الأربعاء، 20 يونيو 2018

نحو لا تعريف تراجيديا الهلاك


في كتابها "ومن بعدنا الطوفان" الصادر حديثًا عن دار صفصافة، بترجمة مميزة لعبد الرحيم يوسف تقف الكاتبة والأكاديمية الهولندية مينيكه شيبر عند حدود المفهوم دون تفكيك المصطلح، ومن ثمّ كان الرصد والتحليل للأساطير موضوع كتابها يعيدان التأكيد على المعرفة التي تندرج في الإطار الشامل، سابق التعيين للوجود الميثولوجي. لكنني أتصوّر ـ نظرًا لأهمية الكتاب ـ أن ثمة قراءة ضرورية يجدر بها أن تقوم بهذه الخلخلة، أي أن تبدأ خطوات الانتهاك فيما يسبق المتن الأسطوري نفسه، وأقصد بذلك هذه الأنظمة من البديهيات المصطنعة التي أقرت طبيعة مستقلة للميثولوجيا، ورسمت بالتالي خطوطًا عازلة لسياقاتها. هنا لا تصبح الأسطورة تاريخًا بدائيًا مقصيًا في شكل "خرافات مستحيلة" أمام "السيولة المتطورة لمنطق العلم"، كما أنها لا تظل خالقًا دائمًا للعالم حيث لا تتوقف الآلهة أو الرموز الأزلية عن إنتاج أشكال متغيرة من الصيرورة فحسب، بل يرتبط تفكيك المصطلح بفتح حدوده المغلقة، بتذويب حواجزه النمطية، باكتشاف الميثولوجيا داخل كل ما كان لزامًا ـ كجوهر قهري للمعرفة ـ أن تبقى خارجه. هذا الإجراء سيحوّل المعنى الأسطوري إلى فكرة مؤجلة طوال الوقت. إلى احتمال مستمر في إرجاء يقينه. هو نوع من الأنطولوجيا المضادة التي تتشكّل دون ثبات بفضل محاولاتها لإثارة استفهامات تم التغاضي عنها أو إبعادها بشكل مقصود. لاكتشاف التواطؤ بين الدوافع والممارسات التي تقف وراء التحقيب الميثولوجي، وتثبيت الانقطاعات بين الأزمنة، أو ما يمكن أن نطلق عليها الصدوع المتعمّدة التي تحدد البدايات، والنهايات، والتوقفات، والتباعدات، والفصل بين فضاء حاسم من الإدراكات المتآلفة عن فضاء آخر.
حينما أفكر في ما يُسمى بـ "نهاية العالم" فإنني لا أستعيد فقط النبؤات المرتبطة بالأمر عبر مجرى التاريخ، أو قصص الفيضانات والزلازل والأعاصير والانفجارات البركانية اللاحقة في تشابهها أو حتى في تطابقها مع السرديات القديمة سواء كان ذلك مقرونًا بالإشارة إلى سُبل الإنقاذ أو الخلاص أم لا، وإنما أفكر أيضًا في النهايات اللحظية المتعاقبة ـ ضمن المجال غير المحكوم للأسطورة ـ في الانبعاثات المتراكمة لهذه النهايات التي لا تضع حدًا للحياة، وإنما تقود استمراريتها. أستعيد الوجوه اليومية ـ اللانهائية ـ للفيضانات والزلازل والأعاصير والانفجارات البركانية التي تزيح الميثولوجيا عن مركزها التقليدي، وتكشف عن امتدادات مختلفة لذاكرتها المحتجزة ـ كتراث مميِّز لحضارات معينة ـ عن الأسطورة كحكايات لا تميّز أصحابها.
إن الكوارث الكونية تحدث بالفعل، وبتفاقم عشوائي ليس أقل من تصاعد تراجيدي يسخر من الذروة، وهو ما كانت تحتاجه المعتقدات الأسطورية كضمانات غير قاصرة. لم تتعطل الحوادث المرعبة حتى تستأنف نشاطها، كما أن الوجود الإنساني يُمحى بصور عفوية متلاحقة، دون خلل في حركة الأجساد، أو في الظواهر الواقعية التي تسحب الميثولوجيا من السطح "الدمار ـ الصدمات القاتلة ـ النكبات المميتة" إلى العمق الذي ألحق تخفيفًا روتينيًا بالتأثيرات الدالة لهذه المفردات مقارنة بالسريان المألوف للتفاصيل الاعتيادية المباشرة التي أُهملت من نطاقات الأسطورة. هو ببساطة القدرة على استيعاب أنه لم تكن هناك نجاة حقيقية للجنين من الطوفان الأول "انفجار غشاء السائل المحيط به"، وأنه من أجل إثبات هذا المصير ينبغي ألا تُستبعد أي فكرة يمكن استعمالها خلال الحكاية التالية لتلك اللحظة، مهما كانت المحاذير التي تسعى لتجريد هذه الفكرة من البُعد "الأسطوري". هو أيضًا القدرة على الامتناع عن إقصاء أي تفاصيل تخص "الموقف الفردي" الذي نُسقطه على الكون استجابة لفرضيات صارمة حول ماهية الأسطورة. ستتخلى الميثولوجيا عن كثير من الانطواء الشائع إذا أتيح لها اقتفاء أثر النيازك والكويكبات والمذنّبات المتكاثرة التي استقرت داخل الأشياء، أي داخل اللغة التي تحوّلت بالضرورة إلى ماهو أكثر دهاءً من التنانين السماوية أو الثعابين ذات الرؤوس العديدة.
قراءة أساطير هذا النوع من "الجحيم" لا تأخذني نحو العوالم السفلية السحيقة بل إلى العوالم المعلنة التي صارت إليها الآن. إلى الظلام الراهن المهيمن داخلي وفي الخارج محاولًا تبيّن كيف أصبح هذا الذي يتم الإشارة إليه كـ "حطام"، أي الكينونة التي آلت إليها تلك "الصدمات الكونية" أو "الأحداث المهولة". محاولًا تبين الوضعية الخاصة التي تمثلني، أو الحيز الجدلي الذي تنتمي إليه فرديتي داخل الافتراضات المتعلقة بـ " الحوادث الدراماتيكية التي انتشرت عبر الروايات المكتوبة والتقاليد الشفاهية". قراءة هذه الأساطير هو كفاح لرؤية كيف بدأت قصتي الشخصية، وكيف شهدت تحولات وانقلابات، وكيف ظلت محتفظة بثوابت جذرية كأنها غرائز للحياة والموت: الخير والشر ـ الإباحة والتحريم ـ الثواب والعقاب ـ الفناء والبعث ـ الفردوس والجحيم. لماذا لا أفكر في جسدي عند مقاربة حكايات نهاية البشرية باعتباره ناجمًا عن تسويات سردية متناسلة عبر الزمن بين الأنبياء والمتنبئين؟. بوصفه نتيجة لتوظيفات متشعبة، أو استعمالات متعسفة لا تهمد للطبيعة والغيب والأحلام، أو كحصيلة مما تعرّضت له الأفكار والمشاهد من اختلاقات التداول الشفاهي، أو تحريفات التدوين؟. هكذا يمكن للدهشة أن تتسلل إلى ما هو أبعد من التماثل بين الكتب المقدسة والحقائق الجيولوجية، وأقصد بهذا مراوغات الميثولوجيا، المتضمنة للتعديلات والإضافات والمحذوفات والتواطؤات المتعمدة أو التداعيات غير المقصودة، والتي ساهمت في تكوين نهايتي الذاتية قبل لحظة وجودي في العالم. الوجود الذي ليس أكثر من إعادة توليد لطقس بالغ القِدم، جرى تأليفه كمزيج من احتمالات التنقل الشفاهي لوقائع ربما تكون قد حصلت بالفعل، وبين تخيلات ممكنة لم ترتبط بخبرة بشرية خارج الذهن، أو تجارب موضوعية تم الاتفاق أو التأكد من حدوثها.
كان يجب إذن أن أتوقف عند هذه "الحكمة" التي كتبتها مينيكه شيبر في مقدمة كتابها: "كل الأساطير قصص، لكن ليست كل القصص أساطير" نظرًا لأنها تلخص كيف توقفت شيبر عند حدود المفهوم دون تفكيك المصطلح كما أشرت في البداية. إن كل القصص يمكنها أن تكون أساطير لو حاولنا اكتشاف التمظهرات المغايرة لما سبق واعتبرناه أسطوريًا داخلها. لو حاولنا أن نضم ما كنا نعتقد بمنتهى الحسم أنه غير أسطوري إلى تأويلاتنا للأساطير. لو توقفنا عن التمييز بين أنساق نجدها معنية بمناقشة "مسائل وجودية" وأنساق أخرى لم نجدها كذلك لمجرد أننا اتخذنا قرارًا مسبقًا بهذا الشأن. علينا أيضًا ألا نضع تمييزًا ـ كما يروق لكثير من الباحثين ـ بين القصة والأسطورة في جانب ما. هذا الجانب "العملي" يتعلق بـ "أصل" القصة. إما أن يحمل ـ بحسب ما يرون ـ إمكانيات "حقيقي ـ واقعي ـ فعلي" فتظل قصة، وإما أن يحمل سمات "خيالي ـ مختلق ـ متوهم" فتصبح أسطورة. لنتأمل هذا "الأصل" في ضوء عدم اكتماله الدائم. إنه شيء يسعى طوال الوقت لإتمام نفسه، لذا فهو متبدّل، وغير ثابت. لا يمكن له أن يحمي تعريفًا محصنًا، مكتفيًا بذاته عن "الحقيقة" التي يمثلها. هو في احتياج مستمر لما هو خارج عنه، للرؤى التي تتفحصه، للتخيل الذي يراقب ويُعدّل ويعيد ترتيب تفاصيله، للمغامرات اللاواعية التي تأخذه بعيدًا عما كان يظن أنها حدود له. إذا كنا نعتبر في هذا الوقت من التاريخ أن ثمة انعدام أو على الأقل افتقار مُحبط للغرائبيات الاستثنائية القديمة ـ حيث يمكن التفكير أيضًا في طغيان ما يُطلق عليه الفانتازيا المأساوية الباردة التي حلت مكانها ـ  فإننا لا نعيش عصرًا لاأسطوريًا بل هو جزء من الكتاب الذي لا ينتهي كما وصف "بورخيس" ألف ليلة وليلة. قد تكون كل القصص أساطير لو تعاملنا مع استقلال الحدث كادعاء. لو نظرنا إلى ذلك الشيء الظاهري المرصود كواقع لن يتحقق إلا عن طريق خضوعه للحكي المتواصل، لإعادة الحكي في لعبة التفسير اللانهائية، أو ما يمكن أن نسميه انتزاع الميثولوجيا الفردية داخل الحكاية المصنّفة كوجود "جماعي" فعلي، غير مختلق.
مجلة (عالم الكتاب) ـ أبريل 2018