الثلاثاء، 23 أغسطس 2022

نبوءات لا مرئية

أعود مع أبي وأمي من زيارة مسائية لعمتي في أحد الأعياد .. نصعد سلالم منزلنا، لكنني أتوقف أمام شقة خالي راغبًا في الدخول إلى أبنائه لكي ألعب معهم مثل العادة .. يحاول أبي إبعادي متعللًا بتأخر الوقت، لكنني لا أستجيب له وأصر على طرق الباب .. يمسكني من أذني بإبهامه وسبابته الغليظتين ليقرصني بشدة ويدفعني نحو شقتنا .. أنفجر في البكاء والصراخ مع الألم الحارق في أذني، بينما جسدي الصغير ينتفض بنحيب متلاحق أثناء عبورنا من الباب الذي فتحته شقيقتي نحو الصالة ثم إلى حجرتي ذات الضوء الأصفر .. تظل أمي واقفة بينما يجلس أبي فوق حافة السرير، وبنظرته الحادة المقبضة، وبملامحه الصارمة المتوعدة، وبصوته القوي المُرهب يوجّه لي تحذيرًا مروّعًا بأن عقابي سيكون أفظع لو تكرر عدم طاعتي الفورية لأوامره .. ثم يمد رأسه للأمام، ودون أن تتغير نظرته أو علامات وجهه، وبنفس اللهجة الوحشية يزعق بي قائلًا: (بوس) .. أشعر بازدياد الألم في أذني فيشتد بكائي المختنق وصرخاتي المنتفضة .. يكرر أبي الأمر التهديدي بصوت أعلى: (بوس) .. أتقدم نحوه، وأقبّل خده السمين البارد قبلة خفيفة للغاية فأشعر كأنني أبتلع دمائي ثم أتراجع مواصلًا النحيب بينما أتطلع إلى الابتسامة الصغيرة في وجه أمي والتي تظهر غائمة عبر دموعي وهي تغادر الحجرة بعد خروج أبي.

كتابة هذا الحدث تعني رصد الشعور العقلي لطفل لم يُكمل العاشرة بمشهد قادم .. إحساس هذا الطفل بنقصان فادح في هذه اللحظة سيتكوّن نتيجة له إدراك ما بأن الأمر لابد أن يكتمل في لحظة أخرى .. أنه في طريقه للاكتمال دون تحديد الموعد .. يشعر الطفل على نحو مراوغ بأنه محتجز داخل حافة مائعة، وأنه لابد من وجود صورة تكميلية لما يحدث الآن تحتاجها الدموع المكتومة في صدره، الأكثر شبقية دون شك من تلك التي تدفقت من صرخاته إثر الألم الموزع بين أذنه المتوهجة، وقبلته لخد أبيه.

بعد سنوات طويلة سيجلس أبوه فوق حافة سرير آخر داخل حجرة أخرى من نفس البيت .. ستظل أمه واقفة، أما الطفل الذي أصبح يمتلك جسدًا أكبر بالتأكيد فيراقب في صمت أصابع أبيه الغليظة وهي تمزق خطاب “نادي القصة” له .. كان قد سمع نداءه منذ لحظة واحدة، وحينما دخل الحجرة أمره أن يحضر الخطاب الذي وصله بالأمس .. ذهب الابن وعاد إليه بالخطاب دون تفكير في قسوة كاملة، لكنه رأى أباه يمزقه على الفور، دون أدنى تمهل، كأنما هي الطريقة الوحيدة للهروب من تردد خفي، من الإلحاح الذي يحوم حول رغبته في تنفيذ هذا الثأر من الحياة دون امتلاك سبب مقنع .. هذه المرة لم يكن هناك وجود للابتسامة القديمة في وجه أمه .. الأم التي ستسأل أباه بخفوت حذر، استرضاءً له في المقام الأول: (بتقطعهوله ليه؟) .. سيجيبها الأب بصرامة حاسمة ومرتبكة كأنما أصبح مطالبًا بالإفصاح عن عدم قدرته على تبرير ما يفعله لنفسه: (عشان هيفضل يرجعله ويقراه ويعطله عن المذاكرة) .. سيأمره الأب ابنه أن يذهب إلى غرفته، لكن الطفل الذي أصبح يمتلك جسدًا أكبر سيذهب إلى حجرة الصالون ويفتح شباكها بطريقة تجعله متواريًا خلفه ليشاهد كلمات “نادي القصة” إليه وهي تتناثر في هواء الشارع أثناء سقوطها من يد أبيه عبر سور الشرفة المجاورة لشباك الصالون .. سيفكر الابن في هذه القصاصات بوصفها هدايا غير منتظرة للعابرين .. لن يتذكر في هذه اللحظة قرصة الأذن، أو قبلته في خد أبيه، أو إحساسه السابق بأنه توقع بكيفية مجهولة حدوث هذا المشهد .. لن يتذكر شعوره بأنه عالق في مفترق طرق كان ينبغي أن يتخطاه للتخلص من الدموع المكتومة في صدره .. لكنه في لحظة شتائية قادمة، وبعد أن يكون كل شيء قد انتهى سيكتشف هذا، وسيتأكد من أن كل ما يحدث ليس أكثر من تنقّل قهري بين عتبات ضبابية، وأن كل حركة في اتجاه التخلص من الدموع المكتومة سوف تجعل هذه الدموع تتضاعف في صدره.

جزء من رواية قيد الكتابة