الثلاثاء، 22 نوفمبر 2016

لم يسبق لي شراء وردة

لا يفصلني عن الأربعين سوى ثلاث سنوات، ولا أتذكر أنني خلال تلك الوفرة الماضية من الوقت ـ رغم ضآلته المؤكدة ـ قد ذهبت ولو مرة واحدة إلى محل الورد وشراء زهور .. نعم أنا موقن للغاية من هذه المعلومة بما يعادل صلابة معرفتي بنفسي كعاشق مهووس بالورد .. لست واحداً من الذين يحبون الأزهار فحسب كمعظم البشر .. لست مجرد فرد من القطيع اللانهائي للحمقى الذين يجيبون تلقائياً بـ (نعم) أو (طبعاً) على سؤال (هل تحب الورد؟)! كأنه سؤال يمكن طرحه، وبالتالي يستدعي إجابة ما! .. بالضبط كأنك تسأل أحداً مثلاً: هل تظن أن (سكارليت جوهانسون) امرأة جميلة؟ .. أنا مفتون بتلك الكائنات التي تسمى الزهور، بكل ما تنتجه حالات وجودها المتعين، وكل ما تثيره، وتلهم به .. بحثت عن المسلسل الإذاعي (أيام معه) بعدما استمعت له بالصدفة ذات ليل بعيد في الراديو حتى نجحت في الوصول إليه، وتحميله بسبب حوار من جملتين فقط في المسلسل بين (سعاد حسني)، و(أحمد مظهر) عن زهرة (التبروز) .. بسبب الطريقة التي نطق بها (أحمد مظهر) لفظ (التبروز) .. هوسي بالورد دفعني للإيمان بأن أي إشارة إلى كون (البنفسج) هي زهرتي المفضلة تعد إهانة لا يجب ارتكابها في حق الورد كمجموع .. الأزهار مطلق عادل، روح كلية، أكثر قداسة من أن تنتهك بجرح التفضيل، مهما كانت حتميته .. اليوم انتبهت إلى تلك الغرابة .. خلال سبع وثلاثين سنة فعلت كل شيء: قرأت عنها، واحتفظت بصورها، ولوحاتها، وألصقتها على الحوائط، ورسمتها، وعلّمت رسمها لطفلتي ذات الثلاثة أعوام، وكتبت عنها، وأشركتها في ارتكاباتي الخيالية، وحرصت على رعاية ما جاءني منها كهدايا من الآخرين بمنتهى التفاني حتى اللحظة الأخيرة .. لكنني لم أشتر وردة أبداً .. بالطبع ليس تحت سلطة الإدراك الرومانسي لذبولها البديهي .. لا أعرف لماذا سيطرت تلك الحقيقة العجيبة على ذهني، وخلقت لحماية رسوخها حصانتها الخاصة ضد الارتياب: صعوبة أن تذهب إلى مكان ما كي تحصل على زهرة، وتعود بها إلى البيت، تماثل صعوبة أن تصعد إلى السماء كي تحصل على سحابة وتعود بها أيضاً إلى البيت .. لم أكن عاجزاً طوال عمري عن تسلق الحاجز الشاهق الذي يمنعني من العبور نحو الشك في تلك الحقيقة؛ كان هناك عماء محكم يمنعني من رؤية ذلك الحاجز أصلاً .. بمقدورك الحصول على وردة إذا كان بوسعك الحصول على سحابة .. يخطئ من يظن أن تلك الكتابة بمثابة استرداد للبصر، وتسلق للحاجز الشاهق، وعبور نحو الشك .. لازال رسوخ الحقيقة محمياً بحصانتها الخاصة .. بل يمكنني القول بثقة لا تخلو من اللذة بأنها اكتسبت عبر تلك الكتابة دعائم أكثر عمقاً، وزهواً مما يمكن مصادفتها في حلم .. حسناً .. ينبغي الآن الكشف عن الاتجاه الصحيح للانتباه .. الصورة التي تم العثور عليها كحفرية لم تكن مخبوءة وإنما ظلت ساطعة، وملموسة طوال الوقت، وهذا ما جعلها متوارية تماماً .. السهم الذي أضاء اليوم أشار نحو شخصٍ لم يعش أبداً بمفرده .. منذ طفولته، وحتى لحظة كتابته تلك الدعابة ظل شريكاً لآخرين رغماً عنه .. بشر مختلفون، يجمعهم التواطؤ على ملازمة الالتصاق بجسده داخل أي بيت تُغلق أقفاله على الرعب الذي يعتني به .. ثمة تواطؤ آخر يجمعهم أيضاً .. لديهم عيون ستمكنهم من رؤيتك إذا ما عدت ذات يوم حاملاً زهرة اشتريتها لنفسك .. ما أسهل الصعود إلى السماء، والحصول على سحابة.
2 أغسطس 2014