الجمعة، 25 نوفمبر 2016

هيرمينوطيقا الكسل

لأراجع أولاً قائمة بأسماء الجبال التي تسحق جسدي في هذه الفترة أو كما يُقال مشاريع الكتابة التي أعمل عليها حالياً: رواية لازلت أتحرك داخل ما أتصور أنه الربع الأول منها، ينبغي إنجازها خلال الخمسة شهور القادمة على أكثر تقدير ـ أنظر بفزع هائل أثناء كتابتها من النافذة مراقباً تقدّم الوحش السافل عدو الكتابة والحياة نحوي حيث لا يوجد ما يستحق هذه الصفات أكثر من الصيف طبعاً .. مونودراما ليست قصيرة بما يُمكنني من التنفس، وليست طويلة بما يقودني للاختناق، يجب الانتهاء منها خلال شهر يتضمن مراجعتها .. كتاب عن سرد (جورج باتاي) .. مجموعة قصصية من أدب الرعب تدور أحداثها في مدينة واحدة، ليست مقيدة بموعد معين، وإنما الأسوء أنه ينبغي إنجازها في أقرب وقت ممكن .. سيناريو لفيلم قصير عن قصة قصيرة لي .. كتابة باب أسبوعي عن كلاسيكيات القصة القصيرة .. قراءة نقدية واحدة ـ على الأقل ـ كل أسبوع .. سيول محتجزة تتزايد داخل صفحة (وورد) من أفكار القصص القصيرة يجب ـ حماية من الغرق ـ كتابة قصة قصيرة واحدة أسبوعياً كي لا يتحول القلق من مرور الوقت إلى حسرة عظيمة على الزمن المُهدر.
لكن لو أن مهووساً بالمراقبة يصوّب منظاراً خارقاً من شرفة مواجهة لبيتي فلن يمكنه رؤية تلك الجبال على الإطلاق بل على العكس ربما يصيبه الملل من التلصص على نسخة واقعية من (هومر سيمبسون) بكسله السمين، اللامبال، المستلق فوق أريكة أمام التليفزيون أغلب اليوم .. تلك ليست عادة طارئة قطعاً بل إنني عند استعادة شاملة للماضي أجده نمطاً حصيناً لم يُخدش إلا في هفوات نادرة .. نعم أنا الكسول اللامبالي، المستلقي فوق الأريكة أمام التليفزيون أغلب الوقت منذ بداية العالم أي منذ اللحظة الطفولية التي قررت أن أكتب فيها قصة كـ (الشقاء) لـ (تشيكوف) .. هذا ما جعلني مثلما قال الكاتب (أشرف حسن) في بداية دراسته عن روايتي (خلق الموتى): (واحداً من أغزر كتّاب جيلي).
في حواره مع الصحفي والروائي الفرنسي (كريستيان دي بارتا)، وترجمه الشاعر التونسي (خالد النجار) قال (هنري ميللر): (لدى وصولي إلى فرنسا، وفي باريس رأيت لأول مرة أن الناس قد يحدث لهم أن يكونوا كسالى، وفي جنوب فرنسا كنت سعيداً، لأنهم هناك مفرطون في الكسل. يقال أيضاً عن « بيكاسو » إنه كان كسولاً، وقد قال هو نفسه هذا. لقد كان كادحاً كسولاً).
ما أعرفه عن (الكسول الكادح) ربما يُدرك على نحو أعمق بواسطة تحديد الاختلاف الذي أتصوره بين (الكسل)، و(الراحة) إذ تُعد الأخيرة بالنسبة لي حالة إعجازية من الجمود والعطل ينعم بها فقط أولئك الذين يمتلكون القدرة الاستثنائية على طرد الأرق خارج أدمغتهم .. أما الكسل فهو النمط المثالي للجسد الذي يلائم أكثر أعمال الذهن مشقة واحتياجاً للتركيز .. إن الراحة كما أراها تعادل (ألف ليلة وليلة): تحلم بالمصباح السحري دون أن تتحوّل أبداً إلى (علاء الدين) .. أما الكسول في حالتي فهو ذلك الذي تدور الوقائع الجوهرية لصنعته في الوقت الذي يتسم خلاله بقدر من الغفلة عن تدابيرها، أي في زمن الانشغال وربما الاستغراق في أمور تبدو أقل أهمية كمتابعة فيلم، أو ممارسة لعبة على الكومبيوتر، أو تصفح أخبار نادي كرة القدم الذي يشجعه على الانترنت .. كأنني مكرّس كلياً لتلك المتع البسيطة، إذ أبدو كمجرد كيان فارغ تماماً، غير مهموم بتاريخ ورائي ينبغي الإسراع بتصحيحه قبل فوات الأوان، وليست أمامي حياة عليّ أن أنقذها وهي تندفع بكامل قوتها وعمائها نحو جبل مبتسم بقدر ما أستطيع .. لا تلزم الغفلة الناجحة أي التي يحقق الكسول الكادح هدفه في نهايتها أكثر من الضروريات البديهية للأفكار الواجب إنجازها .. الخامات المستعملة لتنفيذ المشاريع، والتي تتجاور وتتقاطع مع الأحداث الدرامية فوق الشاشة، أوخطوات الانتقال من مستوى إلى مستوى داخل المغامرة، أو أسماء التشكيل الذي سيخوض به الفريق مباراته المقبلة .. تلك المراوحة الخفية هي التي تنحت تشكيلات متعاقبة في تكوين الخامات، وهي التي تستغل الخواص، وتطوّر المزايا، وتخلق العلاقات، وتُعدّل المواقع، وتُبدل الاتجاهات، وهي التي تكتشف الذاكرة، وتُجرّب الاحتمالات، وتخترع الأواصر الإجرامية .. أحمل عند لقائي بصفحة الكتابة عالماً مغلفاً بغرابة جديدة، ربما ليس له أدنى صلة ـ ظاهرياً على الأقل ـ بما كنت أستخدمه في بداية الكسل.
شعور قاتل لا يفارقني مطلقاً كعاهة خبيثة بأن هناك شيئاً أساسياً جداً يضيع أثناء حركة القلم فوق الورقة، وحركة الأصابع فوق أزرار الكومبيوتر ـ ليس نائماً في هذه اللحظة بالتأكيد ـ أي عند مرور الأفكار من الذهن إلى صفحة الكتابة .. يكاد أن يكون قانوناً للفقدان، يُضاعف دائماً ودون رحمة ما يمكن اعتباره اليأس القديم لـ (باسكال): (الأفكار التي تهرب، أريد أن أكتبها، أكتب عوضاً عن ضياعها مني) .. شعور مهين بالخسارة المربكة أمام الاختفاء الغامض لوعود جوهرية تبخرت في الطريق من موطنها العقلي إلى ساحة التمثّل تاركة فضاءً غائماً من التشويش الفادح .. وقت الكسل لا توجد حركة أصابع لنقل الأفكار .. هناك تجميع وإعداد لذخيرة ليست متعهدة بتقديم نفسها حالاً كمنقذ لفراغ جائع .. إنني لا أنسب فضل التداعي المنسجم أو التدفق المتناغم للحظة الكتابة ذاتها بل إلى الكسل الذي سبقها .. وقت التهيئة والاختزان الذي قد يعقبه إعصار متوهج بما لم يكن واضحاً أحياناً أو بما لم يكن متوقعاً؛ لذا فالكسل الجسدي يرادف عندي أكثر أحوال النشاط الذهني احتداماً، أو بتعريف آخر هو أكثر المحاولات الملائمة للتخفيف من ألم الشعور بضياع الأشياء الأساسية مع حركة الأصابع.
في كل مرة أعمل على كتابة ينبغي إتمامها قبل وقت محدد اكتشف مجدداً إلى أي مدى يتسم كسلي بالمرونة الفائقة إذ أرصد كيف يطوّع زمنه وطبيعة أدائه لمواجهة التهديد الحتمي .. ينتج حسابات خاصة تتوافق مع الظرف الطاريء، تتمكن دائماً من إنهاء الكتابة في موعدها .. ذلك ما يجعل الكتابة عندي أعمق من أن تكون وظيفة أو متعة أو توحداُ بين الوظيفة والمتعة .. الكتابة ليست مرهونة بتكليف كسائر المهن أو موقوتة بزمن مناسب كبقية اللذات .. الكسل يجعلني أكتب ذهنياً طوال الوقت، وهذا لم يجعلني كاتباً غزير الانتاج فحسب بل جعل الكتابة هي الوجود التقليدي الذي لن يمنعه أي عائق من الاستمرار طالما ظللت على قيد الحياة.
(هل تجروء على الكسل!) .. حسناً (رولان بارت) سأحاول الآن أن أرسم لوحة للسلطة التي يقاومها كسلي: إنها تلك التي تترسخ في الجانب المضاد لمغامرة الفكرة في عدم إنجازها .. اختبار توترها العقلي والنفسي نتيجة عدم تجسدها حتى هذه اللحظة .. سأتمادى وأقول المقامرة على نسيانها أحياناً أو على سقوط ملامح هامة تنتمي إليها في الجحيم المظلم للذاكرة .. سأتمادى أكثر وأقول الرهان على ضياعها أي على عدم استردادها، وبالتالي على الفوز بشغف آخر من الرؤى والتكتيكات البديلة النابعة من حضورها المختفي .. من القلق الناجم عن محوها الظاهري وزوالها الخادع .. السلطة التي تتجذر في حصار مناقض لما يمكن أن يعنيه تطابق التجليات المراوغة لموضوع الكتابة الذي لم يُنفّذ بعد .. تمظهر جميع الموضوعات داخل بعضها، وغياب الاختلافات فيما بينها .. أعرف أنني تماديت كثيراً ولكنني أتغذى على الانتهاك والتخريب .. إنني أريد نزع القيمة عن أي فروقات يمكن تقديسها بين ما اعتبره صيغاً متناسخة للهذيان .. أشكالاً فصامية تتبرأ من تماثلها عبر التفافات معقدة .. أريد الوصول إلى التساوي بين التفاصيل التي لا تتفوق أي منها على الأخرى .. إلى إفساد ميزان الجودة وإتلاف مقياس التميز بين ما يُغفل عنه وما يُنتبه إليه .. أريد الوصول  إلى انعدام الأفضيلة التي يمكن أن تطارد أي جدوى: سواء كنت تكتب كأنك جالس فوق قنبلة لديك زمن محدد يمضي سريعاً لإيقاف مفعولها عند الوصول إلى كلمة النهاية، أو تكتب كأنما اتضح بالدليل القاطع أن الموت كذبة لن يمكنها أن تخدعنا بعد ذلك .. أن يحدث شيء الآن بطريقة معينة نتيجة صدف خاصة ومزاج ما، أو يحدث لاحقاً بنفس الكيفية أو بطريقة أخرى نتيجة صدف مغايرة ومزاج مختلف.
لا أنكر أنني من حين لآخر يروقني حقاً مشاهدة نوعية من الفيديوهات كـ (كيف تصبح كاتباً غزير الانتاج) لـ (جيمس سكوت بيل) وهو يتحدث عن نصيحة أن تكتب عدداً معيناً من الكلمات بشكل منتظم، التي يمكن أن تتحول بعد فترة إلى رواية كاملة، وعن (ادمك بين) الكاتب المعروف بغزارة انتاجه، والذي ينظر إلى كتفه ويقول له (اكتب أيها المغفل، اكتب) .. يروقني بالفعل مشاهدة هذه الفيديوهات حتى أنني أخذت (سكرين شوت) للقطة (اكتب أيها المغفل، اكتب) وجعلتها لبعض الوقت خلفية لـ (اللاب توب) كي استمتع بما لست عليه .. لأقف ـ ككاتب غزير الانتاج ـ عند حافة لذة خيالية لم يسبق لي الولوج إليها، دون رغبة في تحريك قدميّ للأمام.
 الأزمنة
14 / 5 / 2015