الأحد، 8 نوفمبر 2015

فصل من رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون”

يتخيّل حكايات بين الأرستقراطيين، والكهنوت، والعمال في العصور الوسطى مستدعياً “حكايات كانتربري” لـ “جفري تشوسر”.. يقول إنه لا تكفي رواية واحدة، ولا أكثر من رواية لتناول القرون المظلمة.
أعرف أن عملي يقتضي أن أخترق اللاشعور كي أفضح المكبوت الذي يرفض الاعتراف به.. أن أكشف الأسرار التي يخاف من مواجهتها.. أن أصطاد هفوات، وسقطات لسانه، وأن أتوصل إلى معانٍ لها وفقاً للعوامل، والملابسات التي أدت لحدوثها، ودون التقيد بنقاط استدلال ثابتة. هفوات، وسقطات لسانه، أم هفوات، وسقطات أزرار اللاب التي أكتب بها الآن.. لاشعوره هو، أم الأحكام اللاواعية التي تسيّرني، وتحدد قدري.. اعترافاته، أم البوح الثقيل، السخيف، غير المبرر، الذي يجب أن أؤديه كعقاب لا أدري على أي ذنب.. دوافعه البدائية، أم غرائزي الجنسية، والعدوانية.. سعيه للتوازن مع النزوات، أم محاولاتي لترويض الذكريات، وحفظ الذات.. أبوه، وأمه، أم الطبيعة السامية للأوامر، والنواهي التي ورثتها عنهما.. من منا الذي يريد أن يضع “الأنا” مكان “الهو”، ويريد أن يعرف ما الشيء الذي يفكر في داخله، ويوجّه أفكاره، وأفعاله، وتخيلاته اللاهية.. في “خلق الموتى” كانت هناك سردية مضادة عن قتل الإبن استخدمتها لقتل الأب، ثم لإعادتهما إلى الحياة في صورة أخرى.. التخلّص بالدعابة من الأبوة، والبنوة معاً فلا أحد منهما يطيق الآخر، وكلاهما يتبادلان دوريهما، ويتصارعان طوال الوقت.. كأنه وجه آخر ـ هزلي ـ للذنب الأوديبي عند “ديستوفيسكي” في “الإخوة كرامازوف”.. ربما أمي هي التي كتبت “خلق الموتى”، وتكتب الآن “الفشل في النوم مع السيدة نون” بطريقة ما.
لا تحتاج الحروب، خاصة لو كانت ذات دوافع دينية إلى تبرير، أو تجميل، أو إلى استخدام نُبل الغاية، وروعة المقصد، وسمو الهدف في تحسين الصورة، أو تخفيف البشاعة.. يكفي ـ فقط ـ أن يتوقف المتحاربون للحظات قليلة ـ مجرد لحظات قليلة ـ وسط الدماء، والرايات، والرموز العقائدية المرفوعة فوق الجثث.. ينظرون فحسب إلى الغيوم الرمادية البديعة، التي تُغطي الزرقة الباهتة للسماء تدريجياً.. يطيرون بعيونهم نحو آماد الغروب الساحرة، الممتدة بلا آخر، والتي تُحاوط السكون، ونسائمه الملتذة من كل اتجاه.. يتأملون رقة هذا المشهد، ثم يعاودون القتال بعد أن حصلوا ـ عبر تلك اللحظات القليلة ـ على كل الحق في خوضه.
ما الفرق بين أن يكون لك صاحب واحد، أو عشرة، أو مائة، أو ألف.. في النهاية أنت لست صديقاً لأهل الأرض أجمعين ـ وهذه مشكلة كبيرة، ورئيسية ـ ولهذا تحاول دوماً إجبار نفسك على تصديق أن ما بحوزتك من الأصحاب يكفونك تماماً، وأنك لا تحتاج مع وجودهم للمزيد .. يشعرونك أن ما تود الفوز به من مقتنيات الكل قد اجتمع فيهم.. بصرف النظر عن الانتحار الذي تقوم به نتيجة ذلك الإجبار؛ فالعدد ليس مُهماً إذن.. يمكن لصديق واحد أن يؤدي المهمة، مثلما يمكن لعشرة، أو مائة، أو ألف.. أنت وحدك من يجب أن يحدد ما يلزمه من الناس ليشاركك في دراسة النماذج، والأنماط العليا في اللاشعور الجمعي.. الرواسب، والتجارب، والرموز في تاريخ البشرية.. أنت وحدك من يجب أن يحدد من يلزمه من سلالة (كارل يونج) كي تقاتله.
أقتطع جزءاً كبيراً من الجلسة لأشرح له ارتباط الفن بالمعتقد الديني، وبالفلسفة اليونانية في العصور الوسطى، والقصص المسيحية، والأساطير القديمة التي كانت تُرسم على جداريات ضخمة في الكنائس، وعلى أسقف الكاتدرائيات.
الطبقة الوسطى ـ خاصة في السبعينيات، والثمانينيات ـ صانعة المستشرقين، ومومس البلياتشو خائن الأمانة الوظيفية، والمرشدة السياحية لكل من فقأ عينيه بإصبعه .. ها أنا أُعمم كإبنٍ بار من أبنائها الذين اشتروا العدد 928 من مجلة “ميكي” بتاريخ 1 فبراير 1979 عن “الفضاء”، وحلموا بامتلاك الحذاء السحري الذي اخترعه “عبقرينو” كي يقطعوا 7 أميال بخطوة واحدة، والآن يحكمون العالم.
هل لديك الشجاعة لإيقاف الأمر الآن، والقبول بنزالٍ شريفٍ نخوضه كقوتين متساويتين، أم أنك لازلت مستمتعاً بجُبنك، وخِستك الحقيرة التي وسعت كل شيء؟.. نعم.. أحياناً أفترض أن هناك من تصله تلك الرسائل.
أعترف أنني تعمدت التخفيف بقدر الاستطاعة مما يُمكن أن يُعد بذاءة في لغة هذه الرواية، وذلك لترويض ما أقدر عليه من النفور الأخلاقي لدى نوعية معينة من القراء، والذي قد يُفسد علاقتهم بالرواية فينفصلون عنها كلياً.. يبدو ما أكتبه الآن مضحكاً لي جداً.. أعترف أنني حاولت ذلك أيضاً لإزالة العوائق المحتملة التي قد تمنع بعض دور النشر من نشرها، والتي قد تقف أيضاً عند فئة من محكّمي المسابقات ضد حصولها على جائزة.. ها قد وصل الضحك الآن إلى حالة مشابهة لتلك التي يُسببها لي فيلم (لا تراجع، ولا استسلام ” القبضة الدامية “).
وسيقتطعون فقرات من الرواية، وينتزعونها من سياق السرد كي يحاولوا استعادة كرامتهم، أو ليحصلوا على كرامة جاهزة مجاناً لكن هيهات!.
قلت له إن أختي التي فقدت أسرتها واحداً تلو الآخر بالتزامن مع تحوّلها من القنوات الإسلامية إلى الدراما التركية ثم الاستقرار حالياً على السينما الهندية كانت تحتاج بالفعل لأن أعطي لها ملحمة “مهابهاراتا” لتتمكن من فهم العقيدة الهندوسية التي تطاردها في الأفلام.. بالتأكيد ذهنها لن يقبل حتى مجرد التصور بأن الإله يتجسد في هيئة ما، وأن أرواح الموتى يُعاد بعثها في أشكال حياة مختلفة، وأنني أبكي كل ليلة ـ دون أن يعرف أحد ـ على كل ما جرى لنا.

الاثنين، 2 نوفمبر 2015

الأرشيف السري للجحيم

مع كل مشاهدة لفيلم (Hitomi Tanaka In The Bus) أفكر في أن هذا الباص الذي أقام ركابه حفلاً على جسد أيقونة البورنو اليابانية صاحبة الثديين الأسطوريين ينقصه ذلك الرجل المتظاهر بالنوم، الشائع وجوده في أفلام البورنو التي يتم تصويرها داخل الحافلات وخاصة الأفلام اليابانية .. دائماً أشعر بأن كائناً خارقاً كـ (Hitomi Tanaka) يحتاج وجود ذلك الرجل برأسه المستند على زجاج النافذة، وعينيه المغمضتين، وملامحه المرتخية أكثر مما تحتاجه ولائم أقل حناناً وفخامة يتم التهامها في أفلام أخرى .. نوم الرجل في مقابل هذا الجسد المرعب، والذي سيغادر الحافلة غارقاً في لزوجة المطر الأبيض، المنهمر من فوهات عديدة، ربما كان بوسعه أن يعمّق من وحشية المفارقة على نحو يتجاوز المتعة الخبيثة الناجمة عن بقاء بعض الركاب مستيقظين في أماكنهم، دون مساهمة في تزويد كمية المطر .. كانت ((Hitomi ترتدي في الفيلم بدلة كاراتيه، ولم يكن هذا أكثر ما يليق عندي مما كان يجب أن تضعه على جسمها وهي تصعد إلى الباص .. كان الأشرس بالنسبة لي ـ حتى يصل الفيلم إلى ذروته الإجرامية ـ أن ترتدي المعطف الأسود الذي كانت تلبسه على اللحم في فيلم آخر دارت أحداثه داخل متجر كبير .. ربما يفسر المقال الأول من (مكائد القص)، والذي كان بعنوان (الكولاج اللازمني) لماذا استدعيت في قصتي القصيرة (Hitomi Tanaka In The Bus) الرجل المتظاهر بالنوم إلى الفيلم، ولماذا جعلت (Hitomi Tanaka) تستبدل بدلة الكاراتيه بالمعطف الأسود.
يمكن أن تُخلق القصص القصيرة بواسطة استفهامات من هذا النوع: ما الذي قاله مخرج الفيلم للرجل المتظاهر بالنوم قبل التصوير؟ .. كيف تجهّز ذهنياً ونفسياً للحفاظ على غياب العلاقة ـ الذي يجب أن يبدو متماسكاً للمشاهدين ـ بينه وما سيفعله الركاب الآخرون بالسيدة (Hitomi Tanaka)؟ .. بماذا شعر وهو يتأمل الأيقونة التي ترتدي البالطو الأسود، بلا شيء تحته، قبل صعودها إلى الحافلة؟ .. في ماذا كان يفكر لحظة إسناد رأسه على زجاج النافذة، وإغلاق عينيه عند بدء التصوير؟ .. ماذا كانت انفعالاته في اللحظات الأولى، خاصة لو لم يسبق له أن أدى دوراً كهذا؟ .. ما الذي كان يمر في عقله من أفكار وتخيلات مع سماعه لأصوات الحفل الذي حُرم حتى من رؤيته؟ .. كيف استطاع أن يكتم هياجه، ويمنع حدته من التصاعد كي لا تتحول إلى أثر مرئي فاضح، يتسبب في إفساد مشهد فائض بالقسوة؟ .. ماذا لو كنت مكان هذا الرجل؟.
فكرت في الأمر على النحو التالي: هذا الرجل يحتاج إلى تخيّل كارثة؛ إذ ربما الاستغراق الذهني في تكوين المصائب هو أكثر ما يمكنه إقامة جدار عازل بين الجسد المحترق داخل ظلامه المقصي، وبين الكرنفال الشبقي المحتدم على بُعد خطوات منه .. لكن تخيّل الكارثة لا يمكنه إزاحة الشعور العنيف بالإذلال نتيجة طرده خارج الحفل، بل على العكس يمكن لهذا الشعور أن يكتسب مزيداً من الجموح مع الاستمرار في مقاومته بالتزامن مع زيادة الفوران الجماعي المسموع للمتعة المهيبة التي لم يُسمح له بأخذ نصيب من كرمها الهائل .. كان ينبغي إذن ابتكار حالة من التوحد بين المصيبة التي سيتم تكوينها، والغضب .. بين الكارثة المتخيلة، والرغبة في الانتقام .. لم يكن من الواجب الكشف عن هذا التوحد .. كان يكفي خلق الحالة لتتكفل دون إفصاح بتثبيت أمنيته في شفي الغليل .. حسناً .. بما أننا في اليابان، سأقود هذا الباص للتحرك في شوارع (طوكيو)، وسأدفعه لمغادرتها نحو طريق جبلي، وسأجعل عجلاته تخرج فجأة من حافة هذا الطريق ويسقط .. سيرى المتظاهر بالنوم في مخيلته (سقوط الباص من الارتفاع القاتل بالعرض البطيء جداً، وهو يتقلّب في الفراغ ثم يرتطم بالأرض محطماً تماماً بينما أشلاء الجثث تتدلى من نوافذه المهشمة) .. حتى الآن لم تبدأ القصة بعد، إلا لو كانت رغبتي الكتابية تتوقف عند حد إنتاج موقف سردي تقليدي مشيّد على المواجهة الصدئة بين العجوزين المنهكين: العذاب والعقاب .. لكن القصة ستبدأ مع سطوع حقيقتين أساسيتين في هذه اللحظة: الحقيقة الأولى أن هذا كان انتقام الرجل المتظاهر بالنوم وليس انتقامي؛ فأنا في الواقع لست هذا الرجل، ولو ظلت القصة خاضعة حتى النهاية لتقمص وضعيته لتم اعتبار مشهد سقوط الحافلة، وما سيعقبه من مشاهد مجرد نهاية عادية .. منطقية .. متوقعة، وهذا ما لا يمكن أن يكون .. الحقيقة الثانية أن المتظاهر بالنوم أحد ركاب الباص الذي سيسقط، لذا كان حتمياً على خياله أن يخترع طريقة لإنقاذ حياته من هذه المصيبة الذهنية.
الآن أنا كاتب القصة الذي يريد الانتقام، وليس الرجل المتظاهر بالنوم في الفيلم، لذا سأعود لأرشيفي السري الخاص، المدوّن به كل كائنات وأحداث الماضي التي قررت الأخذ بالثأر منها .. كان مقنعاُ بالنسبة لي أن الانتقام من سلطة بعض دور النشر التي تحتل الصدارة في (الحياة الثقافية المصرية) هو أكثر ما يناسب هذه القصة .. في نفس الوقت لم أعثر حقاً ـ من خلال الرجل المتظاهر بالنوم ـ على وسيلة للنجاة من الكارثة .. لا يمكن للرجل مغادرة الحافلة فهو يريد أن يبقى، رغم حقارة انفصاله عن سحر غامر يجاوره بمهانة نادرة، حتى أنه من الوارد جداً أن يستند أحد الركاب من أصحاب الحظ العظيم على جسد المتظاهر بالنوم أو يلامسه أثناء فناء ذلك الراكب في نعيم السيدة (Hitomi) الذي لا يُصدَّق .. بدت كل الحجج القهرية الطارئة التي يمكن أن تنقذه من السيناريو الانتقامي الذي تخيله مفتعلة .. غير مقنعة .. مساراتها تؤدي بالقصة نحو نهايات عقيمة .. لم تكن هناك أعذاراً مفاجئة حقاً تتسم بالمعقولية تجبره على مغادرة الباص قبل سقوطه، أو أن تختصه معجزة ما لتحميه بمفرده من الموت عند السقوط .. كان على المصيبة الذهنية أن تحافظ على ترتيبها المنطقي طوال الوقت، كي لا تفقد بشاعتها الرهبة الواقعية التي يتطلبها هذا الاحتياج الذي لا يُحتمل للانتقام .. لم تكن هناك بالنسبة لي قوة في العالم تضطره إلى ترك الحافلة أو فتح عينيه أو إلى تخيّل كارثة أخرى تضمن نجاته .. لكن ربما لم يكن هذا في الحقيقة سوى يقين شكلي كنت في حاجة إليه كي أمتلك البرهان الذي سيدفعني نحو الوصول بالمتظاهر بالنوم إلى مرحلة الرعب الذي يلزم انتقامي ككاتب .. كنت أثناء العمل أريده أن يبلغ التأكد المحسوم، النقي من الشكوك بأنه سيموت حتماً مع كل ركاب الحافلة داخل هذا السيناريو الذهني .. كنت في حاجة إلى أن يتحوّل المتخيّل إلى واقعي، بحيث يشعر المتظاهر بالنوم فعلاُ بالهلع إثر تصديق الانتقال المحتمل للتصورات المفزعة من عقله إلى حيز التنفيذ .. جاءت الآن لحظة انتقامي، وسأجعلها انتهاكاً ساخراً يتهكم على الوجاهة الاستعلائية الطاغية لبعض دور النشر: (أفزعه هذا الاحتمال جدا لأنه يعرف أنه لا يجب أن يموت الآن .. كان يتساءل في داخله بمنتهى الرعب: كيف يموت وهو لم يصدر بعد كتابا عن دار الشروق أو حتى دار ميريت أو على الأقل دار العين ؟ .. بفعل قسوة الخاطر البشع شعر بقلبه يدق بسرعة، وبأطرافه ترتعش كما تسببت دوخة مباغتة في فقدان رأسه لاتزانها).
لنفترض: ماذا لو كان المتظاهر بالنوم قد نجح في التوصّل إلى حيلة إنقاذية لحياته من المصيبة المتخيلة قبل هذه اللحظة من المونولوج الداخلي؟ .. ماذا لو نجح في ابتكار حل فانتازي لا يعطيه النجاة فحسب، بل ويهدي إليه جسد (Hitomi Tanaka) ليحتفل به وحده قبل هذه اللحظة من المونولوج الداخلي مثلما جاء مشهد النهاية: (بشكل لاإرادي فتح عينيه فتحة صغيرة جدا ليتأكد من أن أحدا لم ينتبه إلى حالته العصبية التي حاول بقدر ما يستطيع إخفاءها .. رأى ما جعله يفتح عينيه بما يفوق اتساعهما .. كان لا يزال جالسا على كرسي الباص، ولكن الكرسي كان موجودا على أرض عشبية شاسعة تحاوطها جبال عالية جدا بينما الباص أمامه مقلوب على ظهره مدمرا بالكامل، وكتل بشرية ممزقة محشورة في ثقوبه .. رأى السيدة Hitomi Tanaka  تقف بجوار الباص تنشف جسمها العاري من لبن الأطفال ثم تسير نحوه مبتسمة، وتنزل بركبتيها على الأرض بين فخذيه(؟ .. ماذا لو لم يكن في القصة هذا المونولج الداخلي الذي يوثّق شعور رجل ياباني يتظاهر بالنوم داخل حافلة في فيلم بورنو لـ(Hitomi Tanaka) بالرعب من الموت قبل أن يصدر كتاباً عن دار الشروق أو دار ميريت أو دار العين؟ .. حدوث هذه الافتراضات لم يكن يعني سوى عدم وجود قصة، أو بشكل أدق غياب القصة التي أريدها.
جميع الاستدعاءات، وكافة التدابير كانت لخدمة هذا المونولوج الداخلي تحديداً منذ البداية: إدخال الرجل المتظاهر بالنوم إلى الفيلم .. تفحص الاستفهامات المتعلقة بطبيعة وجوده .. خلق رغبته في الأخذ بالثأر .. تقمّص شخصيته .. وضع انتقامي بدلاً من انتقامه .. تخيّل كارثة ذهنية .. تأجيل الحيلة الفانتازية المنقذة إلى النهاية أي إلى ما بعد الأخذ بثأري.
المشهد الختامي للقصة لم يكن مجرد تخليص وهمي للرجل المتظاهر بالنوم من السيناريو المتخيّل، أو تعويض من حلم يقظة يحقق رغبتنا المشتركة في (Hitomi)، وإنما كان ـ على نحو أبعد ـ تمازجاً بين انتقامين منجزين: انتقامي الشخصي، وانتقام الرجل المتظاهر بالنوم .. مشهد النهاية وهو يعطي النجاة للرجل الياباني، ويهديه جسد (Hitomi) يخبرك أيضاً بأنك حينما تكون كاتباً مصرياً، يعيش في مصر، وخاصة لو كنت مقيماً خارج المركز القاهري، فإن هذا ربما يعني ـ من ضمن ما يعني ـ أن تعريف (الحياة الثقافية المصرية) بالنسبة لك قد يشبه أن تتظاهر بالنوم، أثناء حفل سكس جماعي يقيمه الآخرون على جسد امرأة جميلة داخل باص يستحق السقوط من فوق طريق جبلي.
ليكن لديك (أرشيف الجحيم) السري، الخاص بك .. كائنات وأحداث الماضي التي ينبغي أن تأخذ ثأرك منها بالكتابة .. لا يتحقق الانتقام بإنجازه، بل بكيفية إنجازه، لذا عليك أن تصيب الهدف من آخر مكان يمكن أن يتوقع أحد اختبائك في ظلامه.

موقع (قُل)
17 / 10 / 2015

الأحد، 1 نوفمبر 2015

عطارد‮:‬ رسول النهايات السعيدة

(لم أعلم أبداً لم كنت واثقاً إلي هذا الحد أني سأقتلهم قريباً، وأني سوف أغيّر مصيرهم إلي مصير أفضل ولو كان موتاً. ثم رأيت أني سأقتل الكثيرين، وأن عدداً هائلاً من الناس سيُقتلون لكني لن أشترك في قتلهم، ورأيت أن الناس ستقتل أبناءها وستأكل لحومهم، ورأيت أن الرجل القاعد يأكل الطعام ويتفرّج علي التلفزيون قد حطم آخر الأختام وأطلق العنان لكل ما سيحدث).
يقدم (محمد ربيع) اقتراحاً ـ شكلياً ـ للبنية السردية التي تقوم علي إحالاتها روايته (عُطارد) الصادرة عن (دار التنوير) .. هذا الاقتراح يفترض مراقبة القاريء من داخل لحظته الحاضرة (ما بعد يناير 2011) لواقع مستقبلي (احتلال الجيشين الرابع والخامس من "فرسان مالطا" لمصر عام 2023) تم تأسيسه في الماضي (يناير 2011) .. لكن هذا الاقتراح لم يكن سوي مستوي ظاهري من اللعبة الجمالية التي خلقها (محمد ربيع)؛ فالرواية لا تتوقف طوال الوقت عن إعطاء البراهين المؤكدة بأن الواقع القرائي (الذي يمثل اللحظة الحاضرة كفاصل وهمي بين زمنين سرديين) هو في حقيقته وجود يحكمه التطابق بين الماضي والمستقبل .. تلاحم بين (الارتداد) و(الاستباق).
(المقاومة مكوّنة من ضبّاط شرطة سابقين فقط، هناك عددٌ قليلٌ جدا من ضباط الجيش، وهؤلاء لا يطَّلعون علي كلّ شيء ويُعتبرون أعضاءً من الدرجة الثانية، ولا يتمُّ تكليفُهم إلا بالمَهمّات الانتحارية أو الخَطِرة جدًّا. هناك أيضًا عددٌ أقلُّ من المواطنين العاديّين، تدفعهم الحماسةُ الوطنية إلي ارتكاب أفعالٍ حمقاءَ لكنَّها فعَّالة، راغبين في التخلُّص من الاحتلال. وهؤلاء لم يقوموا إلَّا بعمليات التجسُّس، ونقلِ المعلومات، لا يعرفون أعضاء المقاومة من ضبّاط الشرطة، لا يعرفون أسماءَ القادة أو أماكن الاجتماعات، لا يحملون سلاحًا، ومن يرغب في التطوُّع منهم، فكلّ ما يُقدّم له سلاحٌ أبيضُ وعليه التعامل به مع العدوّ المحتلّ. كانت المقاومة المصرية، بشكلها هذا، جنَّتَنا؛ نموذج مثاليّ لذكاء جهاز الشرطة المصري وتفاني رجاله في خدمة الوطن، وحرصهم علي عدم إدخال أيّ غريب وسطهم، حتّي لو كان وطنيًّا حقًّا وكارهًا الاحتلالَ، كالمواطنين العاديّين. كلُّنا كنَّا نعرفُ أسبابَ انفرادِنا بالمواقع المهمّة في المقاومة، وهي عديدة لا يمكن حصرُها؛ علي سبيل المثال لأنّ المواطنين ضعفاءُ في الأصل، ينحازون إلي أُسرِهم الصغيرة، ومُتعِهم التافهة، هم غيرُ مُدرَّبين علي استخدام السلاح أو علي العمل في مجموعات أو تحمّل المسئولية، وحتّي لو كان المواطن مدرَّبًا علي كلّ ما سبق، كضبَّاط الجيش مثلًا، فسينقصه حتمًا القدرةُ علي التصرُّف في الأوقات الحرجة. قال كريم إنّ ضبّاط الجيش السابقين اكتسبوا جرأةً انتحارية لا حدودَ لها، وقال إنّ تلك الجرأة سببُها هزيمتُهم المُنكَرة، ورغبتُهم في التكفير عن خطيئتهم في حقّ البلد، قال إنّ عذابَهم مقيمٌ ودائم، وهم علي الاستعداد للانتحار ببساطة من أجل جرح أحد جنود الاحتلال. كان هذا مناسبًا جدًّا، وفكَّرتُ أنّنا مع زوال الاحتلال، ولا أعلم متي سيحدثُ هذا، سنكون قد تخلَّصنا من رجال الجيش السابقين تمامًا، في النهاية، مَن يرغب في سيطرة الجيش مرَّة أخري علي البلاد؟).
لا تعتمد الرواية إذن علي التأثيرات التي يمكن أن تنتج عن المفارقات الزمنية الكامنة في التفاوت بين لحظات السرد (كما أشار "جيرار جينيت" في تقسيمه لأنماط الاسترجاع)، وإنما تراهن علي تحويل السرد إلي خطاب كاشف، حقل ملهِم من الفرص القوية والاحتمالات الواعدة بحصول الوعي علي ما هو ماثل فعلاً دون احتياج لاستعمالات متعسفة لحيل التناقض .. كأن (محمد ربيع) استطاع بهذه الكيفية أن يقلب (حبكة القدر) لتعمل بطريقة عكسية؛ فالمستقبل في (عُطارد) أمكن استخدامه ـ ضمنياً ـ كملخص استشرافي للحاضر، أو شارح متوقِع لتفاصيل الخراب الحالي، وفي نفس الوقت ظل ملتزماً بوظيفته الأصلية وفقا لـ (تزفيتان تودوروف) كمختزل مُنبِيء ـ لا يتسم بالغموض ـ للزمن الذي سيكون مستقبلاً امتدادياً له .. إذا كان التطابق بين الماضي والمستقبل هو المحرّك لخيوط هذه اللعبة الجمالية، فهو أيضاً يستبعد المحو كإجراء مقترن بالتثبيت .. ليست هناك ممارسة استعارية، أو أداء تمثيلي، بل إدعاء شكلي  الحياة والقيامة والجنة والعذاب والجحيم ـ لإعادة تركيب العالم .. هذا ما جعل الرواية تبدو كأرض صلبة، متخلصة من الأصداء اللامكشوفة، التي بوسعها تحريض السرد علي مفارقة الركائز الجوهرية لصالح تفتيته .. الابتعاد الخفي عن أصواته المستقرة إلي اتجاهات متناثرة تحوّله من متن راسخ إلي هوامش متشظية يقودها العدم .. إن (عُطارد) تختبر القدرة علي تحرير المشهد المتواصل عبر الزمن من القمع للوصول إلي تعارف أوثق بتفاصيله القهرية أكثر من كونها تجرب تفكيكه، وإعادة بناء أنقاضه .. المشهد الذي يبدو ـ كما هو، ومع امتلاك حدة البصر المناسبة ـ أكثر كابوسية مما يمكن أن يسفر عنه تذويبه واختراعه بشكل مغاير.
(أحاطت الكلاب بالأجساد الثلاثة، انتشرت روائح عديدة حادة، لم تكن الكلاب في حاجة لتشمم الأجساد الملقاة علي الأرض، أثارت الرائحة الكلاب فأخذت تدور في الكشك الضيق هائجة متحيرة؛ رائحة غضب، رائحة دم كثيف، رائحة مني رجل يخطو نحو الموت، ورائحة بالغة القوة لخراء فتاة تُغتصب، تبرزت عمداً كي تُفلت. ورائحة شعور شمتها الكلاب لأول مرة، هذا شعور أقوي من الفزع، هذا شعور يوقف القلوب ويشلها. نبحت الكلاب: "هذا ميت ... هذا ميت ... هناك طفلة ... ميتة أيضاً ... طفلة ماتت ... يجب دفنهما).
يحمل (أحمد عطارد) اسم رسول الآلهة عند الرومان .. الطفل المدلل لدي الشمس، والذي لقربه منها يوصّل الرسائل بالسرعة والاتقان اللازمين ـ أتذكر الآن قصة (عُطارد) لـ (د. هـ. لورنس) والتي تُجسّد الجحيم الجليدي المؤقت الذي نزل بالأرض كتحذير جاء به الإله (عطارد) ـ وهكذا كان هذا الدال الميثولوجي ملائماً للمهمة التي تكفل ضابط الشرطة (أحمد عطارد) بتنفيذها وهي قتل البشر لتخليصهم من الجحيم وإرسالهم إلي الجنة .. هذه المهمة كانت ناجمة عن إدراك ذاتي لما سيتم اعتباره حقيقة كونية .. من يمكنه الجزم بعدم وجود عقيدة حاسمة، أو يقين لا يقبل الشك مثل ذلك القانون الذي عرفه (أحمد عطارد)، ويقف وراء القنص والتعذيب حتي الموت والاختفاء القسري داخل مقابر جماعية، أي وراء الحاضر الذي تستشرفه (كوضع مستقبلي) رواية (عُطارد)؟ .. من يضمن عدم تحوّل هذه العقيدة إلي هوس جماعي (سواء كصورة مطابقة أو كحالة مشابهة)، أو تحقق هذا الهوس بالفعل كتفسير لشيوع القتل التلقائي، غير المتطلب لتبرير عشوائيته؟ .. قتل (أحمد عطارد) للناس ليس فانتازيا، وإنما مساعدة سردية لامتلاك حدة البصر المناسبة كي يمكن رؤية ما هو ماثل فعلاً .. كأن (عٌطارد) نسخة مصرية مقاربة لـ The Walking Dead، وهو ما يدعمه (فقدان الحواس) أكثر من التنويعات المشهدية للقتل والاغتصاب مثلاً.
"هذا جحيمكم. لا يزال طويلاً. سنوات كثيرة قادمة أكثر هولاً مما رأيتم. وينتهي جحيم ليتلوه جحيم كما سبقه جحيم. وتمر عليكم بعدي سبع سنوات مظلمات يموت فيها كل شيء وأنتم تنظرون. وثم تجوعون فتأكلون جيف الكلاب. ثم تموتون فتأكلون جثامينكم. ثم تيأسون فتأكلون أبناءكم. ويوضع الأمل في قلوبكم. ولا أمل. فالأمل عذابكم".
فكرت كثيراً في الماضي  وربما مازلت أفعل ـ في هذا الهاجس: أعيش الآن مرحلة ما بعد الموت الذي لم أشعر به .. جسدي الحالي هو نسخة لا تعرف شيئاً عن فناء الأصل .. نحن في الجحيم فعلاً، وربما الموت هو انتقال أبدي إلي نسخ أخري من الجحيم .. ما يمكن أن ينقذك من رعب هذا الهاجس هو الأمل في لحظة قادمة، مجهولة، وقد تكون غاية في القرب، يتم التأكد خلالها من أنه كان تصوراً خاطئاً .. الأمل هو الاستمرار في الانتظار، أي عدم مقاومة العذاب ـ رغم أن مقاومته ستنتقل بك إلي خانة أخري وحسب ـ وهذا هو الجحيم الذي يتخطي (مصر) حتماً .. إن ما قد يعد تساؤلاً مستحقاً للتأمل هو ما يكمن في الملاحظة العابرة التي أشرت إليها سابقاً: (هذه المهمة كانت ناجمة عن إدراك ذاتي لما سيتم اعتباره حقيقة كونية) .. هل هو إدراك ذاتي حقاً، أم ضرورة يفرضها الجحيم، ليس من الوارد تفادي الخضوع لها؟ .. مشيئة إجبارية خادعة، تدفعك لتصديق أنها ناتجة عن اختيار في حين أنها قرار قبلي يستعمل الأجساد؟ .. (عُطارد) رسول مَن حقيقةً؟ .. إن الجنة قد تعني  مثلما فعل (ربيع) في روايته ـ محاولة أن تتسلي سردياً بالعذاب بقدر ما تستطيع.
أخبار الأدب
31 / 10 / 2015