السبت، 6 يناير 2018

الحرب دموعها خشنة: الأشلاء العراقية في قطار بيراندللو

شيء ما جعلني أقرأ ديوان "الحرب دموعها خشنة" للشاعر العراقي أحمد ضياء والصادر عن دار الانتشار العربي باعتبار قصائده خطابات تركها الجندي الميت الذي انهارت صلابة أبيه في نهاية قصة "الحرب" للويجي بيراندللو حينما سألته المرأة التي سافر ابنها للقتال وهما يستقلان القطار: إذًا فقد مات ابنك حقًا؟. ربما لأن القصائد تبدو كمشاهد عسيرة لفضاء غائب، أو كأنها صور مستعادة لزمن ضبابي يصلح لأن يكون فكرة أو حلماً بنفس الثقة التي يمكن أن يكون بها واقعاً مجسّداً. لم تكن المرأة في قصة بيراندللو تريد لابنها الصبي في العشرين أن يموت في الحرب كـ (علبة بلاستيكية، تدحرجها الريح) كما كتب أحمد ضياء في ديوانه. 
(ظلام الجبة يمتد كفناً على ثديي أمي).
ستمعن هذه العلاقة في تأكيد نفسها حينما ألمس هذا التقارب بين مجاز "القطار" في قصة (الحرب)، ومجاز "الثلاجة" في قصيدة (براد قتلى وملاعب خماسية في رأسي):
(في الثلاجة، عتمة المقابر / رائحة العواء / المشرحة / السكاكين / لحوم متناثرة/
فيها كل المساكين المنكبين على نافذتين من ملاهي الأطفال
لم تترك لنا بذاراً ننهل منه
كل أجنحتها دموع بلاستيكية تنكسر على ضفتين من العبوات
لم تترك رباً إلا وغازلته بأنفاسها ورائحة عرقها المتخثرة
في الثلاجة، ملابس أخي / شرشف المستشفى / سدية عتيقة / لعب على أيدي الموتى
حيث الغبار المتطاير من الدم).
بوسعنا تخيل أن شخصيات بيراندللو داخل القطار لا يمثلون أنفسهم بقدر ما يؤكدون هذه التفاصيل في القصيدة: من أخذت الحرب ابنه الوحيد .. من أخذت الحرب ولديه الاثنين .. من قًتل ابنه في الحرب. كأن القصيدة تدور داخل واحدة من اللحظات الطائشة لهذا الجسد الهائل والغامض، المندفع في مسار ثابت، والمغلق بعماء تام على وحشيته الأزلية. كأن قصيدة أحمد ضياء هي إحدى عربات هذا القطار.
(هي أفكار جامحة هي قطار بارد أشعث يتوارد كنار أنام بصلافة في أحداقها).
ثم نقرأ في قصيدة (سياط):
(هناك الكاتم ينجز مهمته التائهة بالرأس
للجنود ملامح متشيطنة تزفها المزاليج
هناك الخراب يلعلع في صرة رصاصة حية
هناك أمي الثكلى بأوجاع أبي وطزاجة أخي
هناك الله يتفرج
هناك آمال تعلق في شباك الرأس).
هذه الكلمات التي يلائمها أن تكون مفردات للجحيم، هي التي يمكن أن يتهاوى أمامها أي نوع من الصلابة أو التماسك .. التي يمكن أن تتبدد في حضورها أي مبررات تخديرية، أو عزاءات برّاقة. إنها المعاني ذاتها التي لخصتها المرأة في قصة "الحرب" حينما سألت الأب المتظاهر بالقوة ومدعي الإيمان بما مات ابنه من أجله، الذي لا يرتدي ملابس الحداد، ويتحدث للمسافرين عن "التضحية"، و"البطولة"، و"الخلاص المبكر بشرف من قسوة الحياة": إذا فقد مات ابنك حقاً؟.
(بالعنف وحدها الأصوات تجهش بالبكاء
بالعنف ينكمش الطاعنون بالسن
بمفك أحلل شماعة الصدى
أنظر بمخلب عيني للخراب).
يفكك أحمد ضياء بواسطة الاستعارة الحضور التقليدي للعنف سواء كهيمنة أو كأثر؛ فالوجود الذي يتخذه ليس محددًا بسمات وظواهر يمكن رصدها والاستقرار على أطر لها بصورة يقينية، كما أن ما تنطوي عليه البصمات العشوائية لدمويته غير قابلة للتعيين الواضح. إن عدم الاستقرار للخصائص المتعددة للعنف ونتائجه هي جانب جوهري من التعريف المراوغ للحرب، من التفسيرات المتغيرة، الناجمة عن محاولة اكتشاف عمقها المجازي.
(في العيد أسأله أن يا رب جرّب ولو لمرة أن يكون لك أب وأم، ويأتي شخص ما يخطفهما من بين ناظريك؟ أسأله أتحس بالكمادات وهي تضعها فوق وجه الهواء؟ أتحس بالنوم حيث يخرج من مساماتها العطشى؟ أتحس بالألم الذي يكابده الأب حيث لا رغيف لديه؟ أسأله هل عملوا لك عيد ميلاد بلا كفوف؟ أسأله هل جربت النوم على أكتاف أم أرضعتك فضاءات الكتابة والقراءة والحروب؟).
تمسك البلاغة في قصائد (الحرب دموعها خشنة) بين خيوط مختلفة في علاقتها بالبُعد الغيبي للحرب، أي بالمشيئة القدرية لها حيث تتبدل الأصوات أو نبرات الصوت الواحد بين عدم الفهم والغضب والعجز والرغبة في الثأر والتوسل والتهكم واليأس .. هي بلاغة يمكن أن تشعر معها كأن حيلة طفولية تدمج بين تشريح الحرب، وبين كتابة حقيقة مغايرة للعالم في زمن آخر. بين الاشتباك مع فضاء يكرّس لغيابه دائمًا ببشاعة وجوده التي لا يمكن تصديقها، وبين البحث عن تدابير بديلة لما أصبح كابوساً أبدياً.
(بالقرب من الطب العدلي، أمسكت أرقام فواتير الموتى تتزاحم، إذ أن الانتحاري الذي فجّر نفسه على جمع من الأطفال والنساء، ظل يجول ببعض الأفئدة المعلقة التي ترفض الانصياع لأوامر الموت).
تتقمص لغة أحمد ضياء تلك القلوب التي تحوّلت أجساد أصحابها إلى أشلاء. كأن هذه اللغة هي التي تسعى لصد الموت عنها. تمنحها الزمن الذي لم يُسمح له عمداً بأن يوجد. في الوقت نفسه تجرّب هذه اللغة بواسطة التقمّص أن تكون ذاتًا فعلية للأشلاء. ذاكرة لجسد مكتمل يدرك ما حدث وينجو كخيط من الضوء المجهول داخل عتمة لا يمكن ترويضها، وربما يحصل على قدرة لم يمتلكها من قبل على حيازة الخلاص، مستعيدًا كل ما تم فقدانه. تسعى اللغة لأن تكون تاريخاً لا يستثني أي من الخيالات التي تم بترها.
(اقفز بين صور
أنتجتها نظراتي
وبين أسلاك شراييني النابتة.
أهدر عيني على نار
هادئة، أعجن الأخرى بجموع دمارنا).
بالعودة إلى قصة (الحرب) لبيراندللو نتأمل الموت في وجوه أولئك الذين يبدون على قيد الحياة، وهو أحد الأداءات الجوهرية في ديوان (الحرب دموعها خشنة) كي يصبح الفقد واقعاً استباقياً طاغياً لكل لحظة تمر. كيف شكّل الألم الملامح المتشابهة، كأن ثمة آلة خفية تحرّك الإرادات القاتلة لتنتج على نحو عفوي أشكالا مثالية من الذكريات المقهورة. كيف يحاول كل وجه أن يتخلص من ملامحه، أي أن يمعن في تثبيتها داخله كهوية بوسعها أن تتحوّل في مستقبل ما إلى شاهد يختزن العجز كمعرفة وحسب، بعد أن يعيد التلاحم بين أجزائه المنشطرة.
(كل نشيج ارتشفته عيناي ضماد للترمل
كل الشروط المتعلقة بكسر ذراعي
كل الأمهات اللائي ندبن ويندبن وسيندبن محض إشاعة
كل المحتطبين في مراحلهم الأولية يهيلون الدوار على رأسي الشهواني
كل الوفيات والولادات والمرميات عيونهم على الأرصفة محض ...
كل الميتين من الأطفال محض أشعة).
عن أي حرب يتحدث عنوان ديوان أحمد ضياء؟ .. عن الحرب التي في الخارج، أم التي تمتد عبر التاريخ داخل الأجساد المؤقتة والمتناثرة بطبيعة الحال؟ .. أي دموع يقصد؟ .. دموع الحرب نفسها، أم دموع ضحاياها؟ .. هل هي الحرب كقرار غير قادر على التعرّف على ذاته؟ .. كغريزة لا تستطيع أن تعطّل نفسها؟ .. هل هي الدموع التي تخص ظلا متوارياً مشلولا للحرب، وليس بمقدوره أن يقاوم شرائعها؟ .. هل هي الدموع التي عليها أن تنهمر كعنصر بديهي من الاحتراق المتواصل حيث الحرب تبكي نفسها كموضوع منفصل عن إمكانية هذه الدموع من وضع حد حاسم لها .. بفضل هذه الاستفهامات المنذورة للتناسل دون نهاية استمر القطار في قصة "الحرب" للويجي بيراندللو في السير دون توقف حتى الآن، وبفضلها أيضًا يصير فعل القراءة ملامسة لخشونة الدموع المتدفقة عبر قصائد ديوان أحمد ضياء.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 7 يناير 2018