيث يقر كل عضو من أعضاء جسد الإنسان الذي تتم محاسبته أمام الله بالذنوب التي ارتكبها في الدنيا .. هل عدم قدرتي على جعل العالم كما أريد يعتبر ذنبًا! .. جعل العالم كما أريد مثلما يفعل الإله بحسب النص المقدس الذي ورد فيه (إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون) .. القيامة كموعد لحساب الإنسان يجب أن تكون أكثر منطقية وصدقًا .. أن تكون شهادة على فشل الإنسان في أن يكون إلهًا .. ما هو المنطق الذي يبرر الحساب إذن بينما الإله الذي يقول للشيء كن فيكون لم يجعل العالم خاضعًا لإرادة الإنسان مثلما هو خاضع لإرادته كإله، الأمر الذي جعل من هذا العالم في علاقته بهذا الإنسان: يواصل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!.

أي في مقابل نعيم الجنة الذي لا يمكن استيعابه ووعد به الله البشر الصالحين؛ يوجد الشر أو الألم في الدنيا الذي لا يمكن استيعابه أيضًا، وهذه المفارقة المتعمّدة المتهكمة تحوي في باطنها التساؤل عن غياب الدافع أو عدم الاقتناع به ذلك الذي يجعل طبيعة العالم هكذا بينما في الآخرة جنة منتظرة .. مهما كان النعيم الذي لا يمكن شرحه أو توضيحه فهو لا يقارن في إعجازه بالجحيم الدنيوي ليس من باب المطابقة والقياس، وإنما من باب التفرقة بين تجربة واقعية غير مبررة وتجربة منتظرة لم تُختبر بعد لا يمكن اعتبار جمالها غير القابل للتخيل مبررًا لآلام التجربة الواقعية التي سبقتها.

كان هناك اشتباك آخر بين الذاكرة والموت حيث طفلة صغيرة تسير مع أبيها فوق جسر قديم .. الأب يحذّرها بألا تترك يده وتركض حتى لا تسقط من الثقوب الصغيرة المتناثرة في أرضية الجسر .. الأب أصبح ميتًا والطفلة كبرت وتستعيد هذا المشهد .. هذه الاستعادة ليس لمجرد افتقادها للأب ولسيرهما معًا فوق الجسر بل لمراجعة هذا المشهد وإعادة تأمله بكافة دلالاته الممكنة، وأيضًا للمرور من خلاله نحو استكشاف الأب ذاته كإنسان، حيث تتذكر الطفلة التي كبرت أن يد الأب التي لم تتركها خوفًا من السقوط كانت مرتعشة وحزينة رغم أنه كان يضحك وقتها بينما يراقب النهر المتسع .. إحياء للحظات القديمة، وإعادة بعث تفاصيل الذاكرة بعد أن كانت تمتلك وقت حدوثها في الماضي أسبابها الخاصة للاختزان، كأنما كانت توقن بحتمية هذا الاستدعاء المستقبلي لها وفقًا لشروط  ومقوّمات وعي اجتاز مراحل مختلفة ومتدرّجة من التعارف مع العالم فأضيفت إليه الخبرات المحفّزة لهذا الإحياء والبعث .. ربما رعشة يد الأب وضحكاته ومراقبته للنهر لم تكن أحداثًا هامة جديرة بالتأمل والاكتشاف والفهم لدى الطفلة الصغيرة .. ربما كانت مجرد أشياء عادية تحدث فحسب لا تنتظر منها الانتباه في حينها بينما تتحول تلقائيًا إلى ماض يتم الاحتفاظ به دون أي قصد أو تدخل من جانبها .. لكن ربما حين تصبح امرآة وتعيش الحياة التي قُدّر لها أن تعيشها فإنه من الممكن تصوّر أن شيئًا ما في هذه الحياة سيجعلها تدرك أن رعشة يد أبيها وضحكاته ومراقبته للنهر لم تكن مجرد أشياء عادية، وإنما كانت إشارات تستحق الملاحظة ونقاط ضوء تريد أن ترشدنا إلى أمور هامة تتعلق بالحياة وبالموت .. بالدنيا والمصير الذي لا يمكن حسمه.

هذا ما حدث للمرأة التي كانت طفلة صغيرة .. أن الموت لم يخاصم أبيها كشأن كل الصغار الذين يجبر الموت أيادي آبائهم على ترك أياديهم فتصبح خاوية عدا أسرار الحياة والموت التي تزداد قسوة وشراسة كونها بلا أجوبة مع تقدّم العمر .. هل من الممكن تصوّر أيضًا أن المرأة اكتشفت أن احتفاظها بمشهد الجسر مع أبيها وهي طفلة لم يكن دون قصد وإنما تعمّدت أن تختزنه في ذاكرتها لأسباب ربما لم تكن واضحة بالنسبة لها في ذلك الوقت ثم تكشّفت لها بعد أن كبرت؟ .. الطفلة حينما كبرت تخبر أبيها الميت إنها أدركت أن الثقوب التي كان يحذّرها منها كانت أصغر بكثير جدًا من أن تسقط داخلها، وأنه كان يخبرها بذلك فقط حتى لا تترك يده اعتمادًا منه على كونها طفلة صغيرة لن تستوعب حقيقة هذه الثقوب .. لكن هناك حقائق محتملة أخرى ربما تتعلق بهذه الثقوب التي على الرغم من كونها آمنة إلا أنها في نفس الوقت تضحك ..  لماذا تسمع الطفلة الصغيرة هذه الثقوب وهي تضحك؟ .. هل الضحك هنا هو تعبير عن سخرية هذه الثقوب من الأمان التلقائي والبديهي الذي يشعر به كافة العابرين فوق الجسر تجاهها باعتباره أمانًا تافهًا، ويمثل أقصى ما يقدر السائر فوق الجسر على امتلاكه من الحماية داخل عالم مرعب ومخيف لا يتوقف عن تهديدك بكل ما يمكن تصوّره من أشكال الأذى ودون أن تمتلك أدنى قدرة على الدفاع عن نفسك؟ .. أم أن هذه الضحكات تعبير عن إدراك هذه الثقوب بأنها الأشرس والأكثر خطرًا والأشد تدميرًا للعابر فوقها والغافل باطمئنانه إليها أو عدم انتباهه لقدراتها الهائلة والخبيثة في القتل؟ .. كأن الطفلة الصغيرة تريد أن تخبر أبيها الميت بعد أن كبرت إنها فهمت أيضًا أن الجروح الصغيرة المعتادة والمهملة هي الأكثر قسوة والأعنف إيلامًا من الجروح الكبيرة التي تستحوذ على كامل انتباهنا .. هي تبدو تساؤلات أكثر منها حقائق ولكن أتصور أن أي إجابة محتملة على هذه التساؤلات لحظة التفكير فيها أو تأملها تحتاج التعامل معها أحيانًا كحقيقة مطلقة يتم الاقتناع بها أو كيقين محسوم يتم الاستسلام لقرارته حتى يمكن تحفيز قدرة هذه الإجابة على إنتاج حقائق أو تساؤلات أخرى مغايرة.

كانت هناك أيضا عجوز وحيدة تكره الانتظار بجوار النافذة .. الكراهية الناجمة عن كون هذا الانتظار يبدو بلا نهاية .. أنه لن يسفر عن شيء لذا يُحتّم التخلي عنه والتحرك في الشوارع بحثًا عن ماض تحوّل إلى حاضر غريب ملغز ومدوّخ .. ربما الأهم أنه مهيمن ومسيطر وقابض على كافة تفاصيل الحياة التي غيّرت أسماء الشوارع، ولدرجة أن أقصى ما يسمح به هو إعادة عقارب ساعة قديمة للوراء فحسب .. مواجهة قسوة الانفصال والاغتراب عن الحاضر والافتقاد المؤلم للحضور الواقعي لذاكرة غائبة بفعل مجازي ضئيل يعمّق المرارة المصاحبة لجروح الانتظار .. الليل والنوم والفراش هي تفاصيل نهاية اليوم .. العيش المباشر والمتوحّد مع نتيجة ما حدث خلال الوقت الفائت .. ربما يعني النهاية بمعناها المطلق .. الاكتمال النهائي لليأس من عودة الذاكرة أو التثبيت الختامي لانتصار الفقد .. العجوز لا يمكنها مواجهة هذه النهاية المحتملة دون أن تحصل على الاطمئنان ولو بشكل رمزي .. الاطمئنان على نجاحها الوشيك في العثور على ماضيها الغائب .. لقاءها القريب مع حياتها القديمة التي اُنتزعت منها .. تحصل على الاطمئنان من تأمل تجاعيد وجهها في المرآة .. التجاعيد التي ما زالت تمنح الحياة للذكريات طالما أنها هي نفسها ما زالت تعيش .. التجاعيد هنا قد تكون البلورة السحرية التي يمكن التطلع من خلالها للماضي الذي لا يزال حيًا (بأمل استيعابه) والمُعتنى به ضد التشوّه أو النسيان.

إذا تحدثت عن رسالة للأم الميتة فهي ليست رسالة ندم أو اعتذار أو محاكمة أو تصفية حسابات قديمة .. هي رسالة مصالحة قائمة على كشف التشارك العميق في مأساة الماضي .. إعطاء تفاصيل وأحداث الذاكرة منطق مختلف يخلّصها من حماقة المعادلات التقليدية المؤسسة على الثنائيات المتضادة الخالدة: الظالم والمظلوم، الجاني والمجني عليه، الطيب والشرير … إلخ .. في هذه الرسالة تجاوز للصراع ليس من أجل التبرؤ من مسؤوليته ولكن لتأمل أسبابه الحقيقية الكامنة فيما هو قدري أو غيبي بالأساس .. كان هناك إقرار بعدم الندم على أفعال تصنّف أخلاقيًا بالسيئة خاصة لو كانت موجهة من الابن إلى الأم، وفي المقابل يجيء إقرار آخر بأن الابن يعتبر ما تم ضده من الأم لم يكن ذنوبًا .. إذن لم تكن هناك إدانة ولا تسامح بل إعلان ببساطة أن الحياة بينهما ـ الأم والابن ـ تستحق مقاربة أخرى مختلفة .. ما حدث لم يكن بسبب أخطاء من أحد بقدر ما كان فشلًا في تحقيق الآمال وبناء بيوت صالحة للسكن المشترك .. الألم كان نتيجة الأمواج التي هدمت البيوت الرملية ذات الأحجام غير الصحيحة، وليس نتيجة رغبة شخص ما في إحداث هذا الألم .. ينبغي ألا نندم لأن الحياة هي التي تجعلنا نفترض صلاحيتنا لها في حين أنها تعلم مسبقًا أن هذا الافتراض ما هو إلا محض أمل خائب .. لماذا يتم هذا الطرح بعد موت الأم؟ .. هل الموت كان ضروريًا لحدوثه؟ .. الموت الذي يُنهي صلة أحد الأطراف بالحرب كي يتمكن الطرف الآخر الذي لا يزال حيًا من التقاط أنفاسه، وإعادة تقييم الموقف من جديد بآليات مختلفة؟ .. هل الموت هو الذي يجعلنا فعلًا نستوعب الآخر ونستوعب معه أنفسنا وعلاقاتنا معه بصدق وأمانة بعدما حررنا موته من ورطة الاشتباك الأعمى التي سجنتنا بداخلها طوال الحياة؟ .. (الاختلاف في استيعاب الأذى) .. ربما هذا ما نطلق عليه نحن ببساطة وتلقائية (الصراع) الذي ليس أكثر من تعارض أفكارنا ومشاعرنا تجاه الألم .. قناعاتنا المتباينة عن الهموم والأحزان التي تصيبنا ونحن معًا .. ليس هذا فحسب بل وأيضًا تعارض أحلامنا بالنجاة .. معتقداتنا المتباينة عن الخلاص .. الخلاص الذي مع كل اختلافاتنا حوله نتفق على كونه غائبًا وبعيدًا .. قد يبدو هناك تساؤل غريب أيضًا: هل هناك رغبة خفية أبعد كنت أريد تحقيقها تتجاوز إعادة تناول الماضي للتخلص من الندم؟ .. ربما كنت أحاول تحرير أمي الميتة أيضًا من هذا الشعور بالندم عبر رسالة حقيقية يُفترض أنها على دراية بها بشكل واقعي وهي داخل العالم الآخر .. أريد أن أخلصها من الألم ذاته الذي أحاول أنا التخلص منه لو كانت مصابة به حقًا وهي ميتة  .. هل هذا جانب من الذنب لا يزال يؤلمني حتى الآن رغم عدم ندمي؟.