السبت، 28 أكتوبر 2017

فلاش باك لجناحين ناعمين

أخرج من بيتي في الظهيرة .. أتحرك من شارع جانبي إلى آخر حتى أصل إلى البوابة الخلفية لمحطة القطارات .. أسير أمامها نحو الرصيف المحاذي لمدرسة العائلة المقدسة .. أخطو تحت ما يشبه الحافة الممتدة، غير المستوية لبحر أخضر، أمواجه متفاوتة الارتفاع، يحتشد في ثباتها الغصون المتلاحمة للأشجار الكثيرة، وفروع النباتات المتشابكة بكثافة أوراقها، وتناثر زهورها الملونة، حيث يمكن تمييز رائحة الفل من اختلاط النسائم .. تغمر أطراف هذا البحر الأشبه بفردوس صغير سياجًا حديديًا يعلو جدران المدرسة، وتتدلّى عبر ثقوبه الواسعة نحو هواء الرصيف .. أمر تحت الكوبري السفلي ثم أعبر الطريق نحو بيت آخر .. ليس هناك أحد إلا الموتى .. أبي يقف أمام الدولاب المفتوح في حجرة النوم .. أمي بين البوتاجاز والحوض داخل المطبخ .. أختي جالسة على سريرنا أمام دولابها الصغير .. أخي الأكبر ممدد في حجرته .. أخي الآخر جالس بجوار شباك الصالون، وينظر إلى الشارع عبر الشق الضئيل بين ضلفتيه .. لو أردت أن أسمعهم الآن سأسمعهم .. لكنني ـ كالمعتاد ـ لا أتذكر كلماتهم الآن، ولهذا يتبدد الصوت غالبًا لصالح الوجه .. كأنني كنت أعيش مع مجموعة من الأبكام، لا يستطيعون التخاطب إلا بواسطة إشارات الأيدي وتعبيرات الملامح بالرغم من أن حيواتهم لم تمتلك بصمة لإثبات وجودها أقوى من الصراخ والنحيب .. كأنني كنت طفلا أصمًا لا يمكن لأذنيه أن تمررا إلى وعيه ماهية العذاب المتدفق طوال الوقت من أفواههم فظل معتمدًا حتى اللحظة الأخيرة على تأمل الوجوه ومراقبة انفعالاتها، وتتبع حركات الأذرع والأقدام .. فجأة يختفون ثم تطلب طفلتي أن أقف معها في الشرفة .. تضع قدمها اليمنى في الفتحة المربعة الكبيرة للسور ثم تستند على صلابته لترتفع قليلا بينما تضع قدمها اليسرى في الفتحة المربعة الكبيرة المجاورة للأولى .. حينما كنت أقوم بهذا الصعود القصير لمشاهدة العابرين، لم أكن أعلم أنه سيكون لي طفلة ستقف في نفس المكان بالضبط بعد أكثر من ثلاثين سنة .. كيف لطفل لا يزال مستكينًا داخل السنوات العشر الأولى من حياته أن يتخيل وهو جالس في الشرفة آخر النهار الشتائي بين أصص الريحان، وتحت فروع اللبلاب الغزيرة المثبّتة فوق الحائط أنه سيقف بجوار طفلته ذات لحظة ما في الموضع ذاته بعد أن يتلاشى كل شيء .. هنا يا حبيبتي كنت أقرأ القصص المصورة، وأحلم بالعيش في حصانتها، مرتديًا البيجامة الكستور بينما أنصت إلى صفير متواصل كنت أظنه لطيور غير مرئية، تخاطبني من وراء الغيوم حتى اكتشفت أنه لصاحب برج الحمام فوق سطح هذا البيت القديم، الذي ينادي أصدقائه ذوي الأجنحة الناعمة كي يعودوا إلى بيتهم العالي قبل الغروب .. هنا كان جسدي الصغير والمطر يحتض كل منهما الآخر .. كان الهواء البارد يجعلني والمطر كائنًا واحدًا داخل هذه الشرفة التي كانت على وشك أن تكون جزءًا من مدينة البط يا حبيبتي .. أما الآن فالصحراء المقيتة خلفي، يطبق ظلامها المرعب على كل حيز داخل الصالة والحجرات، ويمتد عبر الباب إلى السلالم المتهدمة التي مرت عليها جنازات هذا المنزل، واحدة تلو الأخرى، ولم يعد لفضائها الصامت هوية سوى الرائحة المريرة للموت، بكل ثقلها السافل، الذي يعصر قلبي ويطحن عظامي أثناء الطلوع والنزول .. منذ سنوات طويلة، لم يعد صعودي وهبوطي لهذه السلالم سوى تمرين على جنازتي .. الصحراء المقيتة خارج البيت .. في المدينة كلها .. في العالم الذي لم أجئ إليه سوى لأدفن طوال عمري داخل بقعة صغيرة من فراغه المعتم .. لم تعد الحياة بالنسبة لي سوى التظاهر بأنني لست ضائعًا في الظل الأسود الهائل للموت .. ابتعدت عن الأصدقاء، كي أمشي وحدي، أبحث في الأماكن القديمة عن نظرات أمي .. ربما أجد عينيها في وجوه الفلاحات داخل السوق اللاتي كانت تبتاع منهن، أو فوق أبواب وحوائط ولافتات الدكاكين العتيقة التي كانت تقصدها، أو في الشرفات المتهالكة والخاوية للبيوت المقفلة على غبار النهايات التي كانت تخطو بين ابتساماتها .. أمشي وحدي في المدينة كوعاء للفناء، يحمل رماد عائلته كلها، يرتعش بالروائح المفاجئة للماضي التي تتعمّد الانبعاث عند مروره أمام مخابئها ثم تتلاشى في لمح البصر كي يتمادى سقوطه داخل الجحيم .. جسدي يواصل الاحتراق لتزداد تدريجيًا حمولة الرماد العائلي التي أحملها فتثقل خطواتي داخل هذه المدينة التي لا أعرفها .. أربعون سنة قضيتها كغريب تائه، إقامته محددة داخل هامش ضيق جدًا، ليس بمقدوره مغادرته، بل كان عليه أن يبقى مجمدًا ومنكمشاً في خفائه، ومتطلعًا إلى الحياة خارجه باستسلام تام للخوف الذي يمزق روحه بتمهّل شهواني .. الآن أفكر في المدينة كذكرى لم أعشها .. كخيال يمكن أن يعيد الحياة إلى هذا الرماد .. لكن النوافذ التي أتهاوى منها أثناء سيري، والشوارع التي تذبح بصري في كل التفاتة، وأعمدة الإنارة التي تمضغ قدميّ المرتجفتين؛ جميعها ترسّخ وعدًا أزليًا بأنها لن يمكن أن تستجيب لأحلامي التي أرى فيها المدينة كما يجدر أن تكون خارج كل هذا الضجر الغليظ الصدئ .. كأنني أفتش منذ أربعين عامًا داخل هذه الشوارع عن لقاء لا أتذكر من الذي الذي أعطاني موعدًا له، وما الذي يمكن أن يحدث عندما يتم.
جميعهم يعرفونني .. المقيمون وراء الشبابيك، والجالسون في المحلات، والعابرون في الطرق تحت المصابيح جميعهم يدركون سري .. ينظرون في عينيّ حينما أمر بينهم كأنهم يعلمون أن معي حصيلة كبيرة من الرماد، يضيف المحترق من جسدي إليها وزنًا إضافيًا طوال الوقت، وأنني أكابد عناءً في حملها لم أعد أطيقه .. يعلمون أنني لا أستطيع نثر هذا الرماد خارج قلبي، ولا أستطيع تشكيله مرة أخرى كأبوين وثلاثة إخوة وجدة وقطتين وسلحفاة واحدة .. يعلمون أن هذا الرماد هو كل ما تبقى لي من العالم، وأنني فارغ تمامًا من دونه .. جميعهم يسمعونني دون أن أتكلم .. يقرأون في وجهي الصوت المتوسل الذي أخاطبهم به وهم يدهسونني: أيتها الأشباح التي تفيض المدينة بأجسادها العفنة .. يا من تتضاجعون، وتنتحرون، وتغتصبون، وتقتلون بعضكم البعض في كل لحظة بين الجدران وخارجها .. لا أريد أن أسمع الكلمات القديمة .. لا أريد أن أرى المزيد من نفس الصور .. لا أريد أن يكون لكم وجود هنا .. أنا آلة المحو المعطلة، وأنتم لستم أكثر من عبء بشع على ذكرياتي .. مسوخ بالية تجثم على خيالي المحتضر .. لستم سوى الكراهية في ذاتها التي تسجن أحلامي .. أنا الذي تسحقونه تحت بلادتكم البغيضة، ولا يستطيع أن ينطق، لكنكم لا تدرون شيئًا عن استمتاعه العظيم بشقائكم .. تلذذه الطفولي بالمصائب التي تلتهم غفلتكم ..  كل ما أتمناه أن أرى هلاككم جميعًا قبل موتي .. لا أرجو أكثر من أن تتبخروا دفعة واحدة في صمت محكم.
السيارات والدراجات النارية تتقاذفني بأعاصيرها الهائجة، التي تتفجر في كل الاتجاهات .. يرتجل الجالسون وراء عجلات القيادة، والراكبون خلف مقاود الموتوسيكلات مقطوعات متواصلة لموسيقى الخراب بالوقاحة اللائقة لاندفاعاتهم العاتية .. يتبادلون ارتباكي الفزع .. يقلصون المساحات إلى أقصى حد ممكن أمام خطواتي المذعورة .. يحاصرونني بالتهديد الثمل، المتلاحق في كل لحظة فأبلع الشتائم التي لا يمكنها أن تلحق بالضجيج اللامبالي لعبورهم الخاطف الذي يواصل الاعتداء على كل فراغ حولي .. أرى الخيوط التي تحركهم النازلة من السماء .. أسمع حركة أمعاء المايسترو الذي يلهو بالمسارات الفوضوية لعمائهم الدنيء .. أشم الرائحة الكريهة لانسجامه المطمئن مع إيقاع الماكينات المارقة .. أنا أشيخ مُقطّعًا في انتظار وقفة واحدة داخل الموسيقى الهادرة .. وقفة قصيرة واحدة فقط .. ربما أتمكن ـ بكل ما أحمله من رماد ـ من الطيران إلى هذا البيت العالي قبل الغروب.
اللوحة لـ Fabian Perez
أنطولوجيا السرد العربي ـ 20 أكتوبر 2017