السبت، 25 نوفمبر 2017

الناقد المخصي

في روايتي (خلق الموتى) الصادرة عام 2012 كتبت هذه الفقرة:
(يؤكد "أمبرتو إيكو" على أننا نكتب لقاريء، وأننا بالكتابة نريد أن نقول شيئاً ما لشخص ما، وهذا ما يدفعني للتفكير دائماً في أن الكتابة ليست ـ ولا يجب أن تكون ـ فعلاً مسالماً أبداً، بل تمثّل طريقة مضمونة لاكتساب أعداء جدد بقدر الآخرين المحتملين الذين سيعتبرون النص صديقاً يمكن قبوله في حياتهم بشكل ما. على الكاتب أن يعتبر العداوة مكسباً يتساوى أو قد يفوق أحياناً الصداقة).
أثناء كتابة (الفشل في النوم مع السيدة نون) كان بديهياً بالنسبة لي تحديد أعدائها .. النوعية المعروفة من القراء والكتّاب والمحررين الأدبيين الذين تستفزهم كتاباتي عموماً، بالإضافة إلى نماذج أخرى ستنضم إليهم بفضل تفاصيل خاصة بموضوع الرواية .. ماذا عن مدرسي اللغة العربية، وشيوخ الجوامع، وأمناء الشرطة؟ .. الذين ينقذون العالم بقدر موضوعات التعبير التي يصححونها، والخُطب التي يلقونها من فوق كل منبر، وتشوهات الحياة التي يعالجونها في أقسام البوليس؟ .. ماذا عن النقاد؟ .. يبدو أنني قلت ما فيه الكفاية عن هذه الفصيلة التي كان متوقعاً بالطبع أن تحرق دماءهم (الفشل في النوم مع السيدة نون).
يكاد يكون من باب القانون الأدبي أن (الناقد) ـ خاصة لو كان أكاديمياً ـ هو كائن أعلى شأناً، وأرقى مكانة، وأرفع منزلة ممن يسمى بـ (القاريء العادي) .. فلتذهب الجذور التاريخية التي رسخّت لهذه السلطة إلى الجحيم؛ فما يعنيني الآن أن هناك كتابة أدبية يضاف لمنجزاتها قدرتها على فضح الوهم الفاصل بين (الناقد)، ومن يسمى بـ (القاريء العادي) .. بين رسول كليات الآداب، المنتفخ بفاشية قيم وأخلاق (السيد أبو العلا البشري)، والمكلف بإخضاع البشرية للثوابت التي لا صحيح غيرها للسمو والجمال، وبين الشاب الذي يعتبر نفسه (قارئاً عادياً)، ولم يخطر في باله وهو يكتب ريفيوهات للكتب على (جودريدز) أو (أبجد) أن يسمي نفسه (ناقداً)، رغم أنه يبحث أيضاً في كل رواية عن (الحكاية)، وعن (المغزى النبيل)، ويرفض (البذاءة).  
لكنني لو أردت تعيين فروق ـ ربما لن تكون جوهرية مقارنة بالحد الأساسي الفاصل الذي لا وجود له ـ فإنني سأضع الانتقام من الكاتب كاحتياج مركزي في سلطة الناقد .. الشعور بالدونية الذي يعاقب الكاتب لكونه كاتباً .. ماذا لو كان الكاتب ناقداً أيضاً، وتناول في عمله الروائي ما حققه من نجاحات نقدية؟ .. هل يمكن تخيّل أي سواد سيواجه به الناقد هذه الرواية؟! .. إن فرص ظهور هذه الحالات بين من يسمون بـ (القراء العاديين) أجد احتمالاتها أقل ولسبب بسيط في تصوري، أنهم لا ينتمون أصلاً إلى هذا الجزء من المرحاض العمومي.
الفرق الآخر هو امتلاك الناقد الأكاديمي لما يظنه قوة تخدمه في الهجوم على (خصومه)، وإرهابهم، وتحميه في نفس الوقت من شرهم .. القوة التي يسميها (العلم) خصوصاً لو كانت مدعومة بقدر ولو بسيط من التزمت الديني .. كأنه لا توجد معرفة أدبية أخرى يمكن للكاتب أن يُدرسها لذلك الناقد، وكأنه لا توجد معرفة نقدية أخرى يمكن لناقد آخر أن يُدرسها له، وكأنه لا يوجد روائي وناقد ـ مثلاً ـ يمكنه أن يُدرس لذلك الناقد نفس المقررات التي يحشرها داخل عقول طلبته في المحاضرات والكتب، ولكن بشكل لم يسبق له استيعابه من قبل .. من يُسمى بـ (القاريء العادي) لا يمتلك سكين داعش الهزلي المعروف بحرف الـ (د) قبل اسمه.
ذات يوم طلب مني الأصدقاء في نادي أدب المنصورة إعداد دراسة نقدية عن مجموعة قصصية ستتم مناقشتها في النادي .. لم أجد منذ الصفحة الأولى ما يدفعني لتكوين أي علاقة مع ما أقرأه .. رغم ذلك أكملت المجموعة منتظراً العثور على طرف خيط لكن هذا لم يحدث على الإطلاق حتى الكلمة الأخيرة .. اتصلت بصديقي المسؤول عن الندوة، واعتذرت عن الحضور، ولم أتحدث عن هذه المجموعة أبداً.
هناك في رصيدي كناقد ما يستحق أن أتباهى به، ولكن يكفيني القول الآن أنني لم أحكم من قبل على عمل أدبي بعد ثلاث صفحات، وأن أطلب من صاحبه ألا يحاول الكتابة ثانية، متعللاً بمنطق (مزاجنجي) في فيلم (الكيف) حين قال للريس (ستاموني): (الجواب بيبان من عنوانه) .. لم أعيّن نفسي وصياً على القراء، وأحذرهم من قراءة كتاب ما .. لم أطلب من كاتب أن (يتعلّم) مني، ولم أقل في يوم من الأيام أن نقدي هو (الحالم والصادق الوحيد في هذا العالم، يطمح لبناء عالم واسع جميل) .. يالضحك السنين.
موقع (الكتابة) ـ 31 أكتوبر 2014