الاثنين، 29 يناير 2018

أبوية القارئ (3)

ربما حينئذ سيدرك هذا الناقد الذي تعوّد على الخلط بين القارئ اليقظ، المجادل، غير المسالم أو (الخالق) للنص، وبين استبداد القراءة أن هذا القارئ هو خالق لذاته بواسطة النص، وهو ما يؤدي بالضرورة على نحو متزامن إلى (خلق النص) نفسه .. لكن بما أن الإنسان يكافح دومًا ضد فرديته التي تُبقي (المعرفة) داخل حدودها المغلقة، وتمنع انحيازاته من التحوّل إلى سلطة تتجاوز نفسها؛ فإن القراءة تصبح ممارسة اجتماعية دون أطر، يستهدف الإنسان بواسطتها ألا يكون فردًا، وأن يكون أكثر من ذاته نحو تعددية سائلة وتناسل مطلق يتخطى لحظات (المشاركة التخييلية، والبناء المتواصل للمعنى) إلى نوع من الهيمنة عن طريق امتلاك علاقات القوة عبر الفضاءات ـ (العنكبوتية) مثلا ـ التي تُحرّض القارئ، وتقدم له الأدوات والإمكانيات المغرية لأن يصير جزءًا منها، أي أن يكون أسيرًا لصراعاتها (المقاربات والتقييمات المتعارضة)، باعتبارها من يحدد (القيمة الثقافية) لوجوده!.
حينما يكون القارئ هو (العالم) خارج فعل القراءة، أي عبر آليات السلطة التي تطالبه طوال الوقت بإثبات ذلك، أي أن يؤكد كفاءته في السيطرة على ما قد يُسمى في تصوره بـ (الوعي العام)؛ فإن النص يتحوّل من (موضوع) إلى (وسيلة) لخدمة الذات التي تخسر فرديتها، لدعم ما هي عليه، لإخضاع الآخرين ليقينياتها، للامتثال إلى تاريخ يواصل مراكمة ثوابته، وهو ما يعني ـ كدفع بديهي للثمن ـ مفارقة النص لما يريده لنفسه كـ (كتابة) ليصبح غرضًا استغلاليًا للانتقام من الحياة والموت، أو الثأر من أشخاص بعينهم، أو التعويض عن هزائم لا يمكن تضليلها ـ أي الاستسلام لها ـ بطريقة أخرى.
إذا كانت الكتابة هي عدم اكتمال، تحولات لا تنتهي، دائمًا بسبيل الحدوث، وليس تمامه، وإذا كانت تتجاوز كل مضمون مدرك، ومختبر، وإذا كانت انتقالا مستمرًا يخترق التجارب كافة، ويمر عبرها؛ فإن نجوم التقييم هي المقاومة المضادة لتلك الصيرورة .. تقوم نجوم التقييم للأعمال الأدبية على نحو عدائي بإثبات متوهم لاكتمال النص عند لحظة ما، تجميده، إيقاف لتحولاته، تناوله كحدث تم إنهاؤه. ليس هذا فحسب، بل إن هذا الكبت لا يتوقف كعقيدة منفردة عند تخوم مقفلة لحيز ذاتي (وضعية النجوم داخل فضاء خاص)، وإنما يصبح هذا الصد لتخطي المضامين مبدأً مقطوعًا به ـ ضمن مبادئ أخرى ـ ويصبح منع الانتقال المستمر، واختراق التجارب قانونًا لا شك فيه ـ بمشاركة قوانين مختلفة ـ حينما تمتد الهيمنة (القيمية) للذائقة الأدبية من الفضاء الخاص (صفحة المستخدم) إلى الفضاء العام (صفحة الكتاب) .. إنه إسباغ القداسة المضيئة بالأحمر على (المرض) الذي كان يعني عند (نيتشه) التوقف عن الحركة:
(لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصًا في قصده، بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المشكك فيه لأن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه مجاراة لأهوائه، بل يهيم بها لذاتها ولو كان ذلك مخالفًا لعقيدته، فإذا اعترضته فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها، فلا يتردد أن يأخذ بها، إياك أن تقف حائلاً بين فكرتك وبين ما ينافيها).
موقع (الكتابة) ـ 28 يناير 2018

الخميس، 25 يناير 2018

مكان بعيد لا يجب مغادرته

أكتب نوڨيلا اسمها (رجل مضحك، يجلس في الظلام ويشاهد الماضي).
سأعيد (دوستويفسكي) إلى الحياة
وأقوده لكتابة (حلم رجل مضحك) بطريقة أخرى.
سأكون أنا الرجل المضحك
الذي يحكي قصة اللجلجة التي تنتقل من الجسد إلى النص فيظل (مسودّة)
أما الطفلة المستنجدة واليائسة فستكون ابنتي
وبالطبع لن تصرخ: (أمي .. أمي الحبيبة)
بل ستسألني بعتاب مألوف: (أبي .. لماذا أطلقت ضراطًا ثانية؟).
أعطيت احتمالات محددة لليقين الذي ستكوّنه طفلتي
حينما تقرأني بعد عشر سنوات أو أكثر
مجنون .. مُنحل .. بائس لم يكن ينبغي أن يعيش بعد عام 1989
لن تذكر شيئًا عن الحرب أو الخراء أو المرايا المفتتة
لأنه لم يكن هناك بالفعل حرب أو خراء أو مرايا مفتتة
هناك عجوز دائم السرقة بعينيه
يتظاهر أنه لص حقيقي
رغم نظرته الثابتة التي لا تأكل إلا نفسها.
لن تذكر شيئًا عن الدماء
التي كانت تسيل من ضحكاتي
وهي تدغدغدني كل مساء قبل النوم.
لكنني أتمنى أن أنجح في خداعها
قبل أن ترفع خنصرها الضئيل في وجهي للأبد.
ربما أجعلها تحب (كافكا) أولا:
"ليس من الضروري أن تخرج من بيتك. لازم طاولتك واصغ. بل دع الإصغاء واكتف بالانتظار. بل دع الانتظار واكتف بالعزلة، فالعالم سيحضر واهبًا نفسه إليك، كي ترفع عنه أقنعته، ومنتشيًا سيتلوّى أمامك". 
 أو (كيركيجور):
"ليس لي إلا صديق واحد فحسب ذلك هو الصدى .. ولِمَ كان الصدى صديقي؟ لأني أحب آلامي وهو لا يسلبني إياها .. وليس لي سوى شخص واحد أودعه سري:  ذلك هو صمت الليل! ولِمَ كان مستودع سري؟! لأنه يصمت!".
وربما (بودلير):
"ـ آه من تحب إذن، يا أعجب الغرباء؟ ...
ـ أحب الغيوم .. الغيوم التي تعبر .. هناك .. هنالك .. تلك الغيوم الساحرة!".
...
ربما يستطيع عواء أي منهم أن يسحب ابنتي
إلى تلك الصدوع المختبئة في الهواء
فتجدني مقيمًا هناك
كشبح سقطت أشلاؤه من فم أبيها
وهو يلعق بدقات قلبه
الفرج المسدود لساعة الحائط
التي يملأ شعر عانتها الخيال
قبل أن تتكفل العتمة بتجميعه.
نعم يا حبيبتي
ستقدرين على الجلوس فوق فخذيّ الشبحيتين مثلما تحبين
وسيمكنك أيضًا أن تعطيني القبلة المعتادة في خدي الشبحي
ـ سنستطيع أن (نتشبث) في البرد أيضًا ـ
وستظلين كما أنتِ
الحلم الشهواني
العابر في سلالة الاستعراضيين
مواصلا التلفت في مكانه.
الروح الشريرة التي بترت أطرافي
مدمنة الاغتصاب من حسن الظن.
الإثم الأعظم
الذي حوّلني إلى صورة منتحرة لجميع الآلهة. 
ستحتفظ المتعة المتفاخرة بجسدي
وأنا أراقب كوابيسي التي مرت إلى دمائك
وهي تنمو كنسخة كارتونية
من الملل الذي أصبح مرعبًا
بعد أن كان مجرد رعب ممل.
الكوابيس التي كان يمكن أن تنتهي
بمجرد التوقف عن التفكير في نفسي
كمركز معطّل لهلاوس العالم.
سنواصل الحكي عن غموض المدن
عن التماهي الصامت مع الظلال القديمة
عن استمناء الشيطان للتراجيديا
عن التلصص على النسيان
الذي قد ينقذ مصيرنا.
ربما ستحبين (سيوران) أيضًا:
"إذا كان الإنسان يفرض على نفسه الإيمان بأشياء معينة، فهذا فقط لكي لا يقتل نفسه. لأن الانتحارهو النتيجةُ المنطقيةُ لحقيقة أن لا شيء يصمد أمام تحليلٍ صارم، أو تفكيرٍ قاس. من الغريبِ جدًا أن أكون قد تحدثت بهذا القدر عنِ الانتحار، أنا الذي أحب الحياة كأي شخص آخر، بل أكثر من أي شخص آخر".
أو (ريتسوس):
"رفضني الجميع
ورفضتُ كل شيء
وكل ما أحببت
أخذه مني الجنون والموت".
وربما (هنري ميللر):
"الشرط الوحيد الذي كنت أهتم لوجوده في أصدقائي، مهما كانت الطبقة التي ينتمون إليها أو مهما كان وضعهم في الحياة، هو أن أكون قادرًا على الحديث معهم بكل صدق .. إذا لم أنجح في فعل هذا، كنت أتخلص منهم".
...
ستفكرين معي في أن كل طفل يُرسَم
يعود إلى الرحم بطريقة ما
أو القبر البدائي كما سنسميه
سأشرح لكِ أن الكلمات مطاردات سرية
بين الغيوم والجدران
وأن الألوان رجاءات فكاهية
تراقب تبددها
في حكمة الضباب.
وحينما تسألينني عما إذا كان للعزلة ثديان كبيران
سأعرف أنك لا تقصدين تلك النائمة كقطة صغيرة فوق الطاولة
أو المغلقة بالأبواب والنوافذ في الليل
أو العائمة داخل السُحب الكثيفة
التي تُحرّكها الرجفات المختبئة قبل الغروب
بل التي يكتمها الشبق
وراء الضحكات غير المبررة.
photo by Sunhi Mang

الاثنين، 22 يناير 2018

أبوية القارئ (2)

كان يمكن لنجوم التقييم أن تعطي حقيقة بالفعل لو كانت الكتابة ـ وهو نوع من الهلوسة المضحكة أكثر منه افتراضًا ـ خاضعة إلى سلطة شمولية يمتلك كل قارئ مهما كان، وحتى مع اختلافه عن قارئ آخر الأحقية في تحديد مدى انضباطها وفقًا لقوانين وأحكام هذه السلطة، لكن في مقابل عدم خضوع الكتابة لأي تعسّف عام أو شخصي، يمكن لأي قارئ ـ حتى لو لم يكن قارئًا أصلا ـ وبواسطة أكثر من حساب على جودريدز أن يلعب بحرية في القداسة التقييمية الزائفة التي تدعيها النجوم الحمراء.
إن الكاتب ـ بعكس ما تنظر إليه مواقع كجودريدز مثلا ـ ليس الطبّاخ الذي يطهو خصيصًا للآخرين، وعليه أن يُرضي جميع أو أغلب زبائن المطعم؛ فهو لم يؤلف كتابه من أجلك أنت بل لنفسه أولا، وللآخرين الذين يمكن لهم العثور على دوافع للمشاركة بأي صورة في هذه التجربة، أما استجابة القارئ للكتاب فهي أمر خاص به أكثر مما يمثل الكتاب نفسه؛ إذ أن التأويل فعل أبدي، لا يتوقف عن إنتاج القراءات المتغيرة للنص الواحد، وجميع هذه النصوص الموازية والمختلفة التي يقوم القارئ بخلقها هي نصوص شخصية توثّق وعي هذا القارئ في أزمنة متباينة، أي أنها تجسّد حياة ذلك الشخص الذي يعيد كتابة النص، وليس يقينًا حاسمًا للنص نفسه الذي لن يمكن أن يتوقف عند تأويل محدد.
تعبّر (روث أوزيكي) عن هذه الفكرة بطريقة مميزة:
(كل معنى يتم تكوينه بالتواصل، وبالتالي فكل معنى نسبي. لا يوجد كتابٌ واحد مطلق، وواضحٌ أنه لا يوجد قارئٌ واحد مطلقٌ أيضاً، هناك فقط نتاج التبادل، المعنى الذي نكونه، أنا وأنت، في لحظة معينةٍ حين تطوف عيناك على الكلمات ويفسرها عقلك بدوره. ولأننا في تغيّرٍ دائم، فالكلمات التي تقرأها اليوم تعني شيئاً مختلفاً للغاية إن قرأتها بعد شهرٍ أو سنةٍ من الآن. إن عدتَ يوماً لقراءة قصةٍ أحببتَها في طفولتك ستعرف كم هذا صحيح. القصةُ مختلفة، تكونَتْ مجدداً بتغيّر ذاكرتِك عن الزمان و المكان. غرفة نومك كطفل، لون الجدران، نوعية الضوء وصوت أحد والديك يقرأ بصوت مرتفع، بالإضافة إلى الحياة التي عشتَها في السنوات المنصرمة مُذ قرأتَ النص آخر مرة).
إذا لم تكن هناك قوانين جمالية مفروغًا منها ويتعيّن اتباعها في العمل الروائي مثلا لإعادة تشكيل تجربة القارئ؛ فإن الطرق المتحوّلة التي يعيد بواسطتها هذا القارئ تشكيل العمل الروائي ليست قوانين هي الأخرى بل ملامح لخبرة دائمة التكوّن، ومرجئة الإشباع طوال الوقت .. إذا لم يكن هناك (الكاتب) بألف لام التعريف، الكلي، (الإلهي)، فإن (القارئ) بألف لام التعريف، الكلي، أو (الإلهي) ليس له وجود أيضًا وإنما يدعي فقط لنفسه هذه الإلوهية .. هناك (كاتب / قارئ)، و(قارئ / كاتب) فحسب، أي انعدام تام للهيمنة المثالية، سواء لكاتب يسيطر بلذة التداول الكامل على جميع القراء، أو لقارئ (مخاطب وحده، أو محكي له وحده) يسيطر (بلذة المعنى الواحد) على جميع الكتّاب .. نحن نضيف ألف لام التعريف للكاتب أو للقارئ للإشارة إليه في حالة معينة (هنا والآن)، وليس ذلك الكائن الذي يقدم نفسه ممثلا لجميع القراء (في كل مكان وزمان).
إذا كانت هناك أسس نمطية لفئة أو حتى لجمهور من القراء أنتجتها الأيديولوجيات والثقافات والمدارس الأدبية المختلفة فإن إعطاء القارئ السلطة المطلقة (التي تتجاوز حدوده الذاتية لتصبح "حقيقة" عامة) هو بمثابة ترسيخ لهذه الأيديولوجيات والثقافات والمدارس الأدبية التي ربّت هذه الذائقة وحوّلتها إلى قوالب جامدة، مترصدة، رقابية وعقابية في الوقت ذاته.
يخلط كثير من النقاد بين القارئ اليقظ، المجادل، غير المسالم أو (الخالق) للنص، وبين استبداد القراءة، ولا يرجع هذا سوى لأن لكل ناقد من هؤلاء تصوره الخاص جدًا الذي يحتكر الصواب حول اليقظة والجدل وانعدام المسالمة .. حول الكيفية التي يخلق القارئ النص من خلالها؛ ذلك لأن هذا الناقد يستبعد وفقا لذهنيته الشخصية أشكال التفسير الأخرى المحتملة (المشاركة التخييلية، والبناء المتواصل للمعنى) التي سيكون لها هذا الحق (الإلهي) الذي أعطاه لمن يتوافقون مع عقيدته التأويلية، وهو بهذا يمتلك ـ للمفارقة ـ تصورًا احتفائيًا ساذجًا بـ (وعي القارىء غير الساذج)، لأنه لا يرى ولا يعرف عن (القارئ) سوى ماهية محددة، صورة أحادية تتوائم مع ذاته كناقد، وهي غفلة قد لا يفيق منها إلا إذا تحوّل من (ناقد) إلى (كاتب) أي أن يضع نصه الأدبي (الذي يراه متخلصًا من آثام الحكمة ومنفتحًا على متعة الشك مثلا) أمام (القارئ)، أي هذا الكيان الاستثنائي الخارق الذي لديه صلاحيات كونية تتخطى كونه (قارئًا)؛ فيجد نفسه في مواجهة عنف متعدد لأنماط أدبية أو دينية أو فكرية معادية لهذا النص تدعي أنها لا تمثل نفسها، بل هي (القراءة) ذاتها .. حينئذ سيشعر هذا الناقد (كاتب النص) أنها اللحظة المناسبة للتحدث عن أن هذا الشكل من التلقي ليس أكثر من (وجهة نظر)، تعبّر عن وعي صاحبها فحسب!.
موقع (الكتابة) ـ 21 يناير 20018

الأربعاء، 17 يناير 2018

كأنه مكان للسير

إلى مدحت رزق
لم يكن لدي إدراك كامل لطبيعة علاقته بأصدقائه، وإن كنت أعتبر أن عودتك مبكرًا إلى المنزل في المساء خلال فترة البطالة لا تعني أنك لم تحصل على أي من المعجزات الصغيرة التي تعوّدت على الخروج بحثًا عنها بعد كل غروب مع رفقاء ثابتين فحسب، بل تعني أيضًا أن الضجر قد وصل بك إلى درجة من غياب الرحمة تحوّلت معها المقاهي والشوارع من رئات بديلة إلى شرايين مسدودة .. أظن أنه كان يفضل قضاء ما تبقى من الليل بأقل قدر من الإنهاك، وفي نفس الوقت كنت أمتلك يقينًا ـ دون أدلة تتخطى ملامحه ـ بأنه الوحيد الذي يترك طاولة المقهى ويرجع إلى البيت، بينما يظل أصدقاؤه كاملي العدد حتى نهاية السهرة، وأنهم يرحلون إلى منازلهم كمجموعة واحدة لا ينقصهم إلا هو .. تدريجيًا بدأ يثبّت تغييرًا في الروتين اليومي لما بعد العودة المبكرة إلى المنزل؛ كان في العادة يبدّل ملابسه ثم يتناول العشاء أمام التليفزيون في الصالة، وإذا كان ما يُعرض على الشاشة فيلم أو تمثيلية أجنبية، كان يواصل الجلوس أمامها حتى موعد النوم، أما في الأحيان الأخرى فقد كان يغلق على نفسه حجرة الصالون، ثم يجلس بجوار شباكها لينظر إلى الشارع عبر الفرجة الصغيرة بين ضلفتيه المتصلتين بالشنكل .. كان كل شيء يتناقص مع مرور الليل أثناء جلوسه الصامت وراء الشباك: العابرون .. السيارات .. الأضواء .. الأصوات .. أعقاب السجائر التي تتساقط من فرجة الشباك الصغيرة كانت هي الشيء الوحيد الذي يتزايد؛ كأن ثمة ارتباط بين الاختفاء التدريجي للحياة داخل الشارع، واستمراره في التدخين طوال الليل .. لكنه في أحد الأيام قرر بدلا من الجلوس في حجرة الصالون أن يقرأ واحدة من روايات مصرية للجيب التي أمتلكها .. كان هذا المساء بداية لعادة يومية أقرب إلى الطقس الذي لا يمكن إهماله .. أصبح بعد الرجوع المبكر إلى البيت، يجلس في سريره بعد تناول العشاء ليقرأ رواية من (ملف المستقبل)، أو (رجل المستحيل)، أو (المكتب رقم 19) .. كان يقرأ أحيانًا روايتين في ليلة واحدة، وأحيانًا كان يضطر لترك سريره واستكمال القراءة في حجرة الصالون كي يسمح لشقيقته الكبرى التي تستيقظ لعملها في الصباح الباكر أن تطفئ النور وتنام .. كنت سعيدًا لأنني حصلت داخل المنزل وبصورة غير متوقعة على من يشاركني هذا الشغف، وكنت سعيدًا أكثر لأن الشخص الذي يشاركني التعلّق بهذه النوعية من الكتب كان هو تحديدًا.
بعد فترة من مواصلة القراءة اليومية، وعندما رن الجرس ذات مساء، فتحت الباب فوجدته يقف أمامي ويحمل في يده اليمنى ثلاثة أعداد من روايات مصرية للجيب .. كان مبتسمًا كمن يغطي حرجًا ما أثناء تجاوزه العتبة ومروره أمامي .. رفع يده التي تحمل الكتب قليلا وهو يوّسع من ابتسامته دون أن يوجّه بصره لي ثم أجاب على الاستفهام المندهش الذي لم أنطق به كأنه يحاول  إبقاء الأمر في حدود الدعابة: (اشتريتهم).
بدت نبرته في أذنيّ كأنه يقول شيئًا آخر لا علاقة له بالروايات .. شيء يتسق تمامًا مع عينيه في تلك اللحظة، ومع الطريقة التي يحمل بها الأعداد في يده، والتي جعلته أشبه بطفل مسالم يحمل مقررًا دراسيًا سيساعده في الحصول على عالم يليق بروحه البيضاء .. كانت تلك هيئته الأصلية التي احتفظ بها طوال حياته، ولكن ما أضيف إليها ذلك اليوم جعلها في عينيّ أكثر إيلامًا .. أغلقت الباب بابتسامة باهتة تحاول إخفاء تأثير المشهد من وجهي كي لا ينتقل إليه في شكل عقاب من الشفقة شعرت أنه يتوقعها ويخشى مواجهتها .. التفت إليّ ثم مد يده التي تحمل الروايات، وبملامح تحوّلت ابتسامتها إلى طيف شاحب، وبنظرة متمسكة بعدم التطلع في عينيّ ، وبنبرة تتحرّك من الخفة الممازحة إلى الجدية البسيطة قال: (شوف كده الأعداد دي عندك).
كأنه كان يريد أن ينهي ارتباكه بهذه العبارة التي تُعادل التبرير .. أن يجعل هذه المفاجأة تخصني أكثر مما تتعلق بالخذلان الموحش الذي كان مجرد ضجر في الماضي .. أن يجعلها تخص شغفنا المشترك أكثر مما ترتبط بالأصدقاء والمقاهي والشوارع التي يعود منها مبكرًا .. لم أكن أريده أن ينتبه إلى الوجوم المرتعش الذي يزيح ابتسامتي الباهتة تدريجيًا وأنا أخبره بعدما انتقلت الروايات الثلاث إلى يديّ بأنه ليس لدي بالفعل أي منها، لكن ما كنت أشعر به كان أقوى من قدرتي على إبقاء الأمر عاديًا .. كانت الأعداد التي اشتراها مستقرة في مكتبتي منذ زمن، ولكن بالطبع لم يكن من الممكن أن أزرع في غفلته هذا الجرح من خيبة الأمل .. قررت دون تفكير التخلص بأسرع ما يمكن من النسخ القديمة لهذه الروايات كي لا يكتشف كذبتي .. تركني متوجهًا إلى حجرتنا لتبديل ملابسه بينما أتابعه في صمت كأنني أؤكد له على معرفتي بما لا نستطيع أن نبوح به .. أن انتصاراتنا ليست في الخارج بل في ما يغتنمه الآخرون الخياليون الذين نعجز حتى عن تقمصهم جيدًا في أرواحنا ونحن جالسين في سرائرنا أو وراء شبابيكنا المواربة آخر الليل .. أدرك أن العالم تحوّل كليًا إلى هذه العزلة، ولهذا قررت أن يكون لك دورًا في تأمين احتياجاتها من الأحلام المنطوية على نفسها بعد أن كنت تعتمد عليّ في ذلك .. حتمًا كان سيخبرني بأنه مر أمام المكتبة صدفة لو سألته عن التفاصيل، لكنني أصدق أن خطواته تعمدت التحرّك إلى هناك بعد أن ترك أصدقاءه وخرج وحيدًا من المقهى .. أعرف أن هذا الشاب الذي بالرغم من وجوده المحدود خارج البيت لم يتوقف عن الاحتفاء بالأحذية، والحرص على اقتناء الكثير منها، والعناية بها، فضلا عن توقفه العفوي أمام كل فاترينة تعرضها، كأنه يجهّز مخزونًا لائقًا بالخيال حين يتحقق، ويصبح بإمكانه المشي فعلا؛ أعرف أن هذا الشاب قرر شراء الروايات بعد أن ظل صامتًا فترة طويلة داخل ضجيج المقهى، ولهذا لم أسأله.
الآن وبعد مرور سنوات كثيرة جدًا، توقف خلالها عن قراءة روايات مصرية للجيب، وعن الذهاب إلى المقهى والجلوس مع أصدقائه، بينما استمر في الاحتفاء بالأحذية؛ ها أنا أجلس فوق الدرجة الأولى من السلم المجاور لباب شقته المفتوح .. أستطيع أن أرى بوضوح تام باب حجرة نومه المغلق، والملاصق لباب الشقة .. أثناء صعودي مررت على بعض أصدقائه الواقفين تحت العمارة، والذين جاءوا بأسرع ما يمكنهم .. احتضنني أحدهم وهو يبكي بشدة، بينما رحت أربت برفق على ظهره بملامح جامدة .. كأن الجثة الراقدة وراء الباب المغلق لأخيه هو، وكأنني صديق هذا الأخ الذي لم يمر على موته سوى أقل من نصف ساعة .. أسمع من مكاني فوق السلم البكاء الجماعي الصاخب المقترن بتدوير كليشيهات الفجيعة للنساء المحتشدات في الصالة، والذي يتخلله الصوت المرتفع لقارئ القرآن المنبعث من التليفزيون كأنه يشدو بترانيم منتشية لقاتل متسلسل .. تخرج سكرتيرة أخي وتقف أمامي بوجه ممتقع، والدموع تتدفق من عينيها .. أسألها بصوت خافت ومتوسل عما حدث، كأن حصولي على هذه المعرفة سيعيد أخي إلى الحياة .. تخبرني بلهجة من يسرد خرافة لا يستطيع تصديق حدوثها أن أخي أتى إلى المكتب في السادسة والنصف، وكان طبيعيًا للغاية، وفي حالة صحية مثالية، لكن بعد تجاوز السابعة بدقائق قليلة، وبينما كان جالسًا وراء مكتبه شعر فجأة ببعض التعب فطلب منها أن تُحضر واحدة من الليمون المخلل من البقّال المجاور .. حينما عادت بها إليه، وبدأ في أكلها طلب أن تعد له كوبًا من الشاي، لكنها بعد أن جاءت إليه به؛ رأت وجهه قد تحوّل إلى الاصفرار الشديد كما تناثرت قطرات العرق فوق جبهته رغم برودة الجو .. أخبرها أن تذهب لتنادي صديقه الطبيب الذي تقع عيادته على بُعد خطوات من المكتب كي يقيس له ضغط الدم .. عندما رجعت إليه بالطبيب وجدته ممددًا على الأرض، فاقدًا للوعي .. أخبرها الطبيب أنه يحتضر، وينبغي نقله إلى المستشفى فورًا .. أسرع بعض من جيرانه داخل الشارع بالانتقال به سريعًا إلى أقرب مستشفى في سيارة أحدهم لكنه وصل إلى هناك ميتًا.
كان صوتها مرتجفًا، وجسدها ينتفض، والدموع يتزايد انهمارها على خديها، وحينما رأتني أوجّه بصري إلى الأرض دون كلمة واحدة بعد انتهاء الحكاية القصيرة قالت: (البقية في حياتك) .. تركتني لتنزل السلم، وأنا أصغي لابتعاد خطواتها المثقلة بالصدمة وأفكر في بقية حياتي.
تدور عينيّ داخل المساحة الصغيرة أمام باب الشقة المفتوح والمضاءة بالنور الأبيض لمصباح النيون الذي يعلو الباب .. لا أستطيع أن أرى أخي الآن كشخص آخر غير ذلك الشاب في بداية الثلاثينيات الذي كان يقف فيه عند عتبة بيت العائلة حاملا في يده اليمنى ثلاثة أعداد من روايات مصرية للجيب .. كان الوقت مساءًا أيضًا، كما كانت هناك مساحة صغيرة مماثلة أمام الباب الذي فتحته بعد أن رن الجرس .. أشعر في هذه اللحظة بأن ما كان متواريًا في ذلك الفراغ المسائي القديم يعلن الآن عن نفسه لي بأكثر الأساليب وقاحة داخل نسخة منه، أو ربما كان هو الفراغ ذاته وقد تمدد مع خطوات أخي التي ظلت تعبر هذه العتبة طوال السنوات الماضية، ثم تجاوزها ميتًا منذ وقت قليل محمولا فوق الأكتاف.
أسمع صوت أقدام تصعد مصحوبة بهمهمات ضعيفة ومتقطعة .. يمر أصدقاؤه أمامي واحدًا وراء الآخر .. يتطلع كل منهم إلى وجهي بذهول ثم يدير رأسه ولا يقول شيئًا .. الصرخات متحجرة في عيونهم .. خطواتهم بطيئة، مرتعشة .. الألم يخنق ملامحهم دون بكاء .. أحيانًا تكون الدموع إدانة للباكي .. استجابة رخيصة لا تليق بالفقدان .. يصبح غيابها في المقابل دليلا على الاحترام وعدم التورط في الاستهانة .. يستأذنون زوجة أخي في إلقاء النظرة الأخيرة عليه .. أحدّق في وجوههم وأفكر في أنهم يكشفون الآن عن قرينة لجريمة أفظع من البكاء .. أنهم قادرون ببساطة على رؤية صديقهم ميتًا .. تفتح لهم زوجته باب الحجرة .. يعبرون إلى الداخل تباعًا بينما صفوف أحذيته الكثيرة تظهر لي متراصة فوق أرفف الخزانة المستندة إلى جدار الحجرة .. أنظر في عيني كل واحد منهم بعد أن يدخل، ويحرّك بصره حيث يقع السرير غير المكشوف لي محاولا دون إصرار تخيّل أخي الممدد فوقه عبر نظرة صديقه .. تختفي خزانة الأحذية مجددًا عن عينيّ مع إغلاق الباب .. لماذا يغلق أصدقاؤه حجرة النوم الآن؟ .. ليس بوسعهم رؤية أخي ميتًا وحسب، بل يستطيعون أيضًا الانفراد بموته دون إحساس بالعار .. لا أحد منهم يعجز عن قبول تحوّل أخي إلى جثة .. لا أحد منهم يشعر بضرورة تفادي مواجهة تلك الحقيقة طالما لا يستطيع تغييرها .. لم تمر سوى دقائق قليلة حتى فُتح الباب، وخرج أصدقاؤه بنفس الملامح التي دخلوا حجرة نومه بها .. كأنهم لم يفشلوا في خدش الجحيم بقدر ما كانوا جزءًا من سعادته المتشفية .. تظهر خزانة الأحذية مجددًا لي قبل أن تختفي ثانية مع إغلاق الباب بيد آخر من خرج .. قالت أختي الكبرى فيما بعد أنهم أرادوا توديعه في نطاق من الخصوصية اللائق بالعمر الطويل لصداقتهم .. أختي أيضًا كان بوسعها أن تبكي كما لم يبك أحد في العالم .. كان في استطاعتها كذلك أن تغلق على نفسها باب الحجرة مع جثته وتتحدث معه .. أما أنا فبدلا من البكاء ورؤية موته سأظل كل يوم لأسابيع طويلة وفي لحظات النوم الخاطفة أرى نفسي داخل مكتبه يوم السبت 2 فبراير 2013 في السابعة مساءًا .. أقف أمامه وهو جالس ممسكًا بالريموت كنترول ويقلّب قنوات التليفزيون الذي يعلو الطاولة المستقرة أمام المكتب، بينما في يدي حقنة لا أعرف عن الدواء الذي تحتويه أكثر من أنه سيتكفل برفع ضغط الدم بمجرد أن يشعر أخي بأعراض انخفاضه .. كأنني كل مرة أشعر بأن الحلم سينتهي قبل تمكني من إنقاذه؛ لذا أحاول دائمًا أن أحقنه بالدواء قبل بداية شعوره بالتعب وهو يقاومني باستغراب ضاحك بينما أرجوه الاستجابة لي بنبرة تكتم نحيبًا ثم أستيقظ.
مرت خمس سنوات .. تخلصت من جميع أصدقائي .. لم أعد أخرج من البيت إلا نادرًا .. مازلت أتردد طويلا قبل شراء حذاء جديد .. عدت إلى القصص والروايات البوليسية التي كنت قد توقفت عن قراءتها منذ أكثر من عشرين عامًا .. لم أعد أحلم باللحظات التي سبقت موت أخي، لكن صورة أحذيته المتراصة داخل الخزانة بجوار جثته ما زالت تطاردني في اليقظة.
اللوحة: By the deathbed by Edvard Munch
أنطولوجيا السرد العربي ـ 15 يناير 2018

السبت، 13 يناير 2018

لغة جنائزية

في بداية المساء وقبل أن تخرج زوجتي مثل كل يوم مع طفلتي للذهاب إلى أمها سألتني عند باب البيت إذا كنت أريد شيئًا .. طلبت منها أن تشتري صحيفة لي؛ إذ لم أكن متأكدًا من خروجي الليلة .. قبل أن تغلق الباب وراءها نبّهت عليّ بألا أنسى إحكام غلق باب الشرفة إذا ما فتحتها كي لا يدخل أحد الفئران المتسللة من السطح .. أعددت كوبًا من الشاي ثم فتحت الشرفة لأقف بداخلها عدة دقائق، وبعد خروجي لم أنس إغلاقها .. اتصل أحد أصدقائي بعد قليل كي يطلب لقائي في المقهى .. لم يكن لدي انشغال بأمر هام؛ لذا بدّلت ملابسي ثم خرجت واستقللت تاكسيًا .. شاركت صديقي الجلوس ساعة ونصف تقريبًا ثم غادرنا المقهى .. تركني صديقي عائدًا إلى بيته بينما دفعني الطقس البارد الممتع إلى أن أقرر التمشية قليلا قبل رجوعي إلى المنزل .. بعد ما يقرب من عشر دقائق، وبينما كان البيت لا يزال بعيدًا على نحو ما، والطريق الواسع تتدفق من خلاله السيارات المسرعة على الجانبين؛ رأيت امرأة قادمة من بعيد .. لم يكن هناك بشر كثيرون يفصلون بيننا في هذا الليل البارد، لذا كنت قادرًا على رؤية وجهها بشكل متواصل وهو يتضح تدريجيًا مع اقتربها .. كانت زوجتي .. للوهلة الأولى لم أعرفها ولا أدري لماذا .. كانت تحمل الملامح ذاتها، وترتدي نفس الملابس التي خرجت بها من البيت في بداية المساء، ومع ذلك شعرت أنها تمثل في هذه اللحظة وجودًا مبهمًا، وأن ثمة ضرورة لمحاولة اكتشاف صلتي به .. ظللت أحدّق في وجهها مبطئًا من خطواتي ثم توقفت وهي تواصل التقدم نحوي .. بدأت هي كذلك تبطئ من خطواتها حتى توقفت أمامي .. ابتسمت بطريقة تدل على أنها لم تعرفني أيضًا، وأنها تحاول التأكد من أنني أنا بالفعل رغم تيقنها من أنه لم يطرأ أدنى تغير على صورتي المعتادة .. لم تكن طفلتي معها، لكنني لم أتعجب من ذلك، ولم أسألها عن السبب .. كان عدم وجود طفلتي يزيد من شعوري بمنطقية هذا اللقاء غير المتوقع، وبأنه حتمًا ليس مجرد صدفة.
سألتها: رايحة فين؟
أحسست بالدهشة من النبرة التي خرج بها هذا الاستفهام من فمي .. كأن شخصًا آخر هو الذي نطق به .. بدا في أذنيّ كأنما ولد صغير مرتبك، يحاول بمزيج من التلهف الغامض والبهجة الخجولة أن يتعرّف بفتاة أصغر منه قليلا للمرة الأولى، أو أن عجوزًا أكبر مني بعشرات السنوات يسعى بحرج لتذكير امرأة تحمل ضعف عمر زوجتي بشيء ما، أو أن يعيد ربط خيط قديم انقطع بينهما منذ زمن .. لم أجد في ملامح زوجتي أثرًا للدهشة، بل انسجام تام مع نبرة سؤالي.
ـ مفيش .. الجو حلو، قلت أتمشّى شوية.
لم أستغرب إجابتها، مثلما لم أستغرب لهجة هذه الإجابة .. بدا صوتها هي الأخرى كأنه لبنت متحيّرة، تحاول إخفاء فرح منهك شعرت به فجأة نتيجة هذا اللقاء غير المنتظر .. ظهر على وجهها أنها تدرك ملائمة هذه اللهجة التي ردت بها لأن تكون لامرأة عجوز أيضًا، وأنها كانت مباغتة لها .. مرت لحظات صمت غريبة .. ابتسامتان متقابلتان، غائمتان، مثقلتان بعدم الفهم والحسرة والرجاء .. أحسست كأنه موعد دبّرناه سويًا دون اتفاق كي نقف في هذا الوقت البارد من الليل، وفي هذا الطريق الذي تتدافع فيه السيارات بجوارنا، وتحت هذه الأضواء البيضاء الكثيفة والساطعة .. كأنه موعد دُبِر لنا، وتم تسييرنا إليه، حتى يشعر كلا منا حين ينظر في عيني الآخر بأنه يريد أن يسأله عما حدث طوال السنوات الكثيرة الماضية دون أن يمتلك القدرة على ذلك.
شعرت باختناق الدموع في حلقي، وبدت هي كذلك على وشك البكاء .. وجدت نفسي أقول لها مستردًا صوتي التقليدي، وأنا أبُعد نظرتي اليائسة عن ملامحها التي اختفت الابتسامة منها.
ـ أنا راجع البيت .. متتأخريش.
تركتها مواصلا المشي بساقين مرتعشتين، لتكمل سيرها في الاتجاه الآخر .. لم يلتفت أي منا وراءه.

رفعت عينيّ عن شاشة اللابتوب حينما فُتح باب المنزل ودخلت زوجتي وطفلتي .. أسرعت طفلتي كالعادة نحوي لتقبّلني بينما رحت أتأمل وجه زوجتي وهي تُغلق الباب .. كان يحمل نفس الانطباع المألوف الذي خرجت به من البيت .. قبل أن تتقدم نحو حجرة النوم أخرجت نسخة الجريدة من حقيبتها وناولتها لي وهي تسألني بنبرة روتينية إذا كنت أشعر بالجوع الآن. رددت عليها بنفي مقتضب وخافت بينما كانت تلتفت نحو الشرفة لتتأكد أنها محكمة الإغلاق.
بتانة نيوز ـ 12 يناير 2018

السبت، 6 يناير 2018

الحرب دموعها خشنة: الأشلاء العراقية في قطار بيراندللو

شيء ما جعلني أقرأ ديوان "الحرب دموعها خشنة" للشاعر العراقي أحمد ضياء والصادر عن دار الانتشار العربي باعتبار قصائده خطابات تركها الجندي الميت الذي انهارت صلابة أبيه في نهاية قصة "الحرب" للويجي بيراندللو حينما سألته المرأة التي سافر ابنها للقتال وهما يستقلان القطار: إذًا فقد مات ابنك حقًا؟. ربما لأن القصائد تبدو كمشاهد عسيرة لفضاء غائب، أو كأنها صور مستعادة لزمن ضبابي يصلح لأن يكون فكرة أو حلماً بنفس الثقة التي يمكن أن يكون بها واقعاً مجسّداً. لم تكن المرأة في قصة بيراندللو تريد لابنها الصبي في العشرين أن يموت في الحرب كـ (علبة بلاستيكية، تدحرجها الريح) كما كتب أحمد ضياء في ديوانه. 
(ظلام الجبة يمتد كفناً على ثديي أمي).
ستمعن هذه العلاقة في تأكيد نفسها حينما ألمس هذا التقارب بين مجاز "القطار" في قصة (الحرب)، ومجاز "الثلاجة" في قصيدة (براد قتلى وملاعب خماسية في رأسي):
(في الثلاجة، عتمة المقابر / رائحة العواء / المشرحة / السكاكين / لحوم متناثرة/
فيها كل المساكين المنكبين على نافذتين من ملاهي الأطفال
لم تترك لنا بذاراً ننهل منه
كل أجنحتها دموع بلاستيكية تنكسر على ضفتين من العبوات
لم تترك رباً إلا وغازلته بأنفاسها ورائحة عرقها المتخثرة
في الثلاجة، ملابس أخي / شرشف المستشفى / سدية عتيقة / لعب على أيدي الموتى
حيث الغبار المتطاير من الدم).
بوسعنا تخيل أن شخصيات بيراندللو داخل القطار لا يمثلون أنفسهم بقدر ما يؤكدون هذه التفاصيل في القصيدة: من أخذت الحرب ابنه الوحيد .. من أخذت الحرب ولديه الاثنين .. من قًتل ابنه في الحرب. كأن القصيدة تدور داخل واحدة من اللحظات الطائشة لهذا الجسد الهائل والغامض، المندفع في مسار ثابت، والمغلق بعماء تام على وحشيته الأزلية. كأن قصيدة أحمد ضياء هي إحدى عربات هذا القطار.
(هي أفكار جامحة هي قطار بارد أشعث يتوارد كنار أنام بصلافة في أحداقها).
ثم نقرأ في قصيدة (سياط):
(هناك الكاتم ينجز مهمته التائهة بالرأس
للجنود ملامح متشيطنة تزفها المزاليج
هناك الخراب يلعلع في صرة رصاصة حية
هناك أمي الثكلى بأوجاع أبي وطزاجة أخي
هناك الله يتفرج
هناك آمال تعلق في شباك الرأس).
هذه الكلمات التي يلائمها أن تكون مفردات للجحيم، هي التي يمكن أن يتهاوى أمامها أي نوع من الصلابة أو التماسك .. التي يمكن أن تتبدد في حضورها أي مبررات تخديرية، أو عزاءات برّاقة. إنها المعاني ذاتها التي لخصتها المرأة في قصة "الحرب" حينما سألت الأب المتظاهر بالقوة ومدعي الإيمان بما مات ابنه من أجله، الذي لا يرتدي ملابس الحداد، ويتحدث للمسافرين عن "التضحية"، و"البطولة"، و"الخلاص المبكر بشرف من قسوة الحياة": إذا فقد مات ابنك حقاً؟.
(بالعنف وحدها الأصوات تجهش بالبكاء
بالعنف ينكمش الطاعنون بالسن
بمفك أحلل شماعة الصدى
أنظر بمخلب عيني للخراب).
يفكك أحمد ضياء بواسطة الاستعارة الحضور التقليدي للعنف سواء كهيمنة أو كأثر؛ فالوجود الذي يتخذه ليس محددًا بسمات وظواهر يمكن رصدها والاستقرار على أطر لها بصورة يقينية، كما أن ما تنطوي عليه البصمات العشوائية لدمويته غير قابلة للتعيين الواضح. إن عدم الاستقرار للخصائص المتعددة للعنف ونتائجه هي جانب جوهري من التعريف المراوغ للحرب، من التفسيرات المتغيرة، الناجمة عن محاولة اكتشاف عمقها المجازي.
(في العيد أسأله أن يا رب جرّب ولو لمرة أن يكون لك أب وأم، ويأتي شخص ما يخطفهما من بين ناظريك؟ أسأله أتحس بالكمادات وهي تضعها فوق وجه الهواء؟ أتحس بالنوم حيث يخرج من مساماتها العطشى؟ أتحس بالألم الذي يكابده الأب حيث لا رغيف لديه؟ أسأله هل عملوا لك عيد ميلاد بلا كفوف؟ أسأله هل جربت النوم على أكتاف أم أرضعتك فضاءات الكتابة والقراءة والحروب؟).
تمسك البلاغة في قصائد (الحرب دموعها خشنة) بين خيوط مختلفة في علاقتها بالبُعد الغيبي للحرب، أي بالمشيئة القدرية لها حيث تتبدل الأصوات أو نبرات الصوت الواحد بين عدم الفهم والغضب والعجز والرغبة في الثأر والتوسل والتهكم واليأس .. هي بلاغة يمكن أن تشعر معها كأن حيلة طفولية تدمج بين تشريح الحرب، وبين كتابة حقيقة مغايرة للعالم في زمن آخر. بين الاشتباك مع فضاء يكرّس لغيابه دائمًا ببشاعة وجوده التي لا يمكن تصديقها، وبين البحث عن تدابير بديلة لما أصبح كابوساً أبدياً.
(بالقرب من الطب العدلي، أمسكت أرقام فواتير الموتى تتزاحم، إذ أن الانتحاري الذي فجّر نفسه على جمع من الأطفال والنساء، ظل يجول ببعض الأفئدة المعلقة التي ترفض الانصياع لأوامر الموت).
تتقمص لغة أحمد ضياء تلك القلوب التي تحوّلت أجساد أصحابها إلى أشلاء. كأن هذه اللغة هي التي تسعى لصد الموت عنها. تمنحها الزمن الذي لم يُسمح له عمداً بأن يوجد. في الوقت نفسه تجرّب هذه اللغة بواسطة التقمّص أن تكون ذاتًا فعلية للأشلاء. ذاكرة لجسد مكتمل يدرك ما حدث وينجو كخيط من الضوء المجهول داخل عتمة لا يمكن ترويضها، وربما يحصل على قدرة لم يمتلكها من قبل على حيازة الخلاص، مستعيدًا كل ما تم فقدانه. تسعى اللغة لأن تكون تاريخاً لا يستثني أي من الخيالات التي تم بترها.
(اقفز بين صور
أنتجتها نظراتي
وبين أسلاك شراييني النابتة.
أهدر عيني على نار
هادئة، أعجن الأخرى بجموع دمارنا).
بالعودة إلى قصة (الحرب) لبيراندللو نتأمل الموت في وجوه أولئك الذين يبدون على قيد الحياة، وهو أحد الأداءات الجوهرية في ديوان (الحرب دموعها خشنة) كي يصبح الفقد واقعاً استباقياً طاغياً لكل لحظة تمر. كيف شكّل الألم الملامح المتشابهة، كأن ثمة آلة خفية تحرّك الإرادات القاتلة لتنتج على نحو عفوي أشكالا مثالية من الذكريات المقهورة. كيف يحاول كل وجه أن يتخلص من ملامحه، أي أن يمعن في تثبيتها داخله كهوية بوسعها أن تتحوّل في مستقبل ما إلى شاهد يختزن العجز كمعرفة وحسب، بعد أن يعيد التلاحم بين أجزائه المنشطرة.
(كل نشيج ارتشفته عيناي ضماد للترمل
كل الشروط المتعلقة بكسر ذراعي
كل الأمهات اللائي ندبن ويندبن وسيندبن محض إشاعة
كل المحتطبين في مراحلهم الأولية يهيلون الدوار على رأسي الشهواني
كل الوفيات والولادات والمرميات عيونهم على الأرصفة محض ...
كل الميتين من الأطفال محض أشعة).
عن أي حرب يتحدث عنوان ديوان أحمد ضياء؟ .. عن الحرب التي في الخارج، أم التي تمتد عبر التاريخ داخل الأجساد المؤقتة والمتناثرة بطبيعة الحال؟ .. أي دموع يقصد؟ .. دموع الحرب نفسها، أم دموع ضحاياها؟ .. هل هي الحرب كقرار غير قادر على التعرّف على ذاته؟ .. كغريزة لا تستطيع أن تعطّل نفسها؟ .. هل هي الدموع التي تخص ظلا متوارياً مشلولا للحرب، وليس بمقدوره أن يقاوم شرائعها؟ .. هل هي الدموع التي عليها أن تنهمر كعنصر بديهي من الاحتراق المتواصل حيث الحرب تبكي نفسها كموضوع منفصل عن إمكانية هذه الدموع من وضع حد حاسم لها .. بفضل هذه الاستفهامات المنذورة للتناسل دون نهاية استمر القطار في قصة "الحرب" للويجي بيراندللو في السير دون توقف حتى الآن، وبفضلها أيضًا يصير فعل القراءة ملامسة لخشونة الدموع المتدفقة عبر قصائد ديوان أحمد ضياء.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 7 يناير 2018

الثلاثاء، 2 يناير 2018

مسافات صغيرة

أحرّض طفلتي على شراء الدُمى التي تصلح حين تتركها كل مساء وتخرج مع أمها لأن تجلس بجانبي وأنا أكتب، أو أقرأ، أو أشاهد التليفزيون، أو ألعب على الهاتف، أو تنظر لي وأنا أدور ببطء بين الحجرات مطرق الرأس، أو تنتظرني حين أقف في الشباك لأراقب جاري العجوز الجالس طوال الوقت في شرفته، ولا أراه يخرج إلا نادرًا؛ حيث يتحرك خطوات قليلة في الشارع حتى يقابل صحبة ما من غريبين أو أكثر يقفان معًا؛ فيتوجّه إليهما ويصافحهما في صمت وتجهم ثم يترك الدهشة على وجهيهما ويعود فورًا إلى البيت.
اللوحة لـ Edward Hopper
أنطولوجيا السرد العربي ـ 1 يناير 2018