الخميس، 11 أكتوبر 2018

يوميات: الخميس 11 أكتوبر 2018

أخبرني أحد الرفاق المؤقتين في "مارشال المحطة" اليوم، وكنا نتحدث عن الأهمية الصحية للمشي بأن طريقة سيري أشبه بالقفزات السريعة المنفلتة كشخص يعجز عن المشي بشكل صحيح .. قال هذا كمن يصف مشهدًا عابرًا بحياد كامل، ولكنني سمعته كأنما قال لي بالضبط أنني أسير في الشوارع متحدثًا مع نفسي .. سألته إن كان ما قاله صحيحًا بالفعل وليس مزاحًا فأعاد التأكيد على هذه المعلومة بنفس الجدية الهادئة، غير المكترثة التي نطقها بها من قبل مضيفًا لإثباتها إقرارًا برؤيته لي أمشي بتلك الطريقة أكثر من مرة .. كنت أظن أنني ـ كما يعرف الجميع ـ سريع الخطوات فحسب، الأمر الذي اعتاد أن يسبب إرهاقًا مزعجًا لكل من يشاركني المشي ـ خاصة زوجتي ومنذ أن كنا حبيبين يختلسان اللقاءات البعيدة ـ حتى أن أكثر التعبيرات دقة وبلاغة التي وصفت طريقة سيري تلك التي قالها لي صديقي القديم "باسم العزازي" حينما أخبرني بعفوية ممازحة وهو يلهث ورائي أثناء تجوالنا المسائي المألوف في منصورة التسعينيات بأنني أعطيه إحساسًا دائمًا كلما صحبني في هذا المشي المتعجّل بأننا ذاهبان لإنقاذ أحد ما.
ربما لم يلاحظ رفيقي في "مارشال المحطة" الوجوم الذي حاولت إخفائه وراء لامبالاة مصطنعة واصلت بها حديثي معه عن أمور أخرى .. الوجوم الذي امتلأ على نحو مفاجئ وبتلقائية مقبضة بسيل من المشاهد الفوضوية الحادة التي راحت تختلط بتجانس متلهّف لتكوّن مرارة ثقيلة في نفسي:
ـ "ربما الأمر أسوأ مما أعتقد .. ربما تصدر عني كلمات وانفعالات أكثر مهانة مما أنتبه إليها .. ربما هناك معرفة سوداء بالنسبة لي، وردية في أدمغة الآخرين يحتفظون بها، يتبادلونها على المقاهي وفي المكالمات الهاتفية، وعبر محادثات فيسبوك، يرجعون بها إلى بيوتهم ويوزعونها على أفراد أسرهم، ويغلقون عيونهم عليها عند النوم ويحلمون بصورها، ويستيقظون في الصباحات التالية بسعادة ممتنة لوجودها في حيواتهم .. ربما تنتشر هذه المعرفة بواسطة الذين يشاهدونني نحو بقية الناس"... من قصتي القصيرة "أسوأ طريقة لإنهاء الحياة".
ـ مؤخرة كبيرة ذات شعر مجعّد، ترتدي نظارة طبية، متنكرة في شكل شاب صغير يسعى للبدء في العمل بالصحافة، ويحاول أن يكون صديقًا لي، يقابلني بالصدفة منذ أكثر من عشرين سنة ثم يصافحني مبتسمًا، ويسألني بتهكم مغتل: "مالك ماشي كده زي فرقع لوز؟"؛ فأتجاهل استفساره المختنق بالحقد، والرغبة في إحداث ولو خدش صغير في سطح عالمي الذي لا يستطيع الاستيلاء عليه، مرجعًا الأمر إلى نوبة الهلع الروتينية التي كنت قبل لحظات من رؤيته على وشك التعرّض لها مجددًا مثلما كانت عليه حياتي وقتها، الأمر الذي جعل جسمي ينتفض باضطراب واضح أثناء المشي السريع التقليدي.
ـ أخي "مجدي" ـ مثلما كتبت في نوفيلا "جرثومة بو" وهو يمشي ببطء مترنّح في البيت والشارع، مستندًا على كل ما يمكن الاعتماد عليه تفاديًا للوقوع أثناء التحريك العسير لقدمين ثقيلتين، متيبستين، تغادرهما الحياة سريعًا دون تفاض قبل أن يصبح مشلولًا تمامًا.
ـ عنوان قصتي القصيرة "كأنه مكان للسير" التي كتبتها عن الموت المفاجئ لأخي "مدحت" الذي لم يتوقف بالرغم من وجوده المحدود خارج البيت ـ كما كتبت في القصة ـ عن الاحتفاء بالأحذية، والحرص على اقتناء الكثير منها، والعناية بها، فضلًا عن توقفه العفوي أمام كل فاترينة تعرضها، كأنه كان يجهّز مخزونًا لائقًا بالخيال حين يتحقق، ويصبح بإمكانه المشي فعلًا، وعني أنا بعد خمس سنوات من رحيله، حيث تخلصت من جميع أصدقائي، ولم أعد أخرج من البيت إلا نادرًا، ومازلت أتردد طويلًا قبل شراء حذاء جديد، ولم أعد أحلم باللحظات التي سبقت موت أخي، لكن صورة أحذيته المتراصة داخل الخزانة بجوار جثته ما زالت تطاردني في اليقظة.
ـ "لو كنت منذ صغري غريب الأطوار وقضيت عمري بأكمله هكذا دون تقديم دليل على عكس ذلك لكان الأمر أقل شقاءً .. كانت ستكون هذه هي الحقيقة الوحيدة التي يعرفها الآخرون عني، وبالتالي كان من الممكن أن يكون التجاهل أو الحذر هو طريقتهم الصحيحة في التصرف إزاء وجودي بينهم .. كان من الممكن أن يستقروا على هذه القناعة بعد تجاوز فترة التعارف التي تعني أخذ الجرعة المنطقية من الأذى .. الناس لا يوجهون السخرية والعداء ضدك إلا بقدر ما تبدي من سلوك عادي تثبت من خلاله أنك مثلهم .. حينئذ تتحول تلقائيًا كل أفعالك وكلماتك التي تبدو غير طبيعية إلى فرص ينبغي عليهم استغلالها بمهارة"... من قصتي القصيرة "لا شيء بعد الموت".
نعم .. لو كنت منذ صغري غريب الأطوار، وقضيت عمري بأكمله هكذا دون تقديم دليل على عكس ذلك لكان الأمر أقل شقاءً .. لكان من الممكن ألا أنتبه إلى وجودي في الشارع إلا حينما أباغت بالسيارات من حولي فأعرف أنني لست على الرصيف حتى، بل في وسط الشارع تمامًا مثل "أكاكي أكاكيفتش" في قصة "المعطف" لجوجول .. لكان من الممكن أن أجري طويلًا مثل "فورست جامب" دون اهتمام هل سيتبعني أحد أم لا، أو على الأقل أجلس على جانب الطريق أغلب الوقت مثل الشحاذ الذي فقد كلبه في مسرحية بريخت "الشحاذ أو الكلب الميت" بغير اكتراث هل سيقترب شخص ما للتحدث معي أم سأظل مُتجاهَلًا .. غرابة الأطوار التامة كانت ستحوّل طريقة سيري الأشبه بالقفزات السريعة المنفلتة إلى أداء بديهي .. ليس هذا فحسب؛ بل كان يمكن لها أيضًا أن تصبح تمهيدًا حتميًا للابتعاد المنشود عن الآخرين كافة .. كان يمكن أن تصبح دافعًا حاسمًا للغياب عن البشر الذين ربما يسخرون منك ـ من ضمن أسباب أخرى ـ  لأنك تعجز عن المشي بشكل صحيح .. لكنني أبدو من الخارج إنسانًا طبيعيًا، يتجاوب مع الجحيم مثلما يفعل الجميع؛ لذا ينبغي أن أبقى بينكم .. ينبغي أن أظل هنا حيث لم أتخلص بعد مما يجبرني على البقاء .. لم أحصل على الفقدان المثالي للإدراك الذي يرغمني على التخلي عن كل ما في حياتي الآن، والتحرّك نحو الوحدة الكاملة بعدما أخذت جرعتي المنطقية من الأذى .. لا أستطيع الآن أن أرقص كمجنون يضحك ويصرخ في الشوارع كما يليق بذاكرتي الوحشية .. كما يليق بالجنون الدموي للعالم نفسه .. لا أستطيع أن أقوم بهذا رغم أن هذا الرقص هو الاستجابة الأكثر ملائمة حين أعرف من أحدهم أن طريقة سيري أشبه بالقفزات السريعة المنفلتة، حيث سيظل ما قاله صحيحًا تمامًا مهما حاول الآخرون أن يؤكدوا لي حقيقة مناقضة .. الرقص ككرنفال شخصي متنقل هو الاستجابة الأكثر ملائمة حين أفكر في مسخرة أن أعرف هذه المعلومة عن طريقة سيري وأنا على وشك إتمام الثانية والأربعين .. حين أفكر في أنني عشت كل هذه السنوات دون أن أشاهد نفسي أبدًا أثناء المشي، وأنني لو أتيحت لي هذه المشاهدة عبر شاشة ما فإنني سأشعر حتمًا بمزيد قد لا يُحتمل من اليأس المرعب، وسأتمنى لو كان بوسعي تحذير هذا الذي يسير أمام عينيّ مما لا يمكنني استيعابه، موقنًا أن هذا السائر بلا شك ليس أنا.