الأربعاء، 17 يناير 2018

كأنه مكان للسير

إلى مدحت رزق
لم يكن لدي إدراك كامل لطبيعة علاقته بأصدقائه، وإن كنت أعتبر أن عودتك مبكرًا إلى المنزل في المساء خلال فترة البطالة لا تعني أنك لم تحصل على أي من المعجزات الصغيرة التي تعوّدت على الخروج بحثًا عنها بعد كل غروب مع رفقاء ثابتين فحسب، بل تعني أيضًا أن الضجر قد وصل بك إلى درجة من غياب الرحمة تحوّلت معها المقاهي والشوارع من رئات بديلة إلى شرايين مسدودة .. أظن أنه كان يفضل قضاء ما تبقى من الليل بأقل قدر من الإنهاك، وفي نفس الوقت كنت أمتلك يقينًا ـ دون أدلة تتخطى ملامحه ـ بأنه الوحيد الذي يترك طاولة المقهى ويرجع إلى البيت، بينما يظل أصدقاؤه كاملي العدد حتى نهاية السهرة، وأنهم يرحلون إلى منازلهم كمجموعة واحدة لا ينقصهم إلا هو .. تدريجيًا بدأ يثبّت تغييرًا في الروتين اليومي لما بعد العودة المبكرة إلى المنزل؛ كان في العادة يبدّل ملابسه ثم يتناول العشاء أمام التليفزيون في الصالة، وإذا كان ما يُعرض على الشاشة فيلم أو تمثيلية أجنبية، كان يواصل الجلوس أمامها حتى موعد النوم، أما في الأحيان الأخرى فقد كان يغلق على نفسه حجرة الصالون، ثم يجلس بجوار شباكها لينظر إلى الشارع عبر الفرجة الصغيرة بين ضلفتيه المتصلتين بالشنكل .. كان كل شيء يتناقص مع مرور الليل أثناء جلوسه الصامت وراء الشباك: العابرون .. السيارات .. الأضواء .. الأصوات .. أعقاب السجائر التي تتساقط من فرجة الشباك الصغيرة كانت هي الشيء الوحيد الذي يتزايد؛ كأن ثمة ارتباط بين الاختفاء التدريجي للحياة داخل الشارع، واستمراره في التدخين طوال الليل .. لكنه في أحد الأيام قرر بدلا من الجلوس في حجرة الصالون أن يقرأ واحدة من روايات مصرية للجيب التي أمتلكها .. كان هذا المساء بداية لعادة يومية أقرب إلى الطقس الذي لا يمكن إهماله .. أصبح بعد الرجوع المبكر إلى البيت، يجلس في سريره بعد تناول العشاء ليقرأ رواية من (ملف المستقبل)، أو (رجل المستحيل)، أو (المكتب رقم 19) .. كان يقرأ أحيانًا روايتين في ليلة واحدة، وأحيانًا كان يضطر لترك سريره واستكمال القراءة في حجرة الصالون كي يسمح لشقيقته الكبرى التي تستيقظ لعملها في الصباح الباكر أن تطفئ النور وتنام .. كنت سعيدًا لأنني حصلت داخل المنزل وبصورة غير متوقعة على من يشاركني هذا الشغف، وكنت سعيدًا أكثر لأن الشخص الذي يشاركني التعلّق بهذه النوعية من الكتب كان هو تحديدًا.
بعد فترة من مواصلة القراءة اليومية، وعندما رن الجرس ذات مساء، فتحت الباب فوجدته يقف أمامي ويحمل في يده اليمنى ثلاثة أعداد من روايات مصرية للجيب .. كان مبتسمًا كمن يغطي حرجًا ما أثناء تجاوزه العتبة ومروره أمامي .. رفع يده التي تحمل الكتب قليلا وهو يوّسع من ابتسامته دون أن يوجّه بصره لي ثم أجاب على الاستفهام المندهش الذي لم أنطق به كأنه يحاول  إبقاء الأمر في حدود الدعابة: (اشتريتهم).
بدت نبرته في أذنيّ كأنه يقول شيئًا آخر لا علاقة له بالروايات .. شيء يتسق تمامًا مع عينيه في تلك اللحظة، ومع الطريقة التي يحمل بها الأعداد في يده، والتي جعلته أشبه بطفل مسالم يحمل مقررًا دراسيًا سيساعده في الحصول على عالم يليق بروحه البيضاء .. كانت تلك هيئته الأصلية التي احتفظ بها طوال حياته، ولكن ما أضيف إليها ذلك اليوم جعلها في عينيّ أكثر إيلامًا .. أغلقت الباب بابتسامة باهتة تحاول إخفاء تأثير المشهد من وجهي كي لا ينتقل إليه في شكل عقاب من الشفقة شعرت أنه يتوقعها ويخشى مواجهتها .. التفت إليّ ثم مد يده التي تحمل الروايات، وبملامح تحوّلت ابتسامتها إلى طيف شاحب، وبنظرة متمسكة بعدم التطلع في عينيّ ، وبنبرة تتحرّك من الخفة الممازحة إلى الجدية البسيطة قال: (شوف كده الأعداد دي عندك).
كأنه كان يريد أن ينهي ارتباكه بهذه العبارة التي تُعادل التبرير .. أن يجعل هذه المفاجأة تخصني أكثر مما تتعلق بالخذلان الموحش الذي كان مجرد ضجر في الماضي .. أن يجعلها تخص شغفنا المشترك أكثر مما ترتبط بالأصدقاء والمقاهي والشوارع التي يعود منها مبكرًا .. لم أكن أريده أن ينتبه إلى الوجوم المرتعش الذي يزيح ابتسامتي الباهتة تدريجيًا وأنا أخبره بعدما انتقلت الروايات الثلاث إلى يديّ بأنه ليس لدي بالفعل أي منها، لكن ما كنت أشعر به كان أقوى من قدرتي على إبقاء الأمر عاديًا .. كانت الأعداد التي اشتراها مستقرة في مكتبتي منذ زمن، ولكن بالطبع لم يكن من الممكن أن أزرع في غفلته هذا الجرح من خيبة الأمل .. قررت دون تفكير التخلص بأسرع ما يمكن من النسخ القديمة لهذه الروايات كي لا يكتشف كذبتي .. تركني متوجهًا إلى حجرتنا لتبديل ملابسه بينما أتابعه في صمت كأنني أؤكد له على معرفتي بما لا نستطيع أن نبوح به .. أن انتصاراتنا ليست في الخارج بل في ما يغتنمه الآخرون الخياليون الذين نعجز حتى عن تقمصهم جيدًا في أرواحنا ونحن جالسين في سرائرنا أو وراء شبابيكنا المواربة آخر الليل .. أدرك أن العالم تحوّل كليًا إلى هذه العزلة، ولهذا قررت أن يكون لك دورًا في تأمين احتياجاتها من الأحلام المنطوية على نفسها بعد أن كنت تعتمد عليّ في ذلك .. حتمًا كان سيخبرني بأنه مر أمام المكتبة صدفة لو سألته عن التفاصيل، لكنني أصدق أن خطواته تعمدت التحرّك إلى هناك بعد أن ترك أصدقاءه وخرج وحيدًا من المقهى .. أعرف أن هذا الشاب الذي بالرغم من وجوده المحدود خارج البيت لم يتوقف عن الاحتفاء بالأحذية، والحرص على اقتناء الكثير منها، والعناية بها، فضلا عن توقفه العفوي أمام كل فاترينة تعرضها، كأنه يجهّز مخزونًا لائقًا بالخيال حين يتحقق، ويصبح بإمكانه المشي فعلا؛ أعرف أن هذا الشاب قرر شراء الروايات بعد أن ظل صامتًا فترة طويلة داخل ضجيج المقهى، ولهذا لم أسأله.
الآن وبعد مرور سنوات كثيرة جدًا، توقف خلالها عن قراءة روايات مصرية للجيب، وعن الذهاب إلى المقهى والجلوس مع أصدقائه، بينما استمر في الاحتفاء بالأحذية؛ ها أنا أجلس فوق الدرجة الأولى من السلم المجاور لباب شقته المفتوح .. أستطيع أن أرى بوضوح تام باب حجرة نومه المغلق، والملاصق لباب الشقة .. أثناء صعودي مررت على بعض أصدقائه الواقفين تحت العمارة، والذين جاءوا بأسرع ما يمكنهم .. احتضنني أحدهم وهو يبكي بشدة، بينما رحت أربت برفق على ظهره بملامح جامدة .. كأن الجثة الراقدة وراء الباب المغلق لأخيه هو، وكأنني صديق هذا الأخ الذي لم يمر على موته سوى أقل من نصف ساعة .. أسمع من مكاني فوق السلم البكاء الجماعي الصاخب المقترن بتدوير كليشيهات الفجيعة للنساء المحتشدات في الصالة، والذي يتخلله الصوت المرتفع لقارئ القرآن المنبعث من التليفزيون كأنه يشدو بترانيم منتشية لقاتل متسلسل .. تخرج سكرتيرة أخي وتقف أمامي بوجه ممتقع، والدموع تتدفق من عينيها .. أسألها بصوت خافت ومتوسل عما حدث، كأن حصولي على هذه المعرفة سيعيد أخي إلى الحياة .. تخبرني بلهجة من يسرد خرافة لا يستطيع تصديق حدوثها أن أخي أتى إلى المكتب في السادسة والنصف، وكان طبيعيًا للغاية، وفي حالة صحية مثالية، لكن بعد تجاوز السابعة بدقائق قليلة، وبينما كان جالسًا وراء مكتبه شعر فجأة ببعض التعب فطلب منها أن تُحضر واحدة من الليمون المخلل من البقّال المجاور .. حينما عادت بها إليه، وبدأ في أكلها طلب أن تعد له كوبًا من الشاي، لكنها بعد أن جاءت إليه به؛ رأت وجهه قد تحوّل إلى الاصفرار الشديد كما تناثرت قطرات العرق فوق جبهته رغم برودة الجو .. أخبرها أن تذهب لتنادي صديقه الطبيب الذي تقع عيادته على بُعد خطوات من المكتب كي يقيس له ضغط الدم .. عندما رجعت إليه بالطبيب وجدته ممددًا على الأرض، فاقدًا للوعي .. أخبرها الطبيب أنه يحتضر، وينبغي نقله إلى المستشفى فورًا .. أسرع بعض من جيرانه داخل الشارع بالانتقال به سريعًا إلى أقرب مستشفى في سيارة أحدهم لكنه وصل إلى هناك ميتًا.
كان صوتها مرتجفًا، وجسدها ينتفض، والدموع يتزايد انهمارها على خديها، وحينما رأتني أوجّه بصري إلى الأرض دون كلمة واحدة بعد انتهاء الحكاية القصيرة قالت: (البقية في حياتك) .. تركتني لتنزل السلم، وأنا أصغي لابتعاد خطواتها المثقلة بالصدمة وأفكر في بقية حياتي.
تدور عينيّ داخل المساحة الصغيرة أمام باب الشقة المفتوح والمضاءة بالنور الأبيض لمصباح النيون الذي يعلو الباب .. لا أستطيع أن أرى أخي الآن كشخص آخر غير ذلك الشاب في بداية الثلاثينيات الذي كان يقف فيه عند عتبة بيت العائلة حاملا في يده اليمنى ثلاثة أعداد من روايات مصرية للجيب .. كان الوقت مساءًا أيضًا، كما كانت هناك مساحة صغيرة مماثلة أمام الباب الذي فتحته بعد أن رن الجرس .. أشعر في هذه اللحظة بأن ما كان متواريًا في ذلك الفراغ المسائي القديم يعلن الآن عن نفسه لي بأكثر الأساليب وقاحة داخل نسخة منه، أو ربما كان هو الفراغ ذاته وقد تمدد مع خطوات أخي التي ظلت تعبر هذه العتبة طوال السنوات الماضية، ثم تجاوزها ميتًا منذ وقت قليل محمولا فوق الأكتاف.
أسمع صوت أقدام تصعد مصحوبة بهمهمات ضعيفة ومتقطعة .. يمر أصدقاؤه أمامي واحدًا وراء الآخر .. يتطلع كل منهم إلى وجهي بذهول ثم يدير رأسه ولا يقول شيئًا .. الصرخات متحجرة في عيونهم .. خطواتهم بطيئة، مرتعشة .. الألم يخنق ملامحهم دون بكاء .. أحيانًا تكون الدموع إدانة للباكي .. استجابة رخيصة لا تليق بالفقدان .. يصبح غيابها في المقابل دليلا على الاحترام وعدم التورط في الاستهانة .. يستأذنون زوجة أخي في إلقاء النظرة الأخيرة عليه .. أحدّق في وجوههم وأفكر في أنهم يكشفون الآن عن قرينة لجريمة أفظع من البكاء .. أنهم قادرون ببساطة على رؤية صديقهم ميتًا .. تفتح لهم زوجته باب الحجرة .. يعبرون إلى الداخل تباعًا بينما صفوف أحذيته الكثيرة تظهر لي متراصة فوق أرفف الخزانة المستندة إلى جدار الحجرة .. أنظر في عيني كل واحد منهم بعد أن يدخل، ويحرّك بصره حيث يقع السرير غير المكشوف لي محاولا دون إصرار تخيّل أخي الممدد فوقه عبر نظرة صديقه .. تختفي خزانة الأحذية مجددًا عن عينيّ مع إغلاق الباب .. لماذا يغلق أصدقاؤه حجرة النوم الآن؟ .. ليس بوسعهم رؤية أخي ميتًا وحسب، بل يستطيعون أيضًا الانفراد بموته دون إحساس بالعار .. لا أحد منهم يعجز عن قبول تحوّل أخي إلى جثة .. لا أحد منهم يشعر بضرورة تفادي مواجهة تلك الحقيقة طالما لا يستطيع تغييرها .. لم تمر سوى دقائق قليلة حتى فُتح الباب، وخرج أصدقاؤه بنفس الملامح التي دخلوا حجرة نومه بها .. كأنهم لم يفشلوا في خدش الجحيم بقدر ما كانوا جزءًا من سعادته المتشفية .. تظهر خزانة الأحذية مجددًا لي قبل أن تختفي ثانية مع إغلاق الباب بيد آخر من خرج .. قالت أختي الكبرى فيما بعد أنهم أرادوا توديعه في نطاق من الخصوصية اللائق بالعمر الطويل لصداقتهم .. أختي أيضًا كان بوسعها أن تبكي كما لم يبك أحد في العالم .. كان في استطاعتها كذلك أن تغلق على نفسها باب الحجرة مع جثته وتتحدث معه .. أما أنا فبدلا من البكاء ورؤية موته سأظل كل يوم لأسابيع طويلة وفي لحظات النوم الخاطفة أرى نفسي داخل مكتبه يوم السبت 2 فبراير 2013 في السابعة مساءًا .. أقف أمامه وهو جالس ممسكًا بالريموت كنترول ويقلّب قنوات التليفزيون الذي يعلو الطاولة المستقرة أمام المكتب، بينما في يدي حقنة لا أعرف عن الدواء الذي تحتويه أكثر من أنه سيتكفل برفع ضغط الدم بمجرد أن يشعر أخي بأعراض انخفاضه .. كأنني كل مرة أشعر بأن الحلم سينتهي قبل تمكني من إنقاذه؛ لذا أحاول دائمًا أن أحقنه بالدواء قبل بداية شعوره بالتعب وهو يقاومني باستغراب ضاحك بينما أرجوه الاستجابة لي بنبرة تكتم نحيبًا ثم أستيقظ.
مرت خمس سنوات .. تخلصت من جميع أصدقائي .. لم أعد أخرج من البيت إلا نادرًا .. مازلت أتردد طويلا قبل شراء حذاء جديد .. عدت إلى القصص والروايات البوليسية التي كنت قد توقفت عن قراءتها منذ أكثر من عشرين عامًا .. لم أعد أحلم باللحظات التي سبقت موت أخي، لكن صورة أحذيته المتراصة داخل الخزانة بجوار جثته ما زالت تطاردني في اليقظة.
اللوحة: By the deathbed by Edvard Munch
أنطولوجيا السرد العربي ـ 15 يناير 2018