الاثنين، 28 سبتمبر 2020

سيرة الاختباء (21)

يستقر في عمق حسرتي الجحيمية تجاه أسرتي الميتة ذلك القهر الناجم عن انتهاء أعمارهم من قبل أن يكتب أي منهم شيئًا عن حياته .. الكتابة التي تمرر للعالم ما لم يعرفه أحد عنه، وما لم يكن يستطيع أن يبوح به إلا بتلك الطريقة .. لكن ماذا لو كان هذا قد حدث؟ .. لا يمكنني التفكير سوى في أن هذا كان سيؤدي بلا شك إلى تدمير وجودنا "الشكلي" كأسرة تعيش في بيت واحد، بعد أن عاشت حياة مزقت أرواحها بالفعل .. نعم، كانت هذه ستكون النتيجة الحتمية لو كان كل منهم كاتبًا حتى لو بذل أقصى محاولاته لجعل صدقه أقل حدة، أو أكثر تسامحًا .. كانت الكتابة ستكون بديلًا للأسرة، وكنا سنكون في أمسّ الحاجة للتحوّل إلى مخلوقات فضائية تسكن كواكبًا متباعدة، وتتواصل فقط عن طريق تبادل الرسائل كما كتبت من قبل .. لم يكن أمام كل منا حينئذ إلا أن ينعزل تمامًا عن الآخر .. "طالما ستكتب فهذا يعني أن تومّن بقدر ما تستطيع مخبأك الخاص" كانت هذه هي الحكمة المقدسة التي سيجدر تأطيرها فوق حائط بغرفة المعيشة.

لم أكن لأنزعج من أن يكون أي منهم كاتبًا باعتبار أن "الكتابة موضوعي أنا" مثلما شعر الروائي الأمريكي "روبرت أنطوني سيغل" تجاه أمه التي كانت تدرس في ورشته الإبداعية بأيوا، ولم يكن لينتابني إحساس بالألم أو رغبة في العثور على منطق ترويضي مخبوء لو قام أحدهم بمحو "الأسرة" في روايته كي يعيش حياة أخرى كما وصف "سيغل" مشاعره تجاه مخطوط أمه، بل على العكس فإنني أفكر الآن في أن الجلسة الوحيدة التي قرأت خلالها محاولة قصصية لي أمام أسرتي وأنا مازلت طالبًا في المرحلة الإعدادية كانت تستهدف من ضمن أغراضها تحريضًا خفيًا على أن يكتب كل منهم قصة قصيرة مثلي .. أعتقد أيضًا أنني كنت سأختبر سعادة استثنائية لا تصدق لو كنت قد مرّنت أمي على نفس النصيحة التي وجّهها "روبرت أنطوني سيغل" لأمه، ومثلما أفعل مع طلاب ورشتي القصصية حول أولوية التفكير في "الفعل" عن "الوصف" .. لكن ما لا أثق به مطلقًا أن وجودنا معًا سيظل صامدًا لو كانت كتابة أمي عني أنا .. أن تفعل بي ما أفعله بها .. كنت سأكون فرحًا من أجلها بالفعل، ولكنني لن أضمن في الوقت ذاته أن أحتفظ بقدرتي ـ الهشة أساسًا ـ على النظر في عينيها.

كل ما أكتبه عن أسرتي الميتة هو محاولة لأن يكون بديلًا لما لم يكتبوه، ولكنه لن يكون تعويضًا له بالتأكيد .. لا يستطيع أثر أن يحل مكان آخر .. لا يمكن أن يقول أحدهم عن شخص ما بأنه لم يكن فقط أبًا أو أمًا أو أخًا أو أختًا أو جدة، بل كان يتعيّن على ذلك الشخص أن يقول هذا بنفسه.

موقع "الكتابة" ـ 27 سبتمبر 2020

السبت، 26 سبتمبر 2020

"مكان في الزمن" في مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي

فيلم "مكان في الزمن" إخراج: نواف الجناحي عن قصة لـ "ممدوح رزق" يُعرض في الدورة 56 من مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي / أكتوبر 2020.

الأربعاء، 23 سبتمبر 2020

أشباح فيلا “غيث”

هل تسللت أنت وأصدقاؤك ذات ليلة شتوية ممطرة إلى فيلا "غيث"؟ .. هل كان قراركم باكتشاف الأقاويل المخيفة المهترئة والمتداولة عن تلك الفيلا نتيجة غير متوقعة لجلسة تحسين مزاج روتينية، بلغت ذروة جامحة في فندق مارشال المحطة أو القاهرة أو مكة أو كليوباترا أو مقهى معروف أو اللبن؟ .. هل اكتشف كل منكم أنه بمفرده بعد اختفاء الآخرين من حوله بمجرد أن أصبحتم في ظلام الداخل؟ .. هل رأيت جثثًا عارية تنهض في صمت من تحت الأرض بجروح مفتوحة، وكدمات غائرة، وابتسامات متوعّدة ثم تتضاجع وهي تحدق في عينيك الغائمتين كأنما تفعل هذا من أجلك؟ .. هل رأيت طيورًا ضخمة بوجوه عجائز ضاحكات ذات شعور بيضاء طويلة، وأجنحة سوداء عريضة، تتنقل بين الأشجار، وتحوم داخل الغيوم الرمادية الداكنة ثم تختفي فجأة؟ .. هل كانت هناك أثداء ومؤخرات وأفخاذ فخمة، لميلفات أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات تتدلى من الأسقف كزينة عيد الميلاد؟ .. هل رأيتنا: والداك وإخوتك نجلس فوق أريكة في سكون كتماثيل تجمدت غفلتها وهي تتبادل حديثًا عاديًا، بينما يبرز من فم كل منها فرع ممزق من الريحان الذي زرعته في بلكونة البيت؟ .. هل فكرت في أنك لو حاولت أن تلمس أيًا من تلك التماثيل لتتأكد من وجود حياة بداخله فإنه سيتهاوى مفتتًا إلى أجزاء صغيرة؟ .. هل رأيت عيون كائنات تتلفّت في براويزها المعلقة تحت شحوب إضاءة صفراء لا تعرف مصدرها، حيث صور لمن تعتقد أنهم أجداد المدينة المجهولين، ولوحات لأساطيرها القديمة المتوارية؟.. هل فتحت إحدى الحجرات فوجدت غرفتك التي تركتها في المنزل هناك بكل ما فيها عدا أنه لم يكن يضيء ظلامها سوى شموع متراصة حول مقعد فارغ أمام مرآة كبيرة كأنك أنت الذي تجلس فوقه، ولكنك لا تستطيع أن ترى نفسك؟ .. هل سمعت خطوات ثقيلة وغامضة، وذات صدى مروّع تتحرّك في كل مكان؟ .. هل رأيت أطفالًا بأعمار مختلفة يرتدون ملابس نوم ثقيلة، ومع ذلك يرتجفون من البرد، وبلا رؤوس؟ .. هل سمعت ما يشبه تراتيلًا دينية صاخبة غير مفهومة تتدافع من وراء الجدران كأنها آتية من أزمنة بعيدة لبشر بلا عدد، يقرأون من نفس الكتاب، ذي اللغة المبهمة، وبصورة توحي بأن تلك التراتيل تنبعث من داخلك؟ .. هل سمعت صرخات أطفال، متفاوتة النبرات في خلفية التراتيل؟ .. هل فكرت في أنها ربما تكون صرخات الأطفال الذين بلا رؤوس؟ .. هل شعرت بأن جسدك المرتعش يتمدد في الفراغ لدرجة جعلتك عاجزًا عن تعيين حدوده، كأنه على وشك الانفجار، والتحوّل إلى أشلاء متفرقة؟ .. هل رأيت موجات من الدماء القانية تجتاح السلالم، وتغمر كل بقعة تخطو فوقها؟ .. هل رأيت ساعة أثرية هائلة، بلا عقارب، وتوجد جمجة واحدة كبيرة في موضع كل رقم منها، ولها بندول طويل في نهايته قلب بشري ينبض، بينما يروح ويجيء بدقات لها صوت قضم أسنان قوية وحادة لعظام هشة؟ .. هل رأيت ظلالًا بشرية تترنّح مشتعلة في كل اتجاه بنيران متأججة كأنها أجساد حقيقية تتنقل في مساراتها المألوفة على نحو رتيب؟ .. هل كانت تختلط رائحة احتراقهم بعطر الريحان الممزق في أفواهنا؟ .. هل كانت مقابض الأبواب كأنصال تلتصق باليد لحظة فتحها ثم تحررك فتشعر كأن ملايين الشفرات الضئيلة تدفقت وراء جلدك؟ .. هل كانت الستائر المتطايرة بفعل رياح النيل تتشكل تجعداتها طوال الوقت على هيئة ملامحك؟ .. هل كانت ثمة شبابيك مواربة يستقر وراءها ضوء ضبابي أزرق تتطوح داخله عيون مفتوحة بيضاء بلا حدقات، كأنها لغرقى سريين في عمق النهر منذ آماد سحيقة؟ .. هل كانت نقوش الجدران عروقًا بشرية نافرة؟ .. هل كانت هناك ألسنة بشرية هائلة بشعر غزير منتصب كالشوك تخترق شقوق البلاط بكيفية مباغتة وتتبادل اللعق؟ .. هل شعرت بأن التفكير بضمير المتكلم عبء سادي وأنه أكثر الأمور افتقارًا للمنطق؟ .. هل خرجت وحدك دون أن تعثر على بقية أصدقائك مثلما فعل كل منهم حين غادر الفيلا؟ .. هل عدت إلى البيت ـ مثلهم ـ بنسيان تام لما حدث، كأنك لم تفعل أكثر من ترك الفندق أو المقهى ثم العودة إلى حجرتك؟.

جزء من رواية "نصفي حجر" ـ قيد الكتابة.

السبت، 19 سبتمبر 2020

كيف خلقت الموتى (2 ـ 3)

كنت أعمل بصورة مؤقتة محررًا عامًا، وبتحريض فاتن من فيلم shattered glass فكرت في كتابة موضوع مختلق للجريدة ـ لا تنقصه بالطبع الحصانة اللازمة من الشكوك ـ عن عجوز تجاوز السبعين، يعيش وحيدًا، تعلم في سنواته الأخيرة القرصنة الإلكترونية، يقرر السطو على أحد منتديات مدينته على الإنترنت كي ينشر من خلاله ذكرياته عنها، ضمن تاريخه الشخصي والعائلي المرصّع بالأكاذيب الانتقامية، والتي تضمن في الوقت نفسه أن يحتفظ ذلك الماضي بقدرته الاستحواذية على اهتمام زوّار المنتدى بعد الاستيلاء عليه .. وكما هو متوقع بشكل خفي؛ تبدّل صوت الفكرة بداخلي ليصبح همسًا مغويًا لرواية تريد التكوّن؛ فبدا كأنها تخاطبني مثل ضوء سحري مفاجئ: هذا العجوز ليس إلا أباك، أي أنه أنت .. اكتشفت حينئذ أن الفكرة في البداية كانت حلمًا متنكرًا لي بأبي .. بنفسي حين يكون كل منا الآخر، أو كما كتبت بعد ذلك في "الفشل في النوم مع السيدة نون": "في (خلق الموتى) كانت هناك سردية مضادة عن قتل الابن استخدمتها لقتل الأب، ثم لإعادتهما إلى الحياة في صورة أخرى .. التخلّص بالدعابة من الأبوة، والبنوة معًا فلا أحد منهما يطيق الآخر، وكلاهما يتبادلان دوريهما، ويتصارعان طوال الوقت .. كأنه وجه آخر ـ هزلي ـ للذنب الأوديبي عند (ديستوفيسكي) في (الإخوة كرامازوف) .. ربما أمي هي التي كتبت (خلق الموتى)، وتكتب الآن ( الفشل في النوم مع السيدة نون ) بطريقة ما".

قبل ذلك كنت قد بدأت في تجهيز دراسة عن "الغفلة"، أو ما يشبه حفلًا أبيقوريًا لتبادل اللعنات الساخرة واقتفاء تماثلها بيني وبين شارلي شابلن "Modern Times"، توم هانكسForrest" Gump"، تشاك بولانيك "نادي القتال"، هرمان هسه "صيف كلنكسر الأخير"، بورخيس "التاريخ الكوني للخزي"، وودي آلان " Annie Hall"، كونديرا "البطء"، نابوكوف "العين"، وأيضًا كيركيجور وبوكوفسكي وأونجاريتي وغيرهم .. كشفت فكرة الرواية عن طموحها لاستعارة الوجه السردي لذلك العمل الذي لم أدوّن منه سوى بعض الصفحات التحضيرية .. كان هذا الطموح متوافقًا مع يقين متزايد بأن "الأخطبوط الكوني" أو "أن أعيش كل الحيوات وأموت كل الميتات" مثلما وصفته في رواية "سوبر ماريو" ليس هاجسًا وإنما مرض متجذّر، سيتجلى في "خلق الموتى" بواسطة ما سأسميه بعد خمس سنوات في رواية "إثر حادث أليم" بـ "التناص الوحشي" أو تحويل الأعمال الأدبية والفنية إلى نوع من الأحجية الزمنية.

هكذا بدا أن تحالفًا مستترًا ينشأ بين عدة إغراءات أساسية على نحو تدريجي، سيصير بعد اكتماله إلى نوع من التواطؤ القهري .. علاقات شبحية تنمو في ظلام الذهن أو تتجهّز بفضل بديهيات لاشعورية بين هواجس جمالية قد تتشكل ظاهريًا كانشغالات منفصلة .. ربما كنت مشاركًا دون وعي في ذلك التواطؤ بعدم الانتباه، أي بكيفية مبهمة من القصد تجاه مساحة الهذيان المكتشفة، والتي ستمتد إليها غابة الطفولة انتظارًا لاستقرار وحوشها على نبرتها الجديدة .. لكنها لن تكون جديدة حقًا، لأن تلك "النبرة" ستكون "الجاز"، وهذا ما يقودني للعودة مجددًا إلى "الفشل في النوم مع السيدة نون": "هذه روايتي الثالثة، وللمرة الثالثة أحاول ـ بطريقتي ـ أن أشكّل الرواية على إيقاع (الجاز) .. جربت هذا في (سوبر ماريو)، وفي (خلق الموتى) حتى أن أحد وجوه شخصية رئيسية فيها ـ لو أمكن التغاضي مؤقتاً عن الحماقة الكامنة في تعبير "شخصية رئيسية" ـ كان (عازف ترومبيت) .. انعدام الحديث عن ملامح عمله كعضو بفريق (جاز) في الرواية ـ إضافة لدلائل أخرى ـ كان دافعًا عند القراء بشكل عام للتأكد من أنها مهنة وهمية، ومتخيلة .. حلم .. أمنية، لكنني ربما أجد الآن فرصة مثالية للتركيز العابر على أن إيقاع الرواية الذي يماثل إيقاع الجاز أفضل دليل على قوة الأمنية ـ لن تصبح أمنية فحسب مع هذا الاكتشاف الذي لم ينتبه إليه أحد لدى شخصية استبدلت الكلام عن الجاز بتنفيذه فعليًا .. الفكرة الشكلية لموسيقى الجاز ـ وهو عنوان مقال لـ (هيدن كاروث) ـ في (خلق الموتى) لم تعد مجرد هيكل كتابي أو موسيقي، بل أصبحت حياة، وموت .. لكن لماذا يكون تركيزي عابرًا على تلك النقطة؟! .. لماذا لا أسترسل قليلًا في الشرح مستعينًا بمقال (هيدن كاروث): (كلنا يعلم أن مؤدي الجاز عادة لا يضربون النوتة بقوة، ولكنهم ينسلّون إليها من الأعلى، أو من الأسفل، ونفس الطريق عند تلاشي النغمة، فالانزلاق، والانسلال، وعدم البراعة المقصود، والخشونة أيضًا جليّة في الأداء) .. (فكرة الجاز هي الارتجال العفوي في قالب بسيط، ومحدد) .. إيقاع الجاز في (الفشل في النوم مع السيدة نون) هو الفكرة الشكلية للجنس، وبصرف النظر عن الرواية نفسها فأداء الجاز ـ عندي ـ أقرب الأشكال الموسيقية للمضاجعة .. الكتابة بهذه الكيفية تتفحص الأثر المهيمن، والكُلي للشهوة عبر ألاعيب، وتقاطعات الوجود الخاص بواسطة توحد، وتقمص اللغة للهويات المتأرجحة، العنيفة للجسد .. كأنها تؤمن ـ بطريقتها أيضًا، ومثلما يتم التعبير عن روح الجاز ـ بأن (التحرر والانضباط يلتقيان في النشوة فقط)".

موقع "الكتابة" ـ 18 سبتمبر 2020

الجمعة، 18 سبتمبر 2020

بصمات سماوية

شعر بالندم لأنه حرّك عينيه تلك السنتيمترات القليلة من شاشة التليفزيون إلى طفلته الجالسة بجواره .. كان التفاته عفويًا بعدما لمح يديها ترفعان هاتفها المحمول فجأة ليتبين له أنها تلتقط صورة مقرّبة لوجه الولد الصغير "جيسون دروكر" بطل فيلم Diary of a Wimpy Kid: The Long Haul .. في هذه اللحظة أراد بشكل مباغت أن يتذكر اسم صاحب محل النظارات القديم، والذي كان مطبوعًا على الجراب الجلدي للنظارة التي تستعملها أمه الميتة... حاول على الفور معالجة تطفله غير المتعمّد بعدما انتبهت طفلته بارتباك لم تنجح في إخفائه إلى رؤيته لها وهي تلتقط الصورة؛ فسألها بابتسامة ودودة إن كانت ترغب في أن يحمّل لها الفيلم من الإنترنت على الجهاز الخاص بها .. أجابته بخفوت مصطنع في الاهتمام بأنه لا بأس لو فعل ذلك .. تذكر حينئذ أنه لم يعرف أبدًا إجابة لهذا الاستفهام: لماذا يبدأ أحيانًا تآكل بعض الصور التي مر عليها زمن طويل من حوافها أي في الأطراف المحيطة بالوجوه التي تسكنها، بينما يبدأ تآكل الأخرى من منتصفها حيث توجد الملامح تمامًا؟ .. نهضت طفلته وتوجهت إلى حجرتها في حين بقي هو أمام التليفزيون يتأمل ملامح الولد الصغير على الشاشة كأنما عينيه عاهتان مستديمتان أعيد فتحهما للتو .. لم يعش لحظة كهذه مع طفلته من قبل، لكنه يسترجع فجأة ما كتبه منذ ثماني سنوات تقريبًا في إحدى رواياته عن ذكرى واقعية: شقيقته الكبرى تلتقط من التليفزيون صورًا بكاميرا الموبايل لأحد الممثلين الأتراك، بعد أن رفض تنزيل صوره لها من الإنترنت الذي لم تكن تجيد استخدامه وقتئذ .. فكّر في لماذا ظل هذا المشهد متواريًا للحظات بالنسبة له وهو يتمعّن في وجه طفلته منذ قليل .. كانت شقيقته في بداية الثلاثينيات حينما أطفأت ضوء الحجرة وجذبت البطانية لتغطي جسدها وهي تمسك بالموبايل وتحدق في صورة الممثل، أما الآن فهي ترقد داخل قبرها بعد أن أنهت حياة ستين عامًا وحيدة في بيت العائلة .. شعر بأن شيئًا غامضًا في داخله تعمّد ذلك النسيان المؤقت .. نفس الشيء ربما الذي يحاول أن يصل باللعبة الأزلية معه إلى مستوى أكثر جموحًا فيقوده للتفكير في أن الأمر ليس راجعًا للصدفة أو لضرورة التماثل، بل إليه هو نفسه .. يدفعه للاعتقاد بأنه حينما كتب هذا المشهد منذ سنوات فقد جعله قدرًا حتميًا لطفلته .. كان أبعد ما أراده، وأكثر ما تمنى فعله أن يدخل حجرة طفلته الآن.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 14 سبتمبر 2020
اللوحة: Henri Charles Manguin

الأربعاء، 9 سبتمبر 2020

سيرة الاختباء (20)

ربما كانت تلك محاولتي العملية الوحيدة لإقناع والديّ بأن كتابتي للقصة القصيرة ليست سلوكًا سيئًا مثلما يفترض اليقين الذي يحرّك ممارساتهما العدائية ضدي، ويثبّت في وعيهما تصوّرًا بأن هذه "العادة" سيكون لها تأثير سلبي على حياتي الدراسية .. طلبت منهما الجلوس ومعهما شقيقتي الكبرى في حجرة المعيشة والاستماع إلى إحدى التجارب القصصية المبكرة التي كتبتها قبل نشر قصتي الأولى عام 1993 .. استجابوا لإلحاحي وعلى وجوههم ابتسامات ساخرة كأنما يتوقعون سماع نكتة ساذجة تليق بطالب في المرحلة الإعدادية، يعتبرها ـ بعكسهم ـ أمرًا جادًا .. وبالرغم من أنني كنت أعرف أنهم ـ كعادة الكبار في مواقف كهذه ـ يأخذونني على قدر عقلي؛ إلا أنني أردت انتهاز الفرصة باعتبارها لحظة حاسمة لا يجب خسارتها .. حدثًا فارقًا يمكنني من خلاله أن أضع حدًا لحالة التهديد المستقرة التي تحاصرني كولد صغير، لا يريد سوى أن يكتب دون عقاب فضلًا عن إمكانية الحصول على مكسب أفضل، واستبدال الطبيعة الخصامية لوالديّ تجاه الأمر بدعمٍ وتقدير أراهما بديهيين، ولو أن ذلك كان يبدو طموحًا مبالغًا فيه .. لكن في الوقت نفسه كان الشعور المباغت والأكثر هيمنة أثناء قراءتي للقصة أنني أنتهك ما هو أثمن مما يمكن أن يعوّضني أي انتصار محتمل في هذه الجلسة عن فقدانه .. أحسست فجأة وبشكل غامض وغير منتظر أنني أهدر عزلتي .. أفضح أسرار انطوائي الذي أراقب العالم من داخله .. شعرت بأنني أبتذل خيالاتي بتعريتها على هذا النحو، وهو ما أصبح طاغيًا على الترقب الحماسي لردود أفعال أسرتي، أو التشوّق للفوز بإعجابهم ومساندتهم لي .. كانت المحاولة القصصية عن بنت اسمها "ليلى"، تسكن في الحارة المقابلة لبيتنا، وأصيبت نتيجة حادث سيارة بكسر في ساقها، وبالرغم من أن هذه القصة ـ بحسب ما أتذكر ـ انتهت بمحاولتي لاسترداد رضاء والديّ بعد ارتكابي لتصرّف تسبب في غضبهما حين شاهدت هذه الطفلة وهي تتألم بينما يحملها أهلها بقدم ملفوفة بالجبس بعد عودتها من المستشفى؛ إلا أن التعليقات المتهكمة تلاحقت فور انتهائي من القراءة ولم يكن موضوعها سوى استنتاجهم الجماعي المتوهم بأنني أحب طفلة "قذرة" تسكن حارة سيئة السمعة، وتلعب طوال الوقت في الشارع مع أطفال "فاسدين" مثلها من أبناء "الأرذال" .. لم يفكر أحد في أن القصة ربما تكشف مثلًا عن افتقادي للأمان، ورغبتي في الحماية الأسرية من أي مكروه ممكن، دون أن يكون حادث سيارة بالضرورة، حتى لو كنت أمارس أحيانًا "أفعالًا خاطئة" ضد الجميع .. "كيف تحب فتاة مثل (ليلى)؟!" .. كان ذلك السؤال الاستنكاري الهازئ هو حصيلتي الوحيدة من تلك الجلسة، والمقترن طبعًا بترسيخ مضاعف لليقين السابق: "هذا ما تؤدي إليه حتمًا كتابة القصة القصيرة".

لماذا لم أصنّف ما حدث في ذلك اليوم البعيد بأنه "الندوة" الأولى، وليست تلك التي حضرتها في منتدى عروس النيل الأدبي بعده بثلاث سنوات تقريبًا؟ .. لأنني اعتبرت هذه الجلسة بعد نهايتها طقسًا منزليًا تقليديًا، لا يختلف عن صفعاتهم العفوية على وجهي في الطفولة، سواء بسبب الإهمال في الصلاة، أو اللعب الصاخب في الأوقات غير الملائمة، أو التفوّه بردود بذيئة أمام تحذير أو أمر أو إهانة .. ومع هذا فإنني ظللت أرى ملامحهم في كل الوجوه التي قرأت أمامها قصصي القصيرة بعد ذلك، حتى تلك التي كانت تبتسم إعجابًا واحترامًا، حيث لم يفارقني أبدًا الشعور القديم بأنني حينئذ أنتهك ما لا يمكن تعويضه.

موقع "الكتابة" ـ 8 سبتمبر 2020

الجمعة، 4 سبتمبر 2020

خط دموي داكن

بعد شهور قليلة من زواجه اكتشف أنه لن يستطيع الإنجاب إلا بعد إجراء عملية جراحية .. وبالرغم من رغبته الطبيعية في الأبوة، ومن تأكيدات الجميع بأنها جراحة بسيطة إلا أن رعبه من الموت ـ خاصة بعدما علم أنها تتطلب تخديرًا كليًا ـ دفعه لرفض إجرائها الأمر الذي أدى بعد تصاعد معركة جدالية  مع زوجته إلى انفصاله عنها .. انتهى به تفكير طويل إلى اتخاذ قرار مصيري بألا يتزوج ثانية، وأن يعوّض أبوته الغائبة بالامتثال إلى الحكمة الشهيرة من فيلم lion: "لا شيء مميز في إنجاب طفلك الخاص وزيادة عدد البشر، بينما من المميز أن تنقذ حياة طفل وُلد بالفعل" .. كان يؤمن بمعناها من قبل أن يعرف كلماتها، حتى وهو في ذروة الألم من عجزه عن الإنجاب .. هكذا راح يسعى وراء الحصول على طفل وُلد بالفعل كي ينقذ حياته .. بعد فترة كبيرة وجهد شاق أصبح في بيته طفل بلا عائلة .. حصل عليه مغلفًا بالامتنان لعدم التورط في جريمة ولادته .. ظل يعتني بهذا الطفل على نحو مثالي .. كان يعرف تمامًا ما الذي ينبغي أن تكون عليه المراعاة النموذجية للأطفال، وكيف ينشأون بصورة سليمة وصحية .. في أثناء ذلك التفاني الذي لم يجرحه اختلال عابر استمر في كتابة القصص القصيرة، بينما الطفل يواصل النمو إلى أن جاءت اللحظة التي شعر فيها بمساحة صمت ثقيلة تتمدد بشكل متسارع بينهما .. كانت هذه المساحة مقترنة أيضًا بشيء من ضعف الهمّة بدأ يتنامى داخله .. خمود تدريجي مبهم لذلك الشغف الذي كان ينطوي عليه كل ما يقوم به تجاه الطفل .. أصبح ثمة حاجز غير مفهوم يمنعه من الاستمرار في تجهيز الطفل للمستقبل بالتزامن مع إدراكه بأن هذا النمو يتمادى في غفلة منه .. هذا ما جعله يستبدل رغمًا عنه المراعاة التي لم يُقصّر في أدائها بكتابة قصص أكثر عن تأملاته المتحسّرة لكل ما يطرأ على الطفل من تغيرات بعيدة عن مقاصده، ولا يقدر على تعطيلها .. القصص التي تشتمل بالتأكيد أيضًا على زوجته التي تجلس أمامه الآن في حجرة المعيشة بجوار الطفل، وبالطبع على ذلك الخط  الدموي الداكن الذي لا يزال واضحًا فوق خصيتيه.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 30 أغسطس 2020