الثلاثاء، 21 نوفمبر 2017

«عندما كنا يتامى» لكازو إيشيغورو ... مطاردة لا تنتهي

تمثل رواية «عندما كنا يتامى» لكازو إيشيغورو (بترجمة طاهر البربري) خطوة أخرى داخل الهاجس الجمالي الذي يسيطر على معظم أعمال الكاتب، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب، والذي يمكن أن نطلق عليه «الفقدان الذي يعيد اكتشاف الذاكرة». يواصل إيشيغورو في هذه الرواية استخدام النبرة السردية الهادئة نفسها، التي تميز كتاباته، وتجلت على نحو ساطع في روايته «بقايا اليوم»، والتي تعتمد على التأمل والتفكير المتزن مع تغير الطبائع المحكية، كأنها قناع ثابت من الحياد الظاهري يمكن للسرد من ورائه أن يتجاوز واقعيته المنضبطة نحو أرقه الغيبي. وهو الأثر الذي يبدو أن إيشيغورو يتعمّد توظيفه كبصمة ذاتية، تتخطى أي فكرة واضحة عن صوته الخاص في رواياته.
يمنح كازو إيشيغورو لكل منا عدسة مكبرة كي يحرّضه على حل لغز (الاختفاء) الذي يعتقد أن نسخاً منه تعيش داخل الجميع؛ فإذا كانت القضية المعقدة التي كان يسعى كرستوفر بانكس في «عندما كنا يتامى» إلى حلها تتعلق باختفاء أبويه، فإن لدى كل منا حصيلة من الاختفاءات- أقل وضوحاً ربما- جديرة بأن تُطارد. هناك رجل بوليس سري يستحق أن يُكشف أو أن يُخلق في الوعي عند لحظة ما قد تكون مفترق الطرق للحياة، أو الفرصة الأخيرة قبل النهاية. وعلى رجل البوليس السري هذا أن يبحث عن المفقودين الذين أسس حضورهم ذاكرته قبل أن يبتلعهم الغياب حتى- وهو ما يجعل الأمر أكثر صعوبة- أولئك الذين يدعون أنهم ما زالوا يحتفظون بوجودهم في عالمه.
لكن الاستفهام الجوهري الذي ربما لديه الحق في أن يسبق هذا البحث: ما هي هذه العدسة المكبرة حقاً؟ هل هي الفهم المجرد، أم الاستدراك، أم التعويض، أم استكمال المسارات وفقاً لمشيئة الدوافع الأولى؟ لماذا نريد أن نعثر على من فقدناهم، أو على أسرار اختفائهم؟ هل لنعرف فقط، أم لنصحح أوضاعاً قديمة، أم لنقدم بدائل عن أشياء لن يمكن استردادها، أم لنواصل الحكاية وننهيها كما حددتها رغبات الغائبين؟
«وبدأت على الفور في تجريبها على بعض بقع الزبد التي كانت تلطخ مفرش الطاولة. صرت مستغرقاً للغاية لدرجة أنني كنت ألحظ في شكل باهت فقط أصدقائي وهم يضحكون بهذه الطريقة المبالغ فيها التي تعبر عن نكتة على شخص ما. عندما نظرت لأعلى، مستعيداً وعيي أخيراً، كانا قد سقطا في مغبة صمت غامض. حينئذ كان ثورنتون براوني قد أطلق ضحكة مكتومة وفاترة وهو يقول: «ما دمت ستصبح رجل بوليس فقد فكرنا أنك ستحتاج هذه الأداة».
إن كازو إيشيغورو يخبرنا بواسطة كرستوفر بانكس أن العدسة المكبرة تتعلق بنا دائماً أكثر مما تخص الآخرين الذين نبحث عنهم. إنها ترتبط بعلاقتنا الملتبسة بالذاكرة، أي بضرورة ترويض الماضي، تعديل الزمن بدفعه لاتخاذ صور أقل حدة، أو للتخلي في شكل كامل عن حقيقته. نحن بهذه العدسة المكبرة نقود أحلاماً معينة نحو الصدارة، ونستبعد ما نؤمن بأنها كوابيس راسخة، أو نحاول التخفيف من وطأتها. كأننا بالضبط نستخدم (الاختفاء)، وتتبع آثار المفقودين للعثور على أنفسنا في حياة أخرى. أو لو شئنا الدقة كأن هذه العدسة المكبرة هي وسيلة كل منا للهروب مما يجسّده في الرواية أحد سادة الحرب الأقوياء الذي كان يُنقل في الزحام على مقعد متحرك، ويصحبه عملاق يحمل سيفاً، وعندما يشير أحد سادة الحرب هذا إلى أي شخص يريد؛ يتحرك هذا العملاق ويقطع رأسه أو رأسها.
بطريقة ضمنية أيضاً يؤكد كازو إيشيغورو أن التوحد برجل البوليس السري هو نوع من الوفاء للطفولة، لجذبها نحو الامتداد في الحاضر، وبالتالي لتنقيتها، وتحويل خيالاتها من اختلاسات معدومة الحيلة على هامش الواقع إلى أصل مغاير للعالم.
«نحن الأطفال مثل المفصلة التي تحفظ ارتباط الألواح ببعضها. ذات مرة أخبرني بهذا راهب ياباني. غالباً ما نفشل في إدراك هذا، لكن نحن الأطفال لا نوثق عرى الأسرة فقط، بل والعالم كله معاً. لو لم نلعب دورنا، فسوف تسقط الألواح وتتداعى على الأرض».
ماذا لو أن هذه العدسة المكبرة هي السبيل الأكثر ضراوة للتيقن من أن كل طموح تعلق بواجبها سيفضي إلى نتائج مضادة؟ ماذا لو أن محاولات حل ألغاز الاختفاء هي الكيفية الأعمق للتعرّف إلى الألم كهوية للذاكرة، لا تقبل التفاوض في طغيانها الذي يتعدّى الحدود الشخصية عبر الزمن، وكمصير حتمي مدعوم بالخبرات الخاسرة كافة لإزاحته؟ ماذا لو أدركنا أن الكوابيس التي تهيمن على عالمنا قد حصلت على طاقة إضافية لرسوخها بفضل ارتكابات رجل البوليس السري؟
إن هذه الأحكام لا تشترط في تأثيرها أن تعادل الاكتشافات المفاجئة التي حصل عليها (كرستوفر بانكس) في نهاية الرواية، والتي أدى تغييرها للماضي إلى امتلاكها السلطة على الحاضر لدى الراوي وعلاقاته، بل يمكن للنتائج المضادة أن تحدث من دون ما يمكن اعتباره أحداثاً مباغتة أو صدمات مزلزلة.
«ربما يكون هناك من الناس مَن يستطيعون عيش حياتهم وهم متحررون تماماً من مثل هذه الهموم. لكن بالنسبة لأمثالنا، فمصيرنا أن نواجه العالم كيتامى، يطاردون لسنوات طوال ظلال الآباء الغائبين، ليس ثمة من شيء حيال ذلك سوى المحاولة والاهتمام حتى النهاية، بقدر ما نستطيع، لأنه لن يُسمح لنا بأي قدر من الهدوء إلا حين ننتهي من مهمتنا».
ربما يعرف كازو إيشيغورو أن المطاردة لا تنتهي أبداً مهما بدا غير ذلك، وأنه في مقابل الألم والكوابيس؛ لا يتحرر اليتيم من التشابه مع الآخرين إلا بحكايته الخاصة والمختلفة التي سيدونها عن آباء دائمي الغياب.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 21 نوفمبر 2017