الأربعاء، 16 أغسطس 2023

ما يخبئه “جرح الأسلوب”

من حين لآخر أنشر في مدونتي الشخصية أجزاءً من روايتي “نصفي حجر” التي أعمل على كتابتها منذ سنوات .. أجزاء تبدو “جاهزة للنشر” .. في أحد الأيام وقع اختياري على جزء يتضمن هذا المقطع:

“لماذا لم تشطب تلك الأيام بالكامل بحيث لا يظهر أثر لها؟ .. هل لأنك لا تريد الاعتراف بفقدانها؟ .. هل لأنك متشبث برجاء استردادها؟ .. هل لأنك تريد أن تتذكرها؟ .. هل لأنك تعرف أنها لم تتبدد وإنما أنت الذي حُرمت منها فحسب؟ .. هل لأنك تعرف أن “حقيقتها” ستظل حية داخلك؟ .. لماذا هذه الأيام تحديدًا؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام سنة 1984؟ .. عن بقية أيام حياتك؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام العالم؟”.

بعد نشر هذا الجزء من الرواية أعدت ـ كما هي العادة ـ قراءته على المدونة .. شعرت فجأة بأن تكرار أداة الاستفهام “هل” في بداية بعض الجُمل بالمقطع السابق “يثقل” السرد بشكل غير مبرر، أي أنه من الأفضل الاستغناء عنه .. فكرت في الأمر ثم قررت إجراء هذا التعديل، وبالفعل أصبح المقطع المنشور هكذا:

“لماذا لم تشطب تلك الأيام بالكامل بحيث لا يظهر أثر لها؟ .. هل لأنك لا تريد الاعتراف بفقدانها؟ .. لأنك متشبث برجاء استردادها؟ .. لأنك تريد أن تتذكرها؟ .. لأنك تعرف أنها لم تتبدد وإنما أنت الذي حُرمت منها فحسب؟ .. لأنك تعرف أن “حقيقتها” ستظل حية داخلك؟ .. لماذا هذه الأيام تحديدًا؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام سنة 1984؟ .. عن بقية أيام حياتك؟ .. ما الذي يجعلها مختلفة عن بقية أيام العالم؟”.

التفكير في الأمر لم يكن يعني فقط الإجابة على سؤال: “هل ينبغي أن أفعل هذا حقًا أم لا؟” وإنما كان يعني أيضًا ـ وبصورة أقوى ـ تأمل الفرق بين اللحظتين: لحظة الكتابة الأولى والاستقرار على ما انتهت إليه، ولحظة النشر التي طالبتني بإعادة الكتابة بطريقة أخرى وفقًا لهذا التغيير.

لكل لحظة كتابتها دون مقارنات تفاضلية مع لحظة أخرى تسبقها أو تخلفها .. كل لحظة مختلفة وغير منتهية حين تكون نصًا، أي تخلق مبرراتها أو دوافعها اللغوية المستقلة عن لحظات أخرى”.  

في كتابي “استراقات الكتابة” هناك محاضرة لي عنوانها “الصفات العقابية للكتابة” تضمنت هذه الكلمات التي تفسر الشعور بـ “الانزعاج” الذي تملكني من تكرار “هل” عند نشر مقطع الرواية، وهو بالطبع ما لم يكن حاضرًا عند كتابتي له قبل وقت طويل .. كلمات تفكك الحكم العفوي بأن “شيئًا خاطئًا” يجدر “تصحيحه” في بنية السرد، لتكشف عن أن المسألة لا تتعلق بالصواب والخطأ وإنما بـ “التباين” بين حالتين للكتابة لكل منهما قراراتها اللغوية الخاصة .. بين ما يُفترض أنني كنت عليه عند كتابة هذا الجزء في الماضي، وبين ما يُفترض أنني كنت عليه عند كتابته في الحاضر.

إن الفرق بين اللحظتين ـ كما فكرت في الأمر ـ يكمن في أنني أردت للنسخة الأولى من المقطع أن تكون استجوابًا فعليًا .. رغبة وحشية للسارد في الحصول على إجابة حاسمة، مصيرية، يرجوها ويتوقعها ويلح عليها بإصرار بالغ الحسرة .. أنني أردت للنسخة الثانية من المقطع أن تكون استجوابًا شاحبًا، واعيًا بالخذلان .. يأس معاتب لسارد يترنح بعدم تصديق أنه لن يحصل أبدًا على الإجابة التي يهلك روحه من أجلها .. هذا ما يخلقه تكرار أداة الاستفهام “هل”، وما يخلقه حذف هذا التكرار .. تغيرت النبرة، الإيقاع، طبيعة الاستفهام نفسه.

إن ما يبدو للوهلة الأولى للكاتب ـ امتثالًا لغريزة التقييم القهرية ـ جرحًا أسلوبيًا في نصه عند مراجعة ما؛ هو في حقيقته “عدم توافق” بين العبارة أو الفقرة التي خطها الانسجام واليقين في وقت سابق، وبين ما تختبره بصيرة الكاتب وقت المراجعة من “مزاج” وجودي وخيالي آخر، والذي بالتالي يحرّض ويقود نحو الاستجابة إلى ضرورة سردية أخرى .. “عدم التوافق” الذي يتحتم عليه التنكر تلقائيًا في زيف “ثقل غير مبرر يجب الاستغناء عنه” .. حاجز التعمية ـ الدائم أو المؤقت ـ أمام استيعاب أن “الأسلوب هو جزء عضوي في الكاتب” بتعبير “هاري بينغهام”.

لا أعرف أي نسخة من المقطعين ستحتفظ بمكانها في الرواية عند نشرها .. النسخة التي مازالت في مسودتي، أم النسخة التي تعيش في مدونتي .. لكنني أعرف أن أيًا من النسختين لن تستبعد الأخرى .. كل نسخة تنطوي على الأخرى، تذكّر بها وتشير إليها .. ربما ستقرر الرواية في النهاية الاحتفاظ بالنسختين معًا.

هذا مثال لما أحرص دائمًا على تأكيده لدى طلاب ورشتي القصصية .. إن التمرين على الحذف ليس أداءً شكليًا “آليًا” فحسب ولكنه في المقام الأول وقبل أي شيء اكتساب القدرة على التفكير في المعاني المتعددة، التأمل في المقاصد المختلفة، التنقل بين المسارات المتباينة، تفحص البدائل .. لذا فالحذف لا يقترن بمجرد الوعي بالسبب أو الدافع الذي يفرضه في لحظة معينة، وإنما باستبصار وإدراك الأبعاد والعلاقات الأخرى التي تحوم حول ما يتم حذفه وتكمن في أغواره.  

هذا مثال أيضًا لما يتعذر فهمه على كل محرر أدبي أو ناقد أو قارئ لا ينعم سوى بالغباء المحصّن بالوقاحة، ومن ثمّ فإنه حين يقارب نصًا ما لا يعثر خلاله على “نسخته” المُشبِعة أو المُرضية فإن الأمر سيبدو كما لو أنه فرصة ثمينة عليه انتهازها بنطاعة متأصلة لتشييد حفل عدائي كي يستعرض بكل ما ينتفخ به من خواء سمج عجزه عن “اكتشاف / كتابة” النسخ المخبوءة لهذا النص.