السبت، 30 يونيو 2018

الرقص كبصيرة نصّية

إذا كان من المفترض التفكير في ماهية الأداءات الراقصة التي تؤديها "باليرينا" نسرين البخشونجي عبر نصوص مجموعتها الجديدة الصادرة عن شمس للنشر والإعلام؛ فإن مقاربة المشاهد الناجمة عن هذه الأداءات لا يفترض أن تبقى عالقة داخل إدراك ثابت بل يجدر بهذه المقاربة الوعي بالاختلاف بين هذه الأداءات، والوصول إلى نوع من الحدس تجاه تعارضاتها المخبوءة.
تبدو حركة الرقص في مجموعة "باليرينا" كأنها حفر مقتضب للكلمات في الفراغ؛ حيث أن ما يشكّل الانفعال والتناغم للإيقاع هو التثبيت المتتابع والمحسوب لمفردات اللغة، وهو ما يساهم بالضرورة في تجاوز صورها المباشرة .. كلمة كـ "النقاء" مثلا التي يعنون بها النص الأول في المجموعة سنجد أن المفردات القليلة التي تمثل الحصيلة اللغوية لهذا النص بمثابة امتداد متجانس لهذه الكلمة، والذي يبدو كتأكيد على فكرة تكوّنها عناصر أساسية "الروح ـ العشق ـ البدر ـ النور ـ الاصطفاء" .. لكنه الأداء الذي يُضمر بشكل عفوي نوعًا من الرجاء في الامتلاك الكامل لهذا "النقاء" .. في محو تمنّعه، وإزالة الضجيج المراوغ الذي يحاصره .. في استبدال مجازه الكامن داخل الحركة الراقصة للباليرينا بحيازته المستحقة، التي تُعادل "الاصطفاء" .. كأنه شكل من الثأر الضمني تجاه العداوات المتراكمة لهذا "النقاء"، والذي يبدو في احتياج إلى التحفيز بواسطة الإيقاعات المنسجمة حتى يكشف عما لا يبدو واضحًا في سياقاته التخيلية؛ أي أن يصير واقعًا حسيًا غير مهدد .. سنلاحظ هنا أن الكتابة تخطط لما يمكن أن نسميه المورفولوجيا الملائكية التي تميّز الشكل التقليدي للباليرينا؛ إذ أن ثمة بنية للأداء الراقص يكوّنها على سبيل المثال: "البياض ـ الشفافية ـ النصوع ـ الخفة" .. في علاقة هذه السمات ببعضها، وفي صلة كل منها بالكل؛ فإنها تسعى لتشكيل أجسام استبصارية لا تتوقف عند توثيق "الملائكية"، بل تستدعي أيضًا هوامشها المحتجبة، وإنتاج رموز لعذاباتها السرية.
يتكوّن نص "باليرينا" من إثني عشر مقطعًا يبدأ كل منها بـ "ذات يوم" .. نحن أمام استشراف إذن يأخذ طبيعة الحلم المتسم بالخفة الوردية للباليرينا التي يشبه فستانها المنفوش زهرة اللوتس .. هذا التمني النبوئي يعادل الرجاء الذي أشرت إليه باعتباره دليلا على (عدم الامتلاك) الذي يكافح لاستبدال المجاز (الأداءات اللغوية الراقصة) بالرقص الفعلي للباليرينا الحقيقية التي تخطو داخل القصيدة نحو حافتها .. هو طموح حينما يستبدل المجاز سيستبدل الواقع بالتالي؛ لذا فهي رغبة لإكساب الخيال وجودًا شاملًا، استنادًا على ما كان في الماضي مجازًا للواقع .. بهذه الطريقة تصبح حركة الرقص أسلوبًا للمقاومة، ليس ضد الحقيقة التي تنتمي إليها الكلمات المستخدمة في بلاغة الإيقاع فحسب، وإنما ضد عدمها أيضًا .. كأن هذه المقاومة هي محاولة لإعطاء تصوّر إيحائي للحقيقة البديلة المنتظرة؛ الأمر الذي يمكن أن يساعدها على التجسّد في الزمن ـ أو خارجه على نحو استثنائي ـ وفقًا للحلم اللغوي لهذه الحقيقة .. الحلم الذي ينسجه التانجو، وقوس قزح، والشمس، والمرآة، والحكايات.
"ذات يوم...
سأبدو كقديسة
بهالة بيضاء فوق الرأس
وسأطفو فوق
الظلام
كريشة".
بهذا لا يتم تثبيت الماضي بواسطة الإيقاع الراقص لكلمات الباليرينا فقط، وإنما يقوم كذلك بالتفاوض مع غموضه .. استنطاق هذا الماضي .. إعادة ترتيبه .. تعديله دون حسم ليتلاءم مع المقاومة .. كي لا يكون المصير الحتمي هو النسيان حقًا بعد انكسار الذات كطاحونة هواء ظلت تمنح فصولًا من روحها للعابرين .. لإعطاء الروح المتعبة التي تحمل صليبها أينما تذهب فضاءًا من الاحتمالات الملتبسة التي يمكنها أن تتحالف دون استبعاد أي منها .. الاحتمالات التي تقفز بين الكواكب، وتنتظر قدوم الظلام، وتصنع فقاعات ملونة .. التي تتواطأ في تمردها على نفسها لصالح إبهام يحلّق فوق الندم الذي أيقن أنها لا سبيل للعودة، ولا مجال للالتفات.
"بعد مائة عام
ستجدونني
ربما حرفًا بقصيدة منسية
أو ركنًا بعيدًا على وشك الانهيار...
وستجدونني
تاريخًا مكتوبًا،
بركن صورة ضوئية...
لم ولن تُطبع".
حينما نفكر في هذا التاريخ المكتوب بركن صورة ضوئية لم ولن تُطبع فنحن نواجه تساؤلًا جعلته الباليرينا عن طريق هذا الأداء الراقص ملغّمًا سلفًا؛ أي يكشف عن سعيه لمعالجة ثغراته بواسطة الرقص الذي تمارسه الكلمات المقتضبة .. عن محاولاته لتخطي المعرفة التي تجهّز خرافاتها المنطقية من أجله .. لذا فالتاريخ يشير إلى الأسباب الاستفهامية لطمسه عبر استرسال الباليرينا في حركتها اللغوية: مشانق الحزن .. السكين المكسور الذي يمسح الدموع .. اللعنة السيزيفية التي نقرأها هنا:
"تكبلني الأعشاب،
تسحبني لأعمق نقطة في قاع الحزن...
أطفو...
ألتقط نفسًا عميقًا...
أشاهد زرقة السماء
وأنا أنزلق مجددًا...
نحو الظلام.
أبعث من جديد،
كفرع نبات
جافًا هشًا.
أتنفس من جديد،
وأعاود الكرّة".
تطرح نسرين البخشونجي في هذه المجموعة ما يشبه إيتيقيا للأمل الذي تحمله الباليرينا؛ أي أنها تقدم إطارًا للمجاهدة التي تقوم بها هذه الباليرينا من خلال إيقاعاتها (كسلوك تخييلي)، لتشييد رجائها الأخلاقي الخاص عن السعادة .. الرجاء القائم على الفعل الشخصي الذي يجابه الأخلاقيات الاستباقية .. تفكير هذه الباليرينا في إمكانياتها، في ما تستطيع أن تقوم به مقابل الضرورات التي على استعداد دائم لقمعها .. في الاستجابة الأخلاقية الموازية للقدر، التي ربما تنبعث من وراء الجحيم.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 1 يونيو 2018