السبت، 16 سبتمبر 2023

كيف كتبت قصة “الهواء الطيب”

ذات ظهيرة شتوية؛ وقفت ـ كالعادة ـ داخل الشرفة للاستمتاع بالمطر والغيوم والهواء البارد .. كان الشارع خاليًا حينما انتبهت إلى كرة كبيرة، خفيفة، ذات ألوان متعددة يدفعها الهواء فوق الأرض المبتلة بماء المطر .. لم يكن هناك أي أطفال في الشارع فخمّنت أنها سقطت من شرفة أحدهم .. تنقلت عينيّ بين الشرفات فلم أجد أحدًا .. في هذه اللحظة رأيت رجلًا في منتصف العمر يعبر الشارع، وكانت خطواته تتحرّك باتجاه الكرة .. تساءلت: هل ستلفت الكرة نظر الرجل بألوانها الزاهية ووحدتها في شارع فارغ تحت المطر؟ .. هل سيتوقف عندها؟ .. هل سيبحث ولو بعينيه عن من فقدها؟ .. وجدت الرجل يمر بجوار الكرة التي مازال الهواء يبادلها بين التطوّح والسكون، لكنه اكتفى بالتطلع إليها بشكل عابر وهو يواصل سيره ليبتعد عنها ويختفى .. حينئذ تخيلت مشهدًا بديلًا لما حدث في الواقع: توقف هذا الرجل أمام الكرة ثم التقطها وأخرج منديلًا ليجففها من الماء والطين ثم وضعها داخل حقيبة بلاستيكية ـ أعطاها خيالي له حتى يستطيع حملها في أمان ـ قبل أن يعود بها إلى بيته .. لماذا يفعل ذلك؟ .. ببساطة، لأن لديه طفلًا.

لكن ماذا عن الطفل الذي ضاعت منه الكرة؟ .. كان ذلك هو الاستفهام الذي شغل ذهني بعدما غيّب الهواء الكرة عن بصري في نهاية الشارع .. فكرت في أنه ربما كان يلعب بها في شرفته بلذة الانسجام مع المطر، وأنه كان يقذفها عاليًا ويعود لالتقاطها، لكن الهواء القوي أطاح بها إلى الشارع حيث يصعب أو يستحيل على الطفل أن يخرج من بيته في هذا الوقت لاستردادها.

هكذا بدأت تلك الفكرة الأساسية في تكوين بداية القصة داخل وعيي: ذهبت الكرة من طفل إلى طفل آخر لا يعرفه بواسطة هواء الشتاء .. الفكرة التي ستخلق سؤالًا تحدد إجابته موضوع القصة وبالضرورة نهايتها: كيف يمكن للكرة أن تشيّد جسرًا بين الطفلين؟

بما أن لدي طفلة؛ سأجعل الفكرة “ذهبت الكرة من طفلة إلى طفلة أخرى لا تعرفها بواسطة هواء الشتاء” .. والآن، لابد أن تحمل الكرة بصمة تميزها عن الكرات المماثلة .. هوية دامغة تخص صاحبتها التي فقدتها .. لماذا؟ .. لأن الكرة الملوّنة هنا أصبحت رسالة بعثت بها غريبة إلى غريبة أخرى دون قصد، وحتى يتم التواصل بينهما ينبغي أن يكون هناك دليل على أن الرسالة تنتمي إلى هذه الطفلة تحديدًا وليس إلى أحد آخر .. فكرت في أن هذه البصمة يجب أن تكون شخصية أكثر منها رمزية، ليس فقط حتى تتناسب مع كونها لطفلة، ولكن من أجل أن يكون تواصلها مع الطفلة الأخرى أكثر سهولة وقوة .. حسنًا، ليست هناك هوية شخصية تفوق الوجه .. سأجعل الطفلة إذن ترسم ملامحها المبتسمة على الكرة قبل أن تضيع منها.

ماذا عن الطفلة التي حمل أبوها الكرة إليها؟ .. فكرت في أن الكرة الملوّنة بعدما لم تعد مجرد كرة، وأصبحت وجه طفلة أخرى؛ فإن هذه الكرة أصبحت صديقة للطفلة، وبما أن الصداقة لا يتجلى معناها وأثرها أكثر من الأوقات السيئة فإن هذه الطفلة تحتاج إلى مشكلة .. أزمة تتعلق بالفقد أيضًا ولكن بصورة أعنف يكون الاحتياج خلالها إلى الصداقة بالغ الإلحاح .. لتكن مأساة إذن تتطلب بشدة الحصول على عزاء غير تقليدي .. سأجعل الطفلة تفقد أباها الذي أتى لها بالكرة .. كأنه أحضر مواساة صامتة لها قبل رحيله الوشيك .. ليس هذا فحسب .. فكرت أيضًا في أنه ينبغي لهذا النوع من التواصل بين الطفلة التي حُرمت من أبيها وصديقتها التي لا تدري عنها سوى ملامحها المبتسمة المرسومة على الكرة الملوّنة؛ ينبغي أن يكون لهذا التواصل خصوصية ما .. ينبغي أن يكون بينهما ما يُعادل السر الذي يحتفظ به الأصدقاء فيما بينهم ولا يعلم به أي شخص آخر حتى ـ أو خصوصًا ـ من أُسرهم .. كيف يمكن فعل ذلك؟ .. ما الذي يمكن أن تخبر به طفلة فقدت أباها لوجه طفلة أخرى مرسومًا على كرة ولا تقوله لأمها مثلًا؟ .. لماذا لا أترك هذا البوح مبهمًا دون تحديد وأكتفي بالإشارة إليه فحسب ليكون سرًا حقيقيًا لا يعلمه القارئ؟ .. سأجعل الطفلة التي فقدت أباها مريضة، عاجزة عن الكلام، تحكي بلا صوت عن أبيها الغائب لوجه الطفلة المرسوم على الكرة .. الكلمات التي لا يمكن لأحد سوى تخيلها وصياغتها بنفسه باعتبارها تُشكّل حكايته الخاصة .. ذلك ما لا ينتج سرًا مُحكمًا فقط، ولكنه يتسق ويضاعف أيضًا مأساة الطفلة واحتياجها إلى ملامح الطفلة الأخرى .. إلى التحدث مع صديقة تشاركها نفس اللغة “الصمت”.

كيف ستعرف الطفلة التي كانت تلعب في الشرفة أن وجهها المرسوم على كرتها الضائعة أصبح صديقًا لطفلة أخرى على هذا النحو؟ .. يجب أن يحدث لقاء بينهما إذن .. ما الذي يمكن أن يجمع بين طفلتين غريبتين عن بعضهما؟ .. فكرت في استثمار فكرة “التشارك” ولكن بشكل آخر، جماعي، يتيح لهذا اللقاء أن يحدث من خلاله، وفي نفس الوقت يشير إلى الجوهر الأشمل لهذه الفكرة .. الجوهر الذي يتجاوز المنح المباشر إلى التضامن في الألم، غير المقيّد بالحدود الشخصية أو بحواجز المكان والزمن .. كأن هذه التجربة تمثل انتباهًا عمليًا للطفلة صاحبة الكرة بأن بوسعها أن تفعل شيئًا يلوذ به شخص آخر في مكان بعيد عنها، وفي زمن غير متعيّن، ودون أن يكون لها أي معرفة به .. هكذا نشأت فكرة الزيارة التي تقوم بها معلمة المدرسة بصحبة مجموعة من التلاميذ إلى بيوت يحتاج ساكنوها، خصوصًا من الأطفال، إلى هذا التشارك، وحينئذ سيمكن لهذه الطفلة الشغوفة بالعطاء أن تعثر على الطفلة الأخرى التي حُرمت من أبيها داخل أحد هذه البيوت .. سيمكن لها أن تدرك بأن وجهها المرسوم على كرتها الملوّنة كان صديقًا لهذه الطفلة .. أن ملامحها كانت رفيقة الطفلة التي لا تستطيع الكلام في ليالي الفقد .. سيمكن لهذه الطفلة أن تدرك بأن الهواء الذي أطاح بكرتها من الشرفة لم يكن شريرًا، لأنه لم يكن هواءً شتويًا وحسب وإنما كان خيالها الذي يريد أن يصل كروح طيبة إلى كل من يحتاج إلى مساندته.

بالعودة إلى البداية، أي إلى الحدث الواقعي الذي نتج عنه كتابة قصتي “الهواء الطيب” يجدر القول بأن الشتاء نفسه بالنسبة لي وتحديدًا عند سقوط المطر هو عزاء الطفولة .. الكرة الملوّنة في الشارع الخالي كانت في هذه اللحظة تمثيلًا لكل ما ضاع مني أثناء اللعب فأدركت بأنني لم أكن أمتلكه .. كل ما كافح خيالي لتحويله من فقدان إلى مواساة من نفسي إلى نفسي، ومن نفسي إلى آخر لا أعرفه .. لهذا، حينما تخيلت الرجل العابر يلتقط الكرة ويعود بها إلى طفلته؛ فإنني كنت أخلق المشهد الذي تمنيت أن يحدث، المناقض لما حدث بالفعل .. كنت ألخص حياتي، التي لا تسترد ما يضيع، وإنما تبحث عنه في ذات أخرى، طفل آخر يُحتمل أن يستعيدني من غياب أزلي.