الأحد، 12 نوفمبر 2017

عزاءات الراوي

مازلت أفكر حتى الآن: هل رأى الرجل العائد من العمل زوجته تطل من البلكونة شبه عارية، وعشيقها يقف إلى جوارها بملابسه الداخلية ويدخن سيجارة حقًا؟ .. هل ماتت الزوجة العجوز بالفعل بعدما طلبت أن يرد أحد على التليفون الذي رن جرسه في فيلم الأبيض والأسود؟ .. هل ازداد الابن طولا أم أن الأب هو الذي بدأ يقصر؟ .. هذه الاستفهامات ليست أقل من أن تكون هوية قصصية لابراهيم أصلان، ولذلك فهي غير خاضعة للنسيان .. إنها أشبه بصندوق موسيقى داخل الذاكرة لا يحتاج أكثر من مرور العينين على أرغفة العيش الطازج، أو شرب كوب من الشاي في البلكونة، أو النظر إلى مرآة مكسورة حتى يُفتح.
(إلا أن هذا لم يمنع أنه فى بعض الأيام، خصوصا عندما كان يراها تتربع على الكنبة فى ضوء الشباك وقد عرَّت ركبتيها وبان شىء داخلى من لحمها العارى ترفع قطعة المرآة المكسورة أمام وجهها بينما تمسك الملقاط الصغير بين إصبعيها تنتف جذور الشعر من تحت حاجبها المقوس بعناية، أو عندما كان يلاحظ امتلاء جسدها من الخلف وهى تخطر أمامه فى الصالة، عندما كان يحدث شىء من هذه الأشياء وربما أشياء أخرى قليلة، لم يكن يملك إلا أن يقضى الفترة القادمة يغلبه القلق سواء كان يشرب الشاى أو لا يشربه).
قصة (الرجل الذي عاد).
تبدو شخصيات ابراهيم أصلان كأنها تختبر أشكالا متعددة للتوتر الوجودي المشابه لذلك التشظي الذي يمثل طبيعة أساسية للأحلام .. لكن هذه الشخصيات لا تحلم بقدر ما تواجه إفاقة مباغتة من نفس الحلم المُسمى بالماضي .. استيقاظ غير متوقع داخل الصدأ المتدفق للواقع يستدعي التأمل في العتمة التي تم الانتباه إليها .. ربما هذا ما يبرر الشعور بأن جميع الشخصيات القصصية تبدو كأنها تردد طوال الوقت تساؤلات ثابتة بصيّغ مختلفة: (ما الذي حدث؟ .. من نحن؟ .. لماذا حدث ذلك؟ .. كيف؟ .. إلى أين سينتهي بنا؟) .. إنها لحظة الإدراك بأن هذه العتمة كانت هنا منذ البداية، تنمو داخل الأرواح، وتسحق العظام في اندفاعها التدريجي نحو الخارج.
(قامت قالت وهي قاعدة في الأقوضة: حد يرد علي التليفون يا أولاد، في اللحظة دي، عباس فارس قام لبس الطربوش وراح رد علي التليفون، كأنه سمعها وهي بتنادي.
أنا بقي قمت من مكاني ودخلت أقول لها، إن عباس فارس سمعها ورد علي التليفون، من باب الهزار يعني، لقيت السر الإلهي طلع.
ومسح وجهه بكفه وقال: مفيش، زي ما بكلمك كده، يمكن دقيقة واحدة، وجايز تكون أقل. وهو بعد ما ينتهي من الحكاية، كان يتجه بوجهه إلي أقرب الجالسين، يتطلع إليه بعينيه الدامعتين، ويبتسم ).
قصة (أبيض وأسود).
تخلق هذه الصدمة المنطق العجائبي الخاص بها: هل الرجل بالملابس الداخلية والسيجارة هو الزوج نفسه؟ .. هل تخيل الأب موت زوجته العجوز، وأن دعابة عباس فارس الذي سمع كلامها ورد على التليفون هي السبب في هذا التخيل؟ .. هل توهم الأب لتضاؤله الجسدي سيفضي به إلى تضاؤل فعلي مثل غياب الشمس مع ارتجافة أخيرة من ضوء النهار في الأفق البعيد؟.
(ظل واقفاً يتطلع الى الهدوم المرصوصة كأنه يبحث عن شيء ما، وبينما كان يغلق الدولاب لمح العجوز وهو يأتي مرة أخرى مع حركة المرآة وينظر اليه غاضباً، حينئذ غادر المكان وعبر الصالة الى المطبخ، فتح الثلاجة وأغلقها، ورفع غطاء الحلة الموجودة على البوتاجاز ووضعه، ثم ترك المطبخ ودخل الشرفة الصغيرة واستند بجسده الى سورها الحجري القصير، ورأى اسطح البيوت الخالية، وهناك، كانت الشمس تغيب، مع ارتجافة أخيرة من ضوء النهار في الأفق البعيد).
قصة (آخر النهار).
لا يزال ابراهيم أصلان حاضرًا هناك .. في وعي كل راوٍ يقود شخصياته من العماء إلى الاحتمالات الممكنة للموت داخل ما هو قريب ومألوف ومسالم .. عزاءات متفاوتة التجسّد، تنتظر دائمًا فوق الجسور المشيّدة بين الذات والرعب .. بين تاريخها الغامض، ومصيرها المجهول .. يقف ابراهيم أصلان كذخيرة من الرفقاء ذوي الملامح المختلفة، الذين يعبرون بالأجساد المتهالكة داخل الزمن، خصوصًا حينما تكون النهايات وشيكة للغاية، كأصدقاء لا يفسرون الخيانة، ولا يذيبون القلق والارتباك، وإنما يحاولون الحفاظ بقدر ما يستطيعون على الطابع الحريري للموجودات التي مر الغدر منها .. الإبقاء على قدر من الانسجام الحميمي المبهم بين العناصر الحسية التي تبدلت دون حرج أو تفاوض بوصفها سرًا للحكايات المنذورة للضياع.
مجلة (عالم الكتاب) ـ أغسطس 2017