الثلاثاء، 31 أكتوبر 2023

العينان المفتوحتان والخجل من إغلاقهما

ما رأيته خلال طفولتي في الثمانينيات من صور للمجازر الإسرائيلية في فلسطين عبر التليفزيون والصحافة شيء، وما رأيته على شاشة العرض في مدرستي الابتدائية ذات يوم كان شيئًا آخر .. أتذكر أن مشرفة الصحافة بقصر ثقافة الطفل جاءت إلى المدرسة مرتدية الوشاح الفلسطيني لتعرض أمام التلاميذ الذين تجمعوا من مراحل عمرية مختلفة داخل أحد الفصول فيلمًا وثائقيًا عن الوحشية الصهيونية تجاه الفلسطينيين .. أُغلق الباب، وأسدلت الستائر على النوافذ، وبدأت صور ثابتة ومشاهد متحركة تتعاقب أمام عيوننا على الشاشة المضيئة المفرودة في مقدمة الفصل بينما مشرفة الصحافة تسرد لنا مكان وتاريخ وتفاصيل كل مذبحة .. هناك من دفعته بشاعة اللقطات التي كنا نبصرها للمرة الأولى إلى إشاحة وجهه بعيدًا، وهناك من راح يسترق النظر من بين أصابع كفيه، وهناك من أسند رأسه على ذراعه مواريًا دموعه .. كنت أريد أن أغمض عيني ولكن شيئًا غامضًا في داخلي أجبرني على إبقائهما مفتوحتين .. شيئًا قويًا، وحاسمًا، جعلني رغم الصدمة والألم أدرك دون تفسير بأنني يجب أن أرى .. بأنني لا يجب أن أغمض عينيّ مهما كان الأمر.

منذ ذلك اليوم وطوال الفترة التي قضيتها في إعداد المجلات الورقية في قصر ثقافة الطفل ومجلات الحائط بالمدرسة؛ ظللت أبحث عن صور المجازر الإسرائيلية في الجرائد والمجلات والكتب .. أطارد ما يتجنب الآخرون النظر إليه .. كنت أجمع هذه الصور وأنشرها وأكتب مقالات عنها .. كانت لدي ملفات مكتظة بمشاهد القتل والتنكيل الإسرائيلي فضلًا عن الأرشيفات الصحفية التي توثق هذا التاريخ .. ربما ذلك ما جعل الجحيم الفلسطيني موضوعًا أساسيًا في محاولاتي القصصية الأولى، والتي بدأت بعد مشاهدتي للفيلم الوثائقي بسنوات قليلة .. هكذا تجيب القصة القصيرة بنفسها عمليًا على سؤال الماضي: لماذا يجب أن تُبقي عينيك مفتوحتين؟ .. كنت أكتب القصص من قبل استعمال الورقة والقلم بوقت طويل.

في عام 2006، وأثناء متابعتي لأحداث مجزرة قانا الثانية بدأت تداهمني أعراض مرضية، اضطررت مع تزايدها إلى الذهاب للطبيب، والذي أخبرني بضرورة التوقف عن المشاهدة .. كان يبدو أن جسدي يعطي إنذارًا متصاعدًا بأنه لم يعد يتحمّل رؤية ما تعوّد التحديق إليه، وأن الطبيب قد أدرك هذه الشكوى فطلب مني الاستجابة لها .. أراد مني أن أغلق عيني .. غادرت العيادة وعدت إلى بيتي لأواصل الجلوس أمام التليفزيون ومتابعة تفاصيل المذبحة مقررًا تخييب رجاء جسدي .. تحمّلت الأعراض رغم وصولها إلى ذروة مخيفة حتى أجبرتها على التراجع والانسحاب .. كنت أعرف أن جسدي سوف يعاقبني فيما بعد على هذا القمع بصورة مزمنة وأشد ضراوة؛ لكنه ثمن عدم وجود اختيار بالنسبة لي .. يجب أن أرى، ولا شيء غير ذلك.  

حينما شاهدت على الإنترنت لقاءًا أجرته قناة RTarabic مع عجوز من غزة رفض النزوح رغم الغارات الإسرائيلية في أكتوبر 2023 حتى لا يترك القطط التي يرعاها؛ تذكرت على الفور “عجوز على الجسر” لإرنست همنجواي، وهي القصة القصيرة الأولى في مقرر ورشتي القصصية .. كأن العجوز في قصة همنجواي لا يزال جالسًا عند الجسر طوال هذا الزمن، رغم القصف، لأنه غير واثق بأن قططه يمكنها الاعتناء بنفسها .. كأن عيني همنجواي لا تزالا مفتوحتين .. لأنه رأى العجوز في ذلك اليوم .. لأنه كتب هذه القصة محاولًا رؤية نفسه .. لأن القصة كانت تكتب نفسها بواسطة هاتين العينين اللتين لم يغمضهما همنجواي عن العجوز أثناء عمله كمراسل في الحرب الإسبانية .. لأنهما عينان لا يدركهما الموت.

أنظر إلى ابنتي التي لم تكمل عامها الثالث عشر وهي تخبرني ببكائها الذاهل إنها شاهدت أبًا يحمل أشلاء طفليه في كيسين، وطفلة تصرخ حينما تعرفت على جثة أمها من شعرها، وأمًا تبحث عن ابنها وتصفه بأنه “شعره كيرلي وأبيضاني وحلو” حتى عثرت على جثته .. كانت تحكي ما سبق أن رأيته؛ فأصبح مع وصفها أكثر تعذيبًا لي .. أنظر إليها عاجزًا عن النطق .. هل أخبرها بأنني أكره رؤيتها لهذه المشاهد؟ .. هل أخبرها بأنني أخجل من كراهيتي لرؤيتها هذه المشاهد؟ .. هل أطالبها بإغلاق عينيها؟ .. ينبغي أن أواصل النظر إلى ابنتي .. ذلك ما يستحقه العالم حين يكون قصة قصيرة، ما يستحقه الخجل حين يشعر به المقتول لا القاتل، وما تستحقه ابنتي حين تكتب ذات يوم عن السفّاح الكوني.