الاثنين، 25 يوليو 2022

حفل الوداع

في المدينة أشخاص لا أعرف عنهم سوى وجوههم

ملامح كان ظهورها يتكرر في أماكن مختلفة

أمام عيني طفولتي العابرة سريعًا كطيفٍ مرتعش

ثم اختفوا جميعًا فجأة

اختفوا تمامًا كأنهم هجروا العالم وليس المدينة فحسب

بينما بقيت أتنقل زاحفًا في الشوارع نفسها

بعيدًا عن طفولتي

حتى مرت ثلاثون سنة

كان يمكن ألا تكون ثلاثون سنة زمنًا طويلًا

لو انتهت إلى شيء آخر غير الانسحاب التدريجي

من الأماكن التي ظلت عالقة في عتمتها.

في هذه اللحظات تحديدًا

عادت الوجوه القديمة للظهور

الملامح التي ما زلت أعرفها

رغم أنها أصبحت عجوزًا

بما يتجاوز الأثر البديهي للتقدّم في العمر

عادت وجوههم للظهور في الشوارع التي أنسحب منها

وكانوا ينسحبون أيضًا

بالانكماش التائه ذاته

الذي أغادر به المدينة نحو منزلي

بعدم التصديق الأثقل من إمكانية تركه

خارج الأبواب التي أغلقتها على نفسي.

كانوا يتلصصون على ملامحي مثلما أفعل

كأنهم عثروا عليّ أيضًا فجأة

بعد كل هذا الوقت من اختفاء وجهي عن عيونهم

وجهي الذي يعرفونه جيدًا.

حينئذ أدركت أنهم لم يكونوا غائبين طوال هذه السنوات

كانوا يزحفون من حولي في نفس الأماكن

بعيدًا عن طفولتهم

وكان هذا فقط يكفي

لكي لا يرى أي منا الآخر

إلا في حفل الوداع.

 photo by Mamdouh Rizk

الخميس، 21 يوليو 2022

عن الرغبة اللاواعية في فقد الأشياء الثمينة

تعرضت خلال السنوات الماضية لغارات محو جزئي وكلي مفاجئة اجتاحت هواتفي المحمولة وأفقدتني الكثير من الملفات الهامة .. شخصيًا لم أعرف أحدًا إلا وتعرضت مقتنياته لهذا النوع من الإبادة وأحيانًا بشكل أكثر فداحة مما واجهته .. الحقيقة أن هذا العدوان الذي يتسبب في خسارتك لمحتويات ثمينة سواء على الهاتف المحمول أو اللابتوب مثلًا لا يفترض منطقيًا اعتباره “غير متوقع”؛ حيث أن هذه الذاكرة التي تعتمد عليها لحفظ أشيائك ليست إلا هدفًا مهدَدًا طوال الوقت.

الجدير بالانتباه أن إمكانية الحماية من تلك الخسائر المذلة متاحة بسهولة عن طريق الاحتفاظ بنسخ من المحتوى الذي تخشى فقدانه في خزائن إلكترونية أخرى .. لماذا لا يفعل الجميع ذلك؟ .. لماذا لا أفعل أنا ذلك؟ .. أعرف أشخاصًا حريصين على توفير هذه الحماية لملفاتهم ولكنهم بالتأكيد ليسوا أغلب من أعرفهم .. أنا أيضًا أقوم بهذا الإجراء الاستباقي ولكن ليس طوال الوقت .. لو أنني أردت تحديد أسبابًا مباشرة لذلك سأقول فورًا: انشغال .. كسل .. تباعد المواعيد المخصصة لأداء هذا التحصين نتيجة المقتضيات الاستحواذية للحياة والعمل .. لكن هل هذه مبررات حقيقية بالفعل أو على الأقل كل المبررات؟

ما أفكر فيه الآن لا يتعلق بي فحسب وإنما أيضًا بأولئك القادرين على حماية مقتنياتهم ومع ذلك يهملون الحفاظ عليها بالرغم من كل مشاعر الحب والتقدير والتعلّق التي يحيطونها بها .. أفكر في أنني ربما أريد ـ دون وعي بذلك ـ أن أفقد هذه الأشياء الثمينة بالنسبة لي .. تكرار الخسارة يصلح كتأكيد وبرهان على هذه الرغبة اللاشعورية في الفقد .. ما هو السبب الذي قد يجعلني أريد ذلك؟

تشكّل مفهوم “غريزة الموت” في التحليل النفسي عند فرويد من خلال “تكرار الصدمة”، “تكرار الفقد” و”التكرار كخبرة معاصرة”، وهو ما يعني حافزًا أكثر بدائية للتدمير .. إن الأمر يبدو إذن وكأنني أتعمّد دون إدراك بذلك أن أترك ملفاتي التي لا شك في أهميتها بالنسبة لي على حافة الفقدان انتظارًا للحظة سقوطها في ظلامه .. كأنني أدبر في خفاء وعيي استعادة للتجارب بالغة الألم التي مررت بها في حياتي والمرتبطة بالفقد المفاجئ .. استعادتها كأحداث حالية عبر وقائع أقل قسوة .. يبدو الأمر انتقامًا مما تمثله هذه المقتنيات .. من الوعود “الإيروسية” للحياة الكامنة فيها والتي لم تتوقف عن خيانتها عبر أجساد وأشياء الماضي .. كأنني أريد بقصدٍ غير مكشوف أن أبقي الآمال التحسينية والاستدراكية للعالم خاضعة لسخريتي.

أستعيد الآن مقطعين من كتابي “الغفلة والإدراك ـ مدخل تفكيكي لفلسفة شوبنهاور”:

(كأن شكسبير يكشف عن أن اللغة هي سر الحصانة المتمنّعة، ولهذا لن يكون تأمل الإرادة انتزاعًا للحماية بل أشبه باحتفاء جدلي متغيّر بالخسران .. أشبه بالرقص الممتن مع الإخفاق المتراكم والمتنقل، المحسوم أزليًا، أي من قبل أدنى جاهزية للاعتقاد الفردي بأنه من الوارد حيازة شيء ما داخل اللغة .. نحن لم نفقد لأننا لم نمتلك من الأصل .. لن يكون تأمل الإرادة إيقافًا لزمن أو قبضًا على معرفة سواء كانت “صورًا خالدة” أو “حقائق كلية”).

(إنه الإدراك الذي لا يتحصن الكاتب نفسه بحماية ثابتة من الاستجابة للذته، بناءً على دوافع ستظل مؤقتة في مواجهة الزمن، ودون تعطيل لخيبة الأمل. هنا تكمن الاحتفالات المتنقلة بما هو متمنع، معجِز، بما هو ليس بمعرفة حتمًا وإنما بالأداءات المتغيرة للجدل، بالتفاوض المحسوم سلفًا مع الخذلان. بتراكم الامتنان لتلك المقدرة على تأمل الفقد مع كل استعداد لتصور أن بوسعك امتلاك شيء ما).

إذن الرغبة اللاواعية في فقد الأشياء الثمينة هي نوع من التأمل السري للخسارة التي تتجاوز ما يمكن محوه بشكل مباغت .. تقويض اللغة التي تحتّم عليّ الإيمان بأن محتويات هاتفي المحمول أو اللابتوب على سبيل المثال مقتنيات بالغة الأهمية .. كأنني أتسلل في ظلام نفسي نحو المتعة الناجمة عن تجريد الحياة من وهم الامتلاك .. عن تفكيك اليقين المسموم الماكر بأنه لدي ما ينتمي لي أو يخصني حقًا فضلًا عن كونه أكثر قيمة من غيره.

في مقابل الحفاظ المحكم على مسودات وأوراق عملي؛ فقدت في أوقات متفرقة الكثير من الصور والفيديوهات والتسجيلات الصوتية وصفحات الإنترنت التي كانت تمثل ذخيرة ثرية لمشاريع لاحقة، ولن تكون إعادة تجميعها اعتمادًا على الذاكرة الشخصية ـ وهو ما يعقب كل إبادة شاملة ـ استردادًا فعليًا لمحتوياتها .. مسودات وأوراق عملي لا ينبغي أن يطالها المحو، فقط لأنها توثق بصور متعددة بصمتي التهكمية تجاه ما “أمتلكه” .. لكن هل يُعقل ألا يكون فقدان هذه المسودات والأوراق أيضًا خسارة حقيقية بالنسبة لي؟ .. أستعيد مجددًا جزءًا من دراستي “هيرمينوطيقا الكسل”:

(“هل تجروء على الكسل!” .. حسناً (رولان بارت) سأحاول الآن أن أرسم لوحة للسلطة التي يقاومها كسلي: إنها تلك التي تترسخ في الجانب المضاد لمغامرة الفكرة في عدم إنجازها .. اختبار توترها العقلي والنفسي نتيجة عدم تجسدها حتى هذه اللحظة .. سأتمادى وأقول المقامرة على نسيانها أحياناً أو على سقوط ملامح هامة تنتمي إليها في الجحيم المظلم للذاكرة .. سأتمادى أكثر وأقول الرهان على ضياعها أي على عدم استردادها، وبالتالي على الفوز بشغف آخر من الرؤى والتكتيكات البديلة النابعة من حضورها المختفي .. من القلق الناجم عن محوها الظاهري وزوالها الخادع .. السلطة التي تتجذر في حصار مناقض لما يمكن أن يعنيه تطابق التجليات المراوغة لموضوع الكتابة الذي لم يُنفّذ بعد .. تمظهر جميع الموضوعات داخل بعضها، وغياب الاختلافات فيما بينها .. أعرف أنني تماديت كثيراً ولكنني أتغذى على الانتهاك والتخريب .. إنني أريد نزع القيمة عن أي فروقات يمكن تقديسها بين ما اعتبره صيغاً متناسخة للهذيان .. أشكالاً فصامية تتبرأ من تماثلها عبر التفافات معقدة .. أريد الوصول إلى التساوي بين التفاصيل التي لا تتفوق أي منها على الأخرى .. إلى إفساد ميزان الجودة وإتلاف مقياس التميز بين ما يُغفل عنه وما يُنتبه إليه .. أريد الوصول إلى انعدام الأفضيلة التي يمكن أن تطارد أي جدوى: سواء كنت تكتب كأنك جالس فوق قنبلة لديك زمن محدد يمضي سريعاً لإيقاف مفعولها عند الوصول إلى كلمة النهاية، أو تكتب كأنما اتضح بالدليل القاطع أن الموت كذبة لن يمكنها أن تخدعنا بعد ذلك .. أن يحدث شيء الآن بطريقة معينة نتيجة صدف خاصة ومزاج ما، أو يحدث لاحقاً بنفس الكيفية أو بطريقة أخرى نتيجة صدف مغايرة ومزاج مختلف).

ما ينطبق على “موضوع الكتابة الضائع” في هذا الجزء من الدراسة ينطبق بالضرورة كذلك على “المقتنيات الثمينة”: الصور والفيديوهات والتسجيلات الصوتية وصفحات الإنترنت المفقودة .. لا يتعلق الأمر بإمكانية استرجاعها ولو جزئيًا، وإنما بأن هذه الأشياء هي بدائلها نفسها مهما كانت .. هي غيابها ذاته.

أعود الآن إلى قراءتي لرواية “أخيلة الظل” لمنصورة عز الدين:

“هذا التوالد القهري تتكفل الكتابة بحمايته من الثبات، وتحافظ على بقائه منذورًا للمحو. يمكننا التفكير في هذا المحو باعتباره قابلية التبدد طوال الوقت بأشكال متغيرة ولانهائية. الكتابة إذن بوسعها أن تمنح تعريفًا للضياع بأنه القدرة الدائمة على أن يظل الاحتمال مراقبًا لكينونته، أن يتتبع تناثرها واختفاءها وإعادة تجسدها بشكل متواصل. يبدو الأمر أشبه بفقدان محسوب للذاكرة، ذلك لأن كل تعمية يتم تعويضها أو استداركها في تمثّل آخر مختلف، وهو ما يجعلها بالضرورة لعبة حضور وغياب، أو طريقة مثالية لتشريح كل ماض. هي الحالة التي يمكن اعتبارها درجة القرب القصوى من هذه السطور التي كتبها (آدم) في قصته (ناسك في غابة):

(فضّل أن يكتب نصوصه في الهواء، أو يخطها على الرمال بيد مرتعشة، ويسارع إلى محوها في الحال. على طريقته الخاصة وبطقوس غير مفهومة لسواه، أخذ يمجد الفناء ويتعبّد في محراب العدم. لطالما كان وسوف يظل ابنًا مخلصًا للعابر والمتطاير)”.

يزداد ألم الفقدان كلما ارتفعت مكانة الأشياء التي خسرناها في حياتنا، أي كلما دفعتنا للمراهنة عليها أكثر مما تفعل أشياء أخرى، ومن ثمّ فإنها ربما تحرّضنا لا شعوريًا على التخلص منها بصورة تنفي عنا الإصرار والترصد، أو على الأقل مراوغة حضورها بوصفها “احتمالات” عاجزة، دائمة التأرجح، بما يعني الاحتفاظ بها على نحو يتخطى وجودها المتعيّن .. ذلك الألم هو محاولة لإرضائنا .. تعزية لنا .. ثأر من رغبتنا اللاواعية في التخلي برد الاعتبار نفسيًا لأشياء نعرف أنها ليست بالقيمة “المنقذة” التي أردناها لها .. ذلك الألم هو رثاء لذواتنا التي لم تمتلك في لحظة تكوّنها ما كان يجدر به أن يغنينا عن كل ما فقدناه.

أراجيك ـ 21 يوليو 2022

 

الجمعة، 15 يوليو 2022

هامش الرجل الذي ربما يكون طبيباً نفسياً، أو ملحناً وعازف جيتار في الثمانينيات


أغلب الظن أنه لو عاش في العصور الوسطى كان سيصبح كاتب أطفال .. كان سيحصل على دعم عظيم من الطبيعة، ومن الخيال الرومانسي، والثقافة الشعبية .. لكنه دون شك كان سيواجه عداءاً إجرامياً من العقائد التطهيرية، وسلطة الواجب الأخلاقي، والصراع بين الطبقات.

بحسب “لاكان” فأنا (مهني أزاول وظيفة رمزية)، وهذا يحتم عليّ أحياناً محاولة كسر التماهي بيني وبينه، وتحويل خيالاته إلى رموز من الكلمات .. لكن بما أن تلك الإجراءات، أو الممارسات لا تنبع من يقين حاسم، بل تنتمي إلى رغبة في تحرير التفسيرات والتأويلات التي تتعطل في جدالاتها، وإلهاماتها التعريفات والمفاهيم الدقيقة المنضبطة؛ فإن الأمر يتطلّب مني إذن السعي إلى محو صورتي من خياله وأنا أمتطي الخيول البيضاء والبنية في القرون الوسطى داخل ضباب شتائي .. عليه أن يظل وحده فوق تلك الخيول، وأن يقاوم الخوف من السقوط، وأن يصبر قليلاً على الضباب .. اللذة الكامنة في تشريح الحصار المحكم للشهوات المتناقضة وراء عينيه المغلقتين .. هناك يكمن الزهو السحري، المتقطّع، الذي لا يجب أن يخسره حتى لو فقدته ذاكرته أحياناً، لأنه لن يعثر أبداً على ما يعوّض ذلك الألم الاستثنائي.

في إطار تحليلنا للكراهية؛ قلت له إنني لا أعرف عن الكراهية أكثر من شمولها، استهدافها للوجود المنفصل عن حياة إنسانية مثالية توجد في مكان مجهول .. أكره الجميع فعلاً، بمعنى أصح أكره بشاعة حضورهم المتعيّن الذي لا يزال يرسّخ إيماني بأنه لا أحد يصلح لي مثلما لا أصلح لأحد .. وجودهم الذي يعيش معي كبديل للمخلوقات الصحيحة التي لم تأت إلى العالم بمن فيهم أنا قطعاً .. أُحب كتّابًا، وممثلين، ومطربين، وموسيقيين، وأبطالًا كارتونيين، وشخصيات تاريخية وخيالية .. ليس لأنني أُحب أعمالهم وحكاياتهم، وإنما بدرجة أكبر لأنني عشت معهم دون أن يعرفونني .. كان هناك بشر يؤكدون على تلك الفكرة بوضوح تام في الأقمشة التي كانت تُطبع من اللوحات الخشبية المحفورة في العصور الوسطى.

مثلما أصبح مدمناً على مفاجئتي؛ يتحدث بلا مقدمات عن فيلم (On est corps vivant)، وعن الأجساد الحية التي تحل في الأجساد الساكنة، المرسومة داخل اللوحات .. يخبرني أنه لا يمتطي حصان القرون الوسطى، وإنما يخلع ملابسه كلها، ويتخذ نفس وضعيته، متماهياً معه وهو معلّق على الحائط داخل اللوحة .. يقول أنه يعدو ببطء داخل الضباب الشتائي عاجزاً عن تذكر طعم السُكَر، ومنتظراً سهماً، أو رصاصة من أي اتجاه.

يُخرج ورقة من جيبه مدوّن بها كلمات من قصيدة (أنا متعبة للغاية من جسدي) لـ (كريستين هامان): (الموسيقى الشائعة، سهرات الشرب / لحظات رومانتيكية / يمكن أن يُستخدَم ساعات / متظاهراً بأنه يتناسل).

لم أجد حرجاً في الاعتراف له بأن فهمي بطيء في أغلب الأحوال، وأنني عادةً أصل إلى الحلول متأخراً .. يمكنك أن تضع التربية المغلقة كتفسير، ولن تكون مخطئاً تماماً .. التي تتحكم في طبيعتك طوال الحياة، مهما زادت سنوات العمر، ومهما حدث لك خلالها، وبشكل لا يمكن تصديقه .. التي شيّدت سوراً متيناً حول طفولتي، منعني من الخروج إلى عالم الغرباء، وأجبرني على الاختباء في الخيال تعويضاً عن واقع لم أتمكن من الاتصال به، فصار عدواً فاجراً، لا يقبل بالغنائم البسيطة حينما خرجت إليه وأنا أبيض، دون أدنى خبرة في مجاراة أبطاله المجرّبين، أو في التوافق مع آلياته المعقدة .. سيكون أهم تلك الغنائم هو القهر الذي يتركه دائماً في نفسك إدعاؤك المستمر، المضحك، والبائس بأنك واحد من هؤلاء الأبطال .. فهمي البطيء ـ مثلما يبدو لي ـ ليس راجعاً إلى خلل عقلي، أو عُقد نفسية، كما أنه ليس نتيجة سذاجة أصيلة في تكويني، أو طيبة مكتسبة من إرث متعدد، وإنما أيضاً لأنني صرت كفيفاً منذ اللحظة التي أيقنت فيها بأنه لا يوجد فهم ولا حل ناجح .. تحت السماء ليس هناك فرق بين عماءٍ وعماءٍ آخر، وليس هناك من يصل أبداً في الوقت المناسب.

من رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون” ـ دار الحضارة 2014

 

حرب منتهية

لم يكن لديهم مكان آخر .. صارت الكنبة الخشبية وعداً إذن بتحقيق الحد الأدنى من الأحلام التي تثقلهم الليلة .. الإضاءة الخافتة سمحت لهم بالحصول على مكسب ملائم من الظلام فضلاً عن ابتعاد الجالس الوحيد في الحديقة لمسافة مريحة .. الرجل العجوز لا يتذكر إذا ما كان قد أخبر الشاب الذي يجلس بينه وبين المومس بأنه لم ينجح أبدًا في الحصول على مكان مناسب للنوم معها أم لا .. الشاب يتذكر جيداً أن العجوز أخبره بذلك .. بتلقائية دالة على التعوّد وضعت المومس فخذها الأيمن على فخذها الأيسر .. كان ذلك يعني أنه على يد الشاب التي تستعد لتحسس مؤخرتها أن تطمئن؛ فالغريب الذي يجلس بعيداً لو التفت ناحيتهم لن يتمكن في هذه الوضعية من رؤية اليد التي أمسكت بمؤخرتها فعلاً الآن …

العجوز يراقب يد الشاب فوق مؤخرة المومس وفي عينيه نظرة تشبه (أنا ياما دعكتها قبلك يابن الوسخة) .. لم يُظهر الشاب انتباهه لتلك النظرة، كما نجح في قطع الطريق على الشخرة الخافتة التي تحررت بدايتها من داخله دون أن يلحظها العجوز .. المومس تفكر في أن هناك خمسة وعشرين جنيهًا مضمونة وعدها العجوز أن يعطيها لها قبل رجوعها البيت …
العجوز حاول إبعاد عينيه عن يد الشاب وإبداء عدم الاهتمام، لكنه لم يقدر فظل يتخيل إحساس تلك اليد بالاستدارة الغنية بإحكام وبالدفء الكريم لطراوتها، رغم أن يده تذوقت حنان نفس المؤخرة كثيراً من قبل ويعرف جيداً أنها متاحة له في أي وقت .. لم يكن يريد الشاب أن يخسره بل على العكس زاد تمسّكه بصداقة العجوز خاصة أن المتعة الآن لم تعد قاصرة على اكتشاف يده لمؤخرة المومس فحسب .. المومس تنظر في عيني الشاب أملاً في استنتاج صحيح للمبلغ الذي سيعطيه لها بعد أن تنتهي يده من عملها، لكنها قررت أنه أياً يكن الرقم سيكون في النهاية إضافة للخمسة وعشرين جنيه التي لم تتوقع زيادة عنها في هذا المشوار …
ابتسم العجوز بارتباك حينما اكتشف أنه لا يرغب في تحسس مؤخرة المومس بقدر رغبته في الحصول على يد الشاب .. اليد التي تمنى الآن لو استعارها منه ليمسك بها هذه المؤخرة ثم يعيدها إليه ..صارت المتعة هزلية أيضًا، وأصبح جسد الشاب مُعبّراً عن هذا التمازج السحري؛ فبينما كان عضوه منتصبًا، بدت ملامحه كأنما يسترجع في صمت كافة النكات التي عرفها طوال حياته .. المومس تسأل نفسها هل عليها إظهار إحساس واضح بالإثارة أم أن الشاب لا ينتظر تلك الهدية منها.
شعر العجوز باضطراب في دقات قلبه مصحوباً بدوار خفيف حينما أصبح فجأة غير قادر على تذكر أين هو، ولا ما الذي جاء به إلى هذه الحديقة، ولم يعد يعرف من ذلك المنهمك في أخذ مقاسات طيظ المرأة المبتسمة بجانبه .. فكر الشاب في أنه ليست هناك لحظة يمكن للواحد فيها أن يشعر بانتمائه للعالم تفوق تلك التي يعيشها الآن؛ حينما ترغب في وقت واحد أن تضاجع من تحت وتضحك من فوق .. المومس لا تدري ما الذي جعلها تسترجع الآن ما كتبه أحد أصدقائها على فيسبوك بأن الشراميط هم الدليل الأقوى على الفشل التاريخي للبرجوازية المصرية في تقديم تبرير اجتماعي مقنع للرأسمالية.
لم يعد تركيز بصر العجوز على يد الشاب، ولا مؤخرة المومس، وإنما أخذت عيناه تتنقلان بين وجهيهما بخوف كأنه تحت تأثير اختطاف غامض أخذه من القطار حيث كان عائدًا من الجامعة إلى قريته، ويحكي لصديقه عن البنت الريفية التي يحبها من بعيد لبعيد؛ فأخرج صديقه خطاباً وأعطاه له ليكتشف أنه جواب عاطفي من هذه البنت لصديقه تُعبّر فيه عن امتنانها ليديه التي اعتصرتا مؤخرتها داخل أحد الغيطان ليلاً.

كان الشاب يلتفت أحياناً إلى العجوز ليتأمل نظرته التائهة المكسورة بهياج حاقد ومكتوم فتزيد قوة رغبته في الضحك خاصة بينما يفكر في أن العجوز هو الذي عرّفه على المومس، وهو الذي أصر على جلوسه بينهما، بل وهو الذي قال له بصراحة عالية الصوت (إلزق فيها) .. تنظر المومس حولها ثم ترفع بصرها إلى السماء وتبتسم متذكرة الـ (أحاااا) الغليظة التي كتبتها تعليقًا على مقولة صديقها على فيسبوك معتبرة ـ بقدر كبير من السعادة ـ أن وجودها في الحديقة الآن خطوة في طريق التحرر التام للشرمطة المصرية التي بدأ نضالها منذ زمن لا تعرف بدايته، لكنه اقترب من الوصول لانتصاره الخاص …
حينما استرد العجوز وجوده داخل اللحظة وعلاقته بتفاصيلها انشغل دون صوت، وبمزيج من الندم والتوسل في إخبار الإله الذي يعبده بأن الموت الذي أصبح قريبًا منه أكثر من أي وقت مضى هو الذي جعل من حرصه على التعارف بين الشاب والمومس واجبًا وضرورة حتمية .. تخيّل الشاب طفلة صغيرة ـ قد تكون طفلته ـ تجلس في مكان كهذا بعد سنوات طويلة ملتصقة بشاب لا يزال طفلًا الآن .. لكن هذا التخيّل لم يمثّل تهديداً لمتعته لأنها كانت محصنة باستعادة تلقائية لحلمه القديم بأن يقدم يوماً ما عرض ستاند أب كوميدي، ويفتتحه بجملة (لماذا لا يضع “باولو كويلو” شمعة في فتحة شرجه، ويسير أمامنا حتى لا يجد أي منا حجة للهروب من “الاستنارة”) .. المومس لا تعرف هل تشعر بالإثارة حقًا أم لا، لكنها على أي حال تثق بأن الشرمطة ستنتهي ـ كعنف أخلاقي ـ مع اختفاء الحياة التي تتحول فيها الشرموطة ـ كما خُلقت جميع النساء أصلًا ـ إلى امرأة فحسب، وهذا سبب تفاؤلها بحكم الإسلاميين .
نهض ثلاثتهم، ومشوا باتجاه الخروج من الحديقة؛ العجوز يفكر في موعده القادم مع طبيب أمراض الذكورة .. الشاب يشعر بالاعتزاز لقدرته على السخرية من يقينه بأنه سيجد مكاناً ينام فيه مع المومس .. المومس تخبر نفسها بفرح بأن يوماً آخر قد مر دون أن يعرف أحد من زبائنها بأنها عذراء.
مروا على الغريب الوحيد الذي كان جالسًا بعيداً عنهم لمسافة مريحة .. لم ينتبهوا أنه ميت.

اللوحة: Marc Chagall

الأحد، 3 يوليو 2022

"سيّان" لأغوتا كريستوف: شعرية البلادة


 يمكن اعتبار قصص مجموعة "سيّان" للكاتبة الهنغارية "أغوتا كريستوف" والصادرة عن منشورات الجمل بترجمة محمد آيت حنا؛ يمكن اعتبارها احتفالًا سرديًا بالتطابق، بالطمس الأزلي للفروق والناجم عن البلادة تحديدًا .. عن الجمود كقدر حيث يتساوى أن يحدث أمر بطريقة أو بأخرى .. البلادة ليست مجرد إطار شامل أو نسيج عام يقبض على كل ما هو مختلف ومتناقض ولكنه ـ كما ترسمه قصص المجموعة ـ الجوهر الكوني المكرّس لتماثل الموجودات .. الأصل الذي يفرض تمنّعها ويحتّم المشابهة والتواطؤ فيما بينها على التخلي .. على الغدر بوصفه كينونة مترصدة لها .. هوية أدائية حاكمة لطبيعتها.

"اعذرني، السرير غير مرتّب. أنت بالطبع تتفهمني، لقد ذهلت قليلًا حين رأيت كل هذا الدم. أتساءل أنّى ستواتيني الشجاعة لتنظيف كل هذا. أعتقد أني سأذهب بالأحرى للعيش في مكان آخر. هي ذي الغرفة. تعال. إنه هنا، بجانب السرير، على البساط. ثمة ساطور مغروس في جمجمته. هل تريد فحصه؟ أجل، افحصه. إنه حقًا حادث بليد، أليس كذلك؟ سقط من سريره أثناء نومه، ووقع على هذا الساطور".

في قصة "الساطور" يتطابق قتل المرأة لزوجها مع موته في حادث .. انتهاء حياته أو بقائها .. ذلك ما يقرره وصفها للأمر حيث تعرض للطبيب ـ كما لو أنه مونولوج داخلي أكثر منه خطابًا لآخر ـ الإصابة القاتلة لزوجها بالساطور بما يتنافى مع المعطيات الواضحة والحاسمة للمشهد .. تحكي المرأة تفاصيل غير معقولة لما حدث كما لو أنها تسرد قصة صادقة حتى لو كانت قائمة على غياب المنطق .. ذلك لأنه لا فرق بين ما يبدو جليًا ومفهومًا في عيني الطبيب وبين ما ترويه المرأة .. بين أن تغرس المرأة ساطورًا في جمجمة زوجها، وبين أن يسقط الزوج من سريره أثناء نومه فوق الساطور .. بين أن يُقتل أو لا يُقتل .. أن يموت أو يواصل الحياة ..  لهذا تتحدث المرأة كأنما تعترف بقتل زوجها ولكن على النحو الذي يكشف عن هذا الـ "سيّان" .. بالطريقة التي تساوي بين وقوع القتل وعدم وقوعه رغم "النوم العميق والسعادة برؤية السحب عبر النافذة والإحساس بالتخفف من ثقل السنوات".. تتكلم المرأة في إطار إدراكها باستمرارية الواقع المألوف الذي عاشته لزمن طويل مع زوجها، كأن "الحادث" أو "القتل" ليس إلا جانب بديهي من هذا الواقع .. تخاطب المرأة الطبيب الذي حضر لمعاينة جثة زوجها مثلما تستقبل ضيفًا في زيارة عادية لمنزلها حيث تنسجم "الدماء" مع "السرير غير المرتب" في سياق منزلي تقليدي .. حيث "الدماء" ليست أكثر من مبرر محتمل للعيش في مكان آخر إذا لم تكن هناك قدرة كافية على تنظيف البيت منها .. القتل إذن وما ينجم عنه من تجارب شعورية "غير معهودة" هو محاولة لتعرية التطابق بين البدائل .. كأن هذه التعرية في حد ذاتها هي المقاومة الوحيدة للطمس الأزلي للفروق .. محاولة لانتزاع "اختلاف إعجازي" عبر تأكيد التماثل .. مجابهة البلادة بواسطة اللغة التي تتفحص الوحشة العدمية الغامضة في ما يدعي أنه تغيّر مفاجئ للعالم .. الاعتيادية الراسخة التي تحتجز الحياة حتى مع ما يقدم نفسه كانقلاب أو تحوّل بالغ العنف والجذرية .. ذلك ما يجعل المرأة تصف الأمر كما لو أنه لم يتم .. كما لو أن الأشياء التي تكوّنه غير موجودة في الأساس .. أن تفاصيل الواقع ليست إلا تجسيدات لغياب استباقي حيث أن ما وقع في تلك الليلة مع زوجها هو ما يحدث دائمًا، حتى أنه لا يحدث أصلًا.

"عليّ الذهاب بالقطار. لقد كتبت رسائل إلى أمي. وإلى زوجتي أيضًا. أخبرتهما أني سأصل في قطار الثامنة مساءً. زوجتي تنتظرني في المحطة صحبة الأطفال. أمي تنتظرني أيضًا. منذ أن مات أبي وهي تنتظرني كي أحضر مراسم الدفن. وعدتها أن أحضر الدفن. أنوي أيضًا رؤية زوجتي وأطفالي الذين ... تخليت عنهم. نعم، تخليت عنهم، كي أصير فنانًا عظيمًا. مارست الرسم والنحت. والآن أرغب في العودة".

يتشابه الأمر تمامًا في قصة "قطار إلى الشمال" .. لا فرق بين أن تمتلك كلبًا (إغواءً بتحرر فني من أسر العائلة مثلًا) أو لا .. أن يكون هذا الكلب حجرًا أو لا .. أن تكون أنت حجرًا أو من لحم ودم .. أن تنتظر قطارًا أو لا تنتظر .. أن يكون هناك قطار متجهًا إلى المكان الذي تريد السفر إليه أو لا يوجد .. أن تسافر أو لا تسافر .. أن ينتظرك أحد في المحطة أو لا ينتظرك .. أن تبقى أو تعود .. التمثال "الحجري" للرجل والكلب نٌحت من قبل أن تتوهم وجودك .. من قبل أن تتوهم وجود الكلب .. من قبل أن تتوهم الخيارات بين هذا وذاك .. البلادة تسبقك .. البلادة جهّزت وشكّلت انعدامك .. "سيّان" أن تعيش في صورة أو أخرى .. لأنك مجرد من الحضور .. لأن الكلب (سراب التباين) سيبقيك أسيرًا لنمطية كلية صلبة تتجاوز فرديتك .. الكلب دليل الطمس بين الاختلافات .. جامد في مكانه كأثر دامغ لهيمنة البلادة .. كأنه تمثال سيزيف والصخرة في مرآة "أغوتا كريستوف" .. أي أن الكلب لا يمكن قتله .. أي يمكنك فقط أن تتصوّر قتله .. الحياة تتظاهر بالتحقق داخل عالم مهجور في حقيقته .. تتظاهر بالتعدد، بالحركة في مسارات بين بداية ونهاية، لكنها ليست سوى خذلانًا هائلًا، مصمتًا، غير مؤطر، لا يبرح مكانًا ولا زمنًا لأنه بلا مكان أو زمن .. الكلب ربح اللعبة مسبقًا لمجرد أنه أجبرك على الاعتقاد في كونه انفلاتًا "فاتنًا وحميميًا" من الحياة .. لأنه جعلك تبصر قبرك كما لم تفعل من قبل.

"في ما مضى، كنت أبحث، أتنقّل طيلة الوقت. كنت أرقب شيئًا. ما هو؟ لست أدري لكني كنت أحسب أن الحياة لا يمكن أن تكون فقط هذا، كأنها لا شيء. لابد أن تكون الحياة شيئًا، وأنا كنت أترقب هذا الشيء، لابد بل إني كنت أبحث عنه. أحسب الآن أن ليس ثمة ما يمكن ترقبه، لذا أجلس في غرفتي، جالسًا على كرسيّ، لا أفعل شيئًا. أحسب أن في الخارج حياة، لكن لا شيء يحدث في هذه الحياة، لا شيء مما يخصني".

تمثّل قصة "أحسب" عرضًا كاشفًا لما ينتجه التشابه الحتمي بين الموجودات، والتواطؤ فيما بينها على التخلي أو ما تتناثر قصص المجموعة في عمائه .. نتتبع مونولوجًا داخليًا جديدًا حول تضاؤل الأمل، غياب المعنى، عدم القدرة على الفعل، عدم جدوى أي فعل، الانفصال عن الآخرين، عن الذات، عدم الاكتراث، عدم إدراك ما يتعيّن القيام به، الاعتياد على الرتابة، عدم الرغبة في أداء شيء، الامتلاء التام ببلادة العالم إلى الدرجة التي يصبح معها حجم القيء مضاعفًا لكمية الأكل العادية .. الرغبة في أن يتوقف الأحياء عن التحرك، حيث كل حركة بلا طائل، مجرد إهدار للجهد .. التحايل على الغدر بتصرف طفولي، منهك، بائس، يضمن تزايد الوعي بهذا الغدر .. الألم إذن يستهلك أجسادنا في محاولاتها العبثية، المخذولة سلفًا لانتزاع ذلك المفارق والاستثنائي الملغز والمخلّص .. كأن تقمص البلادة هو فقط الشكل الممكن لرثاء الذات .. المخاطبة التوسلية الصامتة التي ربما بوسعنا قراءتها بين سطور المجموعة لذلك المجهول (الناجي) الذي كان يمكن أن يكونه كل منا ... كأن تقمص البلادة أشبه برد اعتبار ساخر من ذلك المجهول.

نستطيع أن نبصر الساطور في القصة التي تحمل اسمه كأنه المصنع في قصة "موت عامل" والذي ينتج جثثًا مثلما يصنع الساعات حيث "السرطان" ليس نتيجة للعمل وإنما هو العمل نفسه .. السرطان الذي لا يتعلق بإغماض العينين أو بإبقائهما مفتوحتين .. المصنع يستخدم العمال في القتل مثلما يستعمل الساطور المرأة للغرض ذاته .. الساطور / المصنع هو الـ "سيّان" حيث لا يكون هناك فرق بين النوم والموت، بين الكلام والصمت، بين التذكر والنسيان .. الساطور / المصنع لا يترك ماضيًا قابلًا للاستعادة.

"ثم مات، ومثلما ظن، اضطر سنوات طويلة ـ إلى الأبد ـ إلى أن يعود ويسكن الأزقة التي لم يكن قد أحبها بعد، على ما يعتقد، بما يكفي. أما فيما يخص الأطفال، فقد كان همّه مجانًا، لأن عيونهم كانت تنظر إليه باعتباره شيخُا مثل غيره من الشيوخ، وبالنسبة لهم لم يكن ثمة فرق بين أن يكون ميتًا أو حيًا".

إن ذلك الحب الحسي العنيد الراسخ للأزقة، "الذي يكاد يكون فاحشًا" في قصة "الأزقة" لا يتعلق بالأزقة نفسها وإنما بالشبق الوحشي لدى الشغوف بها لامتلاك باطنها .. للقبض على سرها الغيبي الذي تسكنه فرادتها .. تمايزها القادر ـ حين يبلغ ذلك الاستحواذ ـ على تحريره من ورطة الطمس .. من مأزق التشابه .. كان يستنطق بموسيقاه في القصة أسطورية هذه الأزقة لتصبح ممرات حقيقية "خارقة" نحو ما يتجاوز الحياة والموت .. ما يتخطى فعليًا لعنة غياب الفرق بين أن يكون ميتًا أو حيًا.

إن الطمس الأكثر أساسية لدى "أغوتا كريستوف" في هذه المجموعة يتعلق باللغة .. كأن قصصها تأكيدات على أنه لا فرق بين أن تتحدث عن شيء بصيغة أو بأخرى .. لكن ذلك التيقن يبدو عند "كريستوف" بوصفه الكيفية المتاحة لأخذ مسافة "حلمية" من التطابق .. لتحريض الأشياء على تعيين الفروق فيما بينها .. الفروق العصية والمخبوءة في غيب الجمود أي الخام الذي تستعمله اللغة .. الفروق المنقذة .. تلك المسايرة هي موضوع الاحتفال .. تحويل البلادة من حتمية قدرية إلى لعبة جمالية .. مطاردة السرد للتماثل من خلال التوحد اللغوي بالتماثل نفسه .. مناوشة الفكرة عبر التناغم والتجانس مع القرائن الحسية التي تثبتها .. ومع ذلك فالارتكابات السردية لا ترتكز على "الحكي" بقدر ما تراهن على الشعرية المستقرة في خفائها .. تكوّن الأحداث المكثفة واللغة المقتضبة نوعًا من العاطفة الشبحية الناقمة لصوت منعزل، مدفون في "اللاحضور"، في الصلابة المعتمة والفارغة للتيه .. تستخدم "أغوتا كريستوف" السرد كإشارات لتمرير ذلك الصوت الوحيد وليس كاستناد عفوي على الوقائع ومدلولاتها .. كأن الإشارات هي تفكيك لمفهوم "الحدث" بما يوطد الاشتباك مع "البلادة" التي تدعي وقوعه وتمنعه في الوقت ذاته .. شعرية البلادة في قصص "سيّان" انتهاك للمشابهة عن طريق إعادة خلق "التخلي".. تمثيل "الغدر" كأنه الجسد الفعلي الذي لا يراوغ كينونته القهرية، وإنما يقتحمها .. يجتاح الهوية الكونية التي تعيش داخله كروح سرية، وتوظّف أداءاته المكرهة كسلوك "طبيعي" .. يفضح ـ بالحدة الواجبة ـ الفناء المحصن، الممهد للموت.

جريدة "أخبار الأدب" ـ 2 يوليو 2022

صدى ذاكرة القصة المصرية (قصة أونلاين) " بين السابعة والتاسعة مساء " ممدوح رزق