الجمعة، 18 نوفمبر 2016

التعري بشكل خاطئ

(كلما أمعنت التفكير في ذلك ازداد الأمر سوءاً. فالكتابة ذاتها بغيضة دائماً بما يكفي، أما الكتابة عن الكتابة فمن المؤكد أنها أكثر بغضاً، فهي تقع في جانب اللاجدوى. فليس لديك العذر المعتاد للأعمال الروائية، أقصد القول بأنك في قلب عملية التركيب والتجميع، ومن ثم لا يمكنك الالتزام بمعايير ثابتة راسخة لمحاكاة الواقع. وقد يرغب المستمعون ومن بعدهم القراء ـ ممن تسلم في غطرسة بكثرتهم ـ في أن تقدم  لهم نظريات أدبية أو خططاً أو تصريحات أو بيانات، وعندئذ تفتح درج النظرية والبيانات فتجده فارغاً. أو على الأقل وجدته أنا كذلك، ثم ماذا؟).
مارجريت أتوود
مفاوضات مع الموتى
لابد أن مطاردة الكاتب كي يعطي ما يُطلق عليه فكرة عامة عن مخبأه الأدبي، أو سطور اختزالية عن كتاب له هو أمر لا يقل حتمية عن استخدامه لتلك الكائنات المريبة، المائعة، وطن الجوع التي تُسمى (الكلمات) .. ثقب ولو صغير في حائط المعمل المفترض، يمكن بواسطته التلصص على تركيبة النضوج .. الجواب الشخصي، المحرّك للخلق عن أقبح سؤال في العالم: ماذا تعني الكتابة؟
قد يبدو الأمر أقل مشقة على المستوى الزمنى فيما يتعلق بالخطوات الأولى، وهنا أتحدث عن نفسي، أو تحديداً وفقاً لما يمكنني اكتشافه من الماضي أثناء حالة الارتباك المختلفة التي تحكم وضعيتي الآن .. أعتقد أن ألم الضمير في البدايات ـ وهو ألم منفصل تماماً عن أي هاجس أخلاقي ـ يكون أخف حين تخضع لتلك الرغبة في الحصول على لافتات إرشادية لعالم يظن الآخرون أن كتابته تعني امتلاكه بكل ما تستدعيه فكرة الاستحواذ من يقين، بينما الواقع ـ الأكثر مراوغة، وتعاسة من كل توقع ـ أنك غادرت ذلك العالم أقل جرأة في ادعاء المعرفة .. هكذا يمكنني تفسير الشعور الباهت بالرُخص ـ الذي تنازل عن خفته فيما بعد، وصار كارثياً بأثر رجعي ـ تجاه الشهادة التي طلبت صحيفة (الزمان) أن أكتبها عما يسمى بـ (السرد الجديد) في مصر .. نفس الأمر ينطبق تماماً على شهادة أخرى عن ما يسمى بـ (الكتابة الجديدة) لموقع (الكتابة العربية)، وكذلك الشهادة التي طلبتها مجلة (انزياحات) عن قيمة التهكم .. كان لدي إحساس بأنني أتعرى بشكل خاطئ، ومع مرور الوقت، ومع استعادة تلك الشهادات تحوّلت إلى ما يشبه الفضائح.
قبل مجموعتي القصصية (قبل القيامة بقليل) كان بمقدوري التعامل مع تلك المواجهة الإجبارية كجرح روتيني، خدش تقليدي في الكرامة مضطر لدفعه مقابل عبور الكتاب نحو أكثر المناطق المحتملة للقراءة .. أتذكر أن صحفية أرسلت لي عبر الفيس بوك عند نشر غلاف المجموعة تطلب الفقرة المعتادة من الاستعراض البائس للثقة، الذي لن يمكن تعويضه بنشر سطور لإحدى القصص رغم ما في ذلك الإجراء من انتهاك أيضاً .. يومان كاملان من اليأس كانا كفيلين في النهاية بإرسالي صيغة مقترحة لخبر صدور المجموعة يعتمد ـ كباقة من زهور صناعية معتذرة ـ على البيانات الحسابية للكتاب: عدد القصص، عدد الصفحات، مقاس القطع، رقم المجموعة في سجل إصداراتي .. لم تكرر الصحفية دعوتي للتورط في المهزلة، ونشرت الخبر كما أرسلته لها، متباهياً بتفادي الخيانة .. عند صدور رواية (خلق الموتى) تكرر الطلب بنفس الدقة من محررة أخرى، لكن الفرق أن زهوري الصناعية المعتذرة لم تنجح هذه المرة كدوبلير .. كان هناك إصرار عنيد من جانبها للحصول على غنيمة التلخيص التي (تشرح الحكاية) بشكل ما .. ذاكرتي تعيدني إلى ذلك المأزق الذي مر عليه الآن عامان كأنها تجذبني نحو معركة طارئة، لم تستغرق زمنها اللائق، حيث لم أكن أدافع داخل توترها عن الرواية، وإنما عن الكتابة ذاتها كاحتياج ملغز، فعل بديهي يتم مع عينين مغمضتين، قرار يمنعه الكبرياء من أن يبرهن، أو يقدم دليلاً .. هل يحتاج الدفاع عن حياتك، أو بالأحرى الدفاع عن المواقف الملتبسة التي تتخذها تجاه حياتك إلى برهان، أو دليل! .. فرضت تلك المعركة، المشروطة بإلحاح المحررة أن أرسل لها خبراً تتمسك سطوره بأكبر قدر من إدعاء الألفة لتمرير استحالة الرضوخ إلى ضبط تحليلي كلي، ومهيمن، يخطئه الإخلال في هيئة خبرية عاجلة .. تأكيد لا ينقصه التهذيب على فشل أي محاولة لترويض الرواية داخل نمط تفسيري شامل .. كان صمت المحررة إعلان هدنة، إما أن تنتهي بمعاودة القتال، أو بالاستسلام، ونشر الخبر كما أرسلته .. لكن ما تصورته هدنة كان في حقيقة الأمر إنهاء للمعركة دون منتصر .. لم تنشر المحررة الخبر مثلما أردته، كما أنها لم تنشر أي خبر عن الرواية على الإطلاق .. بالطبع لم أسألها، وإنما كان عليّ ـ مدفوعاً بالضيق، واللذة ـ ومن خلال متابعة الصفحة الأدبية للصحيفة التي تعمل بها، أن أرصد إلى أي مدى صارت تلك الصفحة ملوثة بخيبة الأمل.
بعد فترة ـ أتعجب الآن من ضآلتها ـ طلب صديق لي يعمل في جريدة عربية نفس ما أرادته الصحفية عن (خلق الموتى) .. ربما تحت سلطة الواجب التي تشرّعها الصداقة لم أرسل له نسخة الخبر التي رفضت الصحفية نشرها، وإنما قررت المحاولة من جديد للانصياع .. لم أكن في حاجة لزمن مبالغ في ثقله للتوصل إلى الحل الوسط .. إذا كانت اللعبة أكثر تمنعاً من تشريح حيّلها، فإن الكتابة عنها يمكن لها بلوغ الاتساق إذا ما كان هناك تعمد لتحويلها إلى لعبة موازية، مستمدة من ملامح تنتمي إلى تجربة الرواية .. لأكن أكثر وضوحاً، وأقول أنه سيكون من الممتع أن تصبح الكتابة عن الكتابة حمولة من الأكاذيب المتداخلة، تتنكر في صدق وثيق الصلة بالإلهام الوارد للسرد .. ممتثل لما نظنه اعتبارات الفهم الآمن .. هكذا يمكن نتيجة الاحساس القهري بالإرادة المبتذلة لشيء عادي كالصداقة مثلاً أن تعقد صفقة رابحة مع الطغيان الذي يحاصر جنونك .. أرسلت خبراً جديداً لصديقي عن رواية (خلق الموتى) مشيداً على تلك العبارات القاصرة، الخبيثة، ذات النطاق الدلالي الواسع، التي لا تعكس شراً ظاهرياً بل تُبدي حُسن النية المطلوب انتظاراً لرقصة الأفخاخ المتعانقة عند قراءة الرواية نفسها .. المتعة التي تكررت بالضبط حينما كانت تلك العبارات هي إجابتي الصلبة، المنتشية على السؤال الفاقع لكل كرات الجسم من إحدى الصحفيات بحفل توقيع الرواية: (عن أي شيء تدور روايتك؟) .. تكررت هذه الكوميديا عند صدور (الفشل في النوم مع السيدة نون)، وأصبحت هي الحافز لاستدعاء كل الشهادات السابقة التي نشرتها عن الكتابة متخلصة، من لعنة الرُخص.
مجموعة محاضرات ألقيتها خلال الورشة السردية التي أقامها مركز (الفارابي) للأبحاث ـ 2014