الثلاثاء، 7 نوفمبر 2023

العالم المكتوب: تاريخ التمرد

في كتابه "العالم المكتوب" الصادر عن دار أثر بترجمة نوف الميموني؛ يخوض الكاتب الإنجليزي مارتن بوكنر رحلات شيقة عبر ستة عشر عملًا أو ما يعتبرها النصوص التأسيسية التي كان لها دور في تشكيل تاريخ العالم من الإلياذة وحتى هاري بوتر مرورًا بحكاية جينجي ودون كيشوت والبيان الشيوعي. الرحلات التي ـ بحسب مقدمة الكتاب ـ تنقل تجربة كاتبها برواية قصة الأدب، وكيف حوّل الأدب الأرض إلى عالم مكتوب.

ما يعمّق من أهمية الكتاب هو اقتفاء أثر مسارات التدوين والطباعة والتداول والقراءة التي اختبرتها الكتابة عبر الزمن، فضلًا بالتأكيد عن المعاينات الواقعية لبلدان وأماكن النصوص التي قام بها الكاتب وساهم حضورها داخل البنية التأريخية للكتاب في إكسابه مذاقًا حميميًا مميزًا؛ حتى أنه ربما ينتاب قارئ ما شعورًا بأن ما كان ينقص مارتن بوكنر أن يسافر في رحلة دوران حول القمر على متن مركبة كـ "أبولو 8" والتي استشهد في مقدمة كتابه بمناورتها الشهيرة عام 1968، وتحديدًا بالاقتباسات "الأدبية" التي تضمنتها هذه الرحلة من قِبل روادها الثلاثة في وصف كل منهم للقمر والكرة الأرضية والفضاء، وعلى الأخص الرسالة التي بعثوا بها إلى شعوب الأرض من سفر التكوين:

"في البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغَمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله: "ليكن نور"، فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة. ودعا الله النور نهارًا، والظلمة دعاها ليلًا. وكان مساء وكان صباح يومًا واحدًا. وقال الله: "ليكن جَلَد في وسط المياه. وليكن فاصلًا بين مياه ومياه". فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد. وكان كذلك. ودعا الله الجلد سماء. وكان مساء وكان صباح يومًا ثانيًا. وقال الله: "لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة". وكان كذلك. ودعا الله اليابسة أرضًا، ومجتمع المياه دعاه بحارًا. ورأى الله ذلك أنه حسن".

يرى مارتن بوكنر أن أبولو 8 تعطي درسًا في قوة تأثير النصوص التأسيسية مثل الإنجيل، ليس هذا وحسب، بل إن المهمة التي قامت بها هذه المركبة بوصفها معركة من معارك الحرب الباردة؛ كانت بالضرورة من ضمن نطاق الحرب بين النصوص التأسيسية. بين آيات الإنجيل التي قرأها الرواد الأمريكيون، والبيان الشيوعي الذي يشكل أفكار رائد الفضاء الروسي يوري غاغارين، أول رجل يجول في الفضاء الخارجي، والتي عبّر عنها بعد عودته إلى الأرض.

"لم يولد الأدب إلا عندما تقاطعت رواية القصص مع الكتابة، ففي السابق كانت رواية القصص منحصرة في الثقافات الشفهية، ولها قواعد وأغراض مختلفة، ولكن عندما ارتبطت رواية القصص بالكتابة بزغ الأدب مشكّلًا قوة جديدة. وكل ما تلا ذلك، أي تاريخ الأدب بأكمله، بدأ منذ لحظة التقاطع هذه، وهذا يعني أنني إذا أردت أن أحكي حكاية الأدب فعليّ أن أركز على الاثنين؛ رواية القصص وتطوّر تقنيات الكتابة المبتكرة، مثل الحروف الأبجدية والورق والكتاب والطباعة".

بصرف النظر عن التحديدات التاريخية والاكتشافات الأثرية التي يعتمد عليها الكتاب؛ فإنني أفكر في أن "تدوين القصص" هو كفاح مرتبط بالوجود الإنساني، وما الكتابة إلا نتيجة هذه المجاهدة العفوية التي سبقت البداية المفترضة للتدوين، وتمثل العمر البشري نفسه على الأرض. بدأت الكتابة مع النظر والصمت والحركة والتفوّه ومخاطبة النفس والآخر والمجهول، أي مع اكتشاف الحاجة إلى تمرير التفاصيل المؤقتة التي تشكل حياة الإنسان إلى المطلق. إلى الإبقاء على "حكايته" خارج الزمن كمقاومة للفناء المحتوم وبمختلف السبل الممكنة للحواس. هذا السعي الأزلي، ولكونه قائمًا على إدراك الطبيعة البشرية الناقصة والزائلة فإنه محكوم بغريزة الرفض والعصيان والثأر، والتي تتجسد في مظاهر لا نهائية، تتنكر أحيانًا في عكس ما يكمن وراءها ويقودها، ودون وعي بتلك المواراة التي تفرضها كل آليات التسلط. "الكتابة" إذن تمثل خطوة منطقية في مسيرة التمرد الإنساني هذه، بجعل الخطاب الفردي "الانعزالي" الموجّه للمطلق، وعبر الآخر، يتحوّل إلى "رسالة" موثقة عابرة للزمن، أي أن تتمثل "القصة" في نطاق "مجسّم" يساعدها على مراوغة المحو والتبدد، بما يعني تزايد احتمالات الحصول على أثر غيبي ما.

"كان الكهنة الهنود يأبون تدوين القصص المقدسة خشية فقدان سيطرتهم عليها، وكذلك فعل شعراء غرب أفريقيا الذين عاشوا بعدهم بألفي عام في الجهة المقابلة من الكرة الأرضية. أما الكتبة المصريون فتقبّلوا الكتابة، ولكن حاولوا إبقاءها سرًا أملًا في احتكار قوة الأدب لأنفسهم. وقادة ذوو نفوذ وشهرة مثل سقراط رفضوا التدوين وثاروا على مبدأ سيطرة النصوص التأسيسية وعلى تقنيات الكتابة التي حوّلتها إلى حقيقة".

لكنه ليس مجرد تدوين؛ فالكتابة ـ امتثالًا للفكر الذي نتجت عنه ـ هي مطاردة للإيهام المستقر في ما يُحكى استغلالًا للحضور الحسي "المتناسخ" للكلمات، أي عبر الوجود المتعيّن للقصة وليس عبر أصوات الحكائين المتراوحة بين الغياب والاستعادة. هذا الوجود المتعيّن أراد تحويل القصة من "صراخ شفاهي، سلبت فرديته ونذر للضياع والتبدل" إلى "سردية متجذرة" استنادًا إلى "الذاكرة" الناجمة عن التدوين؛ فالكتابة تتيح للحكاية أن تكشف وتوحي بماضيها الخفي، الأفكار والتغيرات والإزاحات التي تعاقبت على إنتاجها، وبالضرورة أيضًا تتيح لها حيازة الإمكانيات غير المحدودة لمراجعتها وإعادة خلقها خارج الطمس الماثل في صيرورة التداول بين الحفظة ووارثيهم. تجريد القصة من البُعد "الصوت" البشري المقيّد، من خضوعها للألسنة التي لا تحميها من النسيان، من الانتقاء والإهمال والاستبعاد. حوّلت الكتابة قصة الإنسان إلى سردية حينما أبقت على استقلاليتها خارج الولادة العابرة والحياة المؤقتة والموت الحتمي.  

"وبالاستفادة من تجارب المصريين السابقة أدرك الفينيقيون أن مكمن القوة في هذه الأنظمة الكتابية هو نفسه موطن ضعفها؛ إذ ظلت الرموز مرتبطة بمبدأ تمثيلها الشكلي للمعاني فسوف يكون عددها لا متناهيًا، فخرجوا بحل مختلف جذريًا: يجب أن تُفصل الكتابة عن عالم الأشياء والمعاني، فتمثّل اللغة نفسها فقط، وتحديدًا أصواتها، فكان كل رمز يمثّل صوتًا، ومن ثمّ يمكن جمع الرموز لتأليف كلمات ذات معنى".

كان الاعتماد على أصوات اللغة المنطوقة بالتحديد كاشفًا لدور الكتابة في مواجهة الصمت الغيبي، وهو ما سيصبح أكثر وضوحًا مع الطباعة والتداول، حيث يتجلى ذلك الاحتياج لأن يكون المكتوب أكثر من نفسه، أن يتعدد دون حد، يتجاوز المعنى المباشر، والدلالة المستقرة، وكأن كل نسخة هي احتمال جديد لهذا التخطي لما يمكن أن يُعد أصلًا للحكاية، وذلك ما تحقق بالفعل مع الولادات المستمرة لنسخ مختلفة من القصص. هذا ما يذكر بأهمية "التدوين" وضرورته؛ كيف كان يمكن أن يتحقق هذا التجاوز والتعدد لو لم يكن هناك نص مستقل، لا يرضخ لأهواء الكلام، وغير مرهون بوعي الذين يتبادلونه أو بالأحوال القدرية التي تحكم ذلك التبادل في فضاء مُهدِر.

"وإن كان من الصعوبة التخلي عن الترميز للأشياء والمعاني في الكتابة فإن لها ميزة عظيمة؛ فقد قل عدد الرموز من المئات أو الآلاف إلى عشرات قليلة، فصارت القراءة والكتابة يسيرة أيما يسر، وارتبطت الكتابة ارتباطًا وثيقًا بالكلام المنطوق".

ذلك ما يفسر بالطبع رفض الكهنة الذين أشار لهم مارتن بوكنر للتدوين، وكذلك شعراء غرب أفريقيا ورغبة الكتبة المصريين في احتكار الكتابة سرًا، وهذه مجرد أمثلة، ذلك لأن التدوين يقف أمام هذه السيطرة الشفاهية على الحكايات بواسطة التحولات التغييبية عبر الزمن لمتونها، أي ما يعطيها بصورة جوهرية القدرة على أن تكون سلطة في أيدي الرواة "الرسميين".

"بل إنه في إحدى الأحداث الدرامية المذكورة في الكتاب المقدس (التناخ) يتصوّر الكتبة المنفيون ربهم كاتبًا. فالرب يستدعي أولًا موسى ليملي عليه الشرائع التي يريد للشعب المختار أن يتبعها. يكتب موسى كل كلمة بدقة، ويوصل الرسالة للناس. وهذا موقف كتابي مألوف: سيد ذو سلطة يملي كلمات على كاتب. ثم دون أي توضيح يعدل الرب عن ذلك ويقرر أن يلقي كلمته بلا كاتب. وبدلًا من أن يملي على موسى يعطه ألواحًا من حجر تحمل كلمات منقوشة، نقشتها إصبع الرب. ولم يكن من المستغرب أن يرغب إله في أن يكتب بيده، فقد عبد سكان بلاد الرافدين الإله نابو من ضمن آلهتهم الكثيرة، وكان نابو إله الكتبة. وما كان مسغربًا هو أن بني يهوذا قد جمعوا الكينونة الإلهية كلها في إله واحد، ومع هذا أرادوا أن يجعلوا هذا الإله كاتبًا".

خلق الكاتب المطلق على صورته، كأنه يفصل أصله الغيبي عن بشريته "الكاتبة" لكي يعيد ذلك المطلق "المخلوق" إلى الكاتب "كونيته المستلبة والعصية"، باعتبار أن "المطلق" هو مصدر الكتابة، أي مصدر العالم، وذلك ما يجعل هذا الخلق "المضاد" انتقامًا من السر الماورائي، لأن الإنسان "الكاتب" بهذه الطريقة يسعى لإيجاد سرديته الحصينة التي قد تزيح قدره البشري. ذلك الانتقام "الغريزي" قائم على شكل من الترويض والكبت للغضب الوجودي، بتقمص سيادة هذه السردية التي تم نسبها للمطلق، التوحد مع مشيئتها المجردة، الثواب والعقاب، الجزاء الأخروي إلخ. بهذا فإن الكاتب لا يقدم ولاءه ويثبت إذعانه لقوة خارجية، منفصلة ومستقلة، غير مشروطة بالعالم، ولكنه يفعل ذلك تجاه نسخته الكونية "الموروثة" التي تعاقبت جماعات أسلافه على "كتابتها" أي تكوينها وتعديلها، وكان عليه أن يكتسب ملامحه الخاصة من خلال "سردياتها" بواسطة ذلك الوسيط القهري المخاتل وهو "الإيمان".

"هذا المشهد كله هو كابوس أي كاتب. فُرض أولًا على الكاتب أن يملي عليه الرب كلماته، ثم تُسلم إليه الألواح بعد اكتمالها، ثم تسلم إليه الألواح البديلة، ثم أخيرًا يجد نفسه مضطرًا إلى كتابة ما يُملى عليه مرة أخرى. ولا ريب أن الدقة ضرورية هنا، فأي خطأ سيكون حتمًا مميتًا، جالبًا غضب هذا الرب الذي هو نفسه كاتب محنك. استعان الكتبة المنفيون الذين حفظوا هذه الحادثة كتابة ونمقوها بكل طاقاتهم التخيلية لابتكار دراما من رحم عملية الكتابة، ليوضحوا مدى التعقيد والتشديد الذي يحيط بالكتابة، كيف لا وهي هنا طريقة التواصل مع الرب ذاته".

لنراجع نماذج من النصوص التي قام مارتن بوكنر في "العالم المكتوب" بتحليلها: الإسكندر الأكبر أراد أن يكون آخيل الغاضب والمنتقم في "إلياذة" هوميروس، الملك جلجامش يصارع الآلهة من خلال غريم وحشي ثم يضطر في نهاية الملحمة القبول بفنائه كإنسان، عزرا أحد كتبة بني يهوذا يعيد نسخ و"نسج" قصص أسلافه كشرائع يحتل منزلة أساسية فيها غضب موسى وكسره للألواح الحجرية التي نقشتها يد الرب وإعادة كتابته لوصاياها بنفسه، شهريار ينتقم من النساء بقتلهن قبل أن تبدأ شهرزاد في رواية قصص "ألف ليلة وليلة".

"إن نزوع الإنسان إلى رواية القصص، ووضع الأحداث في تسلسل واضح، وعقد حبكات ثم تصعيدها ومحاولة حلها تكاد تكون غريزة بيولوجية متأصلة في جنسنا. نحن منقادون إلى ربط الأمور، من أ إلى ب، ثم من ب إلى ج، وأثناء هذه العملية تراودنا أفكار عن كيفية الوصول من نقطة إلى نقطة أخرى، وما الذي يحرّك القصة إلى الأمام، وما إذا كانت الإجابة قدرًا كونيًا أم حظًا أم دوافع اجتماعية أم إرادة البطل. وغالبًا ما تضمر الشخصيات سرًا لا يمكن البوح به، ومع ذلك فإننا لا نطيق صبرًا لمعرفته، وبحكم قانون رواية القصص فإن السر يخرج منهم عنوة، حتى لو كان ذلك لإرضاء فضول الملك وفضولنا. بغض النظر عن ماهية الدوافع التي تقود أولئك الأبطال فإننا نتابع مسيرهم في الظروف المعادية أو الملائمة، حتى نفاجأ أن الراوي خلق لنا عالمًا متكاملًا".

هذه النصوص التي يعتبرها مارتن بوكنر "تأسيسية" تُشكل وتؤكد تاريخ التمرد المُسمّى بالكتابة، الذي لا يبدأ بالتدوين "قصة الأدب"، ولا ينتهي بإعادة النَسخ، وباعثه الجوهري هو رفض الصفة الإنسانية، عصيان الحتمية البشرية، الثأر من "المطلق" الذي حرمه من امتلاك قدر إلهي، ولهذا سنجد دائمًا حكاية قائمة على الغضب والصراع مع "الكوني" والانتقام مما يمكن أن يمثل عقبة أمام التحرر من الحياة والموت .. التمرد الذي يمكنه أن يتجسد في صور وأشكال مناقضة لطبيعته، ولكنها لا تمحوه لأنه غريزة وجود، بل تبقيه كامنًا، نشطًا، وقائدًا للذات عبر أقنعة وضلالات.

أخبار الأدب

4 نوفمبر 2023