الثلاثاء، 12 ديسمبر 2017

الرمزية السحرية عند نجيب محفوظ

أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن تأثيرات نجيب محفوظ هو السبب الذي يمكن أن يقع ضمن أسباب أخرى ويدفعني للنظر إلى أعماله كتاريخ لا يزال يُكتشف من دهاء الكتابة. أتحدث تحديدًا عن القيمة الرمزية لأعماله أو سر الغواية الدائمة التي لا يتوقف تحريضها على الانشغال بما تنطوي عليه الحيل السردية لمحفوظ وحسب، بل أيضًا بالكيفية التي خلق بواسطتها هذه الحيل، بأساليبه في تكوين العلاقات الملتبسة، واستثمار الخامات الحسية كحضور بشري، وتوظيف الصراعات بين العناصر المشهدية بوصفها جسورًا للإحالات المتغيّرة. حينما أستعيد الآن على سبيل المثال (خان الخليلي)، (الحرافيش)، (بداية ونهاية)، (أولاد حارتنا)، (اللص والكلاب)، (ثرثرة فوق النيل)، (الثلاثية)، (ميرامار)، (السمان والخريف) فإنني أفكر في رموز لم تسلّم نفسها، في تلاعب ماكر بين الفردية والوفرة من خلال المكان، أسترجع هذا التشييد المحكم والمهموم لحيوات ثقيلة، مراوغة، تنفلت الأزمنة كخيال غامض عبر صدوعها المتناثرة والمتشابكة رغم تدفق الأقدار والمصائر داخل ما يمكن أن يُعد أكثر أشكال البناء الروائي التزامًا. ربما يوصف تأثير كتابات نجيب محفوظ بهذا الاستلهام الممكن للبصيرة التي تتأمل حركة المكان داخل الذات. الحدس الذي يراقب كيف يمكن للتقاطعات الزمنية أن تكون تعريفًا استفهاميًا بأرواح مزاجية للمكان. كيف يمكن للانشطارات والتبادلات الذاتية بين الشخصيات وبعضها، وبين الشخصيات والتفاصيل البصرية المتحوّلة أن تكون هوية ملغزة للزمن. كيف يمكن لأكثر النماذج نمطية أن تمتلئ بطاقة رمزية تحوّلها إلى فكرة مجسدة من الغرابة المخاتلة فتصبح هذه الغرابة هي عنوان خصوصيتها داخل كل احتشاد أو تشابه. إن تأثيرات نجيب محفوظ تتجاوز الطبائع الصلبة الجاهزة للحارة والبيت القديم والمقهى والبنسيون والعوّامة والبار والخرابة، وكذلك للفتوة والموظف وفتاة الليل والمتشرد والراقصة والشيخ والطالب. تتعلق بصمة محفوظ بهذا الدعم الجمالي الذي تقدمه للغريزة المستقرة في الوعي. العين الباطنية التي يشكّل رصدها للعالم نسيجًا من الأحلام الخبيثة والتدابير المعقدة والمفارقات المنتهكة للبراءة أو الحياد السطحي الذي تبدو عليه أيقونات وعلامات الواقع. هذا التفتيت للجمود التقليدي المدرك والمحسوس حيث يمتزج الضجر بالضجيج يتخطى فكرة التناقض المألوفة بين المعاني والأشياء؛ فشخصيات وأماكن نجيب محفوظ لا تتنازعها الازدواجيات الشائعة بقدر ما هي خاضعة للإبهام، للثمن الفادح لهذا الإبهام حتى مع عبورها بين نطاقات ثابتة كالحب والخرافة والجمال والواجب والسذاجة والمعرفة والجُبن والحرية والعجز والشجاعة والتشوّه والتضحية والخلاص. هذا الثبات هو قشرة التيه الذي لا تحكمه أضداد بل تعددية سائلة بسحر وحشي يمكن معه أن توقن بأن شخصيات محفوظ حاضرة في أماكنك الشخصية، وأن أماكنه تعيش في شخصياتك، وبالضرورة فإن لحظاته الروائية تمر في مشاهد عالمك الخاص، ولذلك فهي لا تزال تُكتشف مع كل خطوة داخل تاريخك باعتباره مسيرة للعب بكافة البصمات الممكنة.
شهادتي ضمن ملف (أدباء مصريون عن نجيب محفوظ: لم يكن مجرد ناقل أمين للواقع) للكاتب (السيد حسين) في مجلة (الأهرام العربي).
11 ديسمبر 2017