الأربعاء، 3 أكتوبر 2018

هل تبحث عن أحد؟

لا يستطيع شيء أن يُبطل اللعنة .. يظل هذا الرجل يدور كل يوم بين مقاهي المدينة دون أن يجلس في أي منها .. يخطو داخل المقهى ثم يقف في منتصفه ويحدّق في وجوه الجالسين للحظات قبل أن يغادره نحو مقهى آخر ليفعل الأمر ذاته .. أحيانًا يكتفي بالوقوف خارج المقهى والتطلّع إلى الملامح في الداخل عبر الشبابيك المفتوحة، أو الألواح الزجاجية التي تغلق النوافذ .. هو مشهور بفضل ذلك .. يعرفه الناس في المدينة بأنه الرجل الذي يتنقل بين المقاهي ولا يجلس فيها .. يناديه أحد الجالسين فجأة حينما يراه كالمعتاد يدخل المقهى ويتأمل الوجوه .. يسمع الرجل هذه الدعوة الصادرة من طاولة في أحد الأركان فيلتفت بعفوية مسالمة إلى صاحبها المبتسم ثم يتوجّه نحو طاولته .. ينهض صاحب النداء ليصافحه، وحينما تصبح اليد في اليد يسأله محاولًا وضع حد للفضول الذي ينتشر كسُحب الدخان في المقاهي إن كان يبحث عن أحد .. لا يجيبه الرجل، فقط يظل يحدّق في عينيه بوجه غائم ثم يسحب يده، وبنفس الخطوات الهادئة التي يدخل بها جميع المقاهي يتحرّك إلى الخارج ويختفى .. في الليلة ذاتها يموت الرجل الذي قام بالنداء على متجوّل المقاهي.
لا يستطيع شيء أن يُبطل اللعنة .. لابد أن يستمر المتجوّل في دخول المقاهي، أو الوقوف خارجها، والتطلع إلى ملامح الجالسين ثم الاختفاء .. لابد أن يقوم أحد الجالسين بالنداء عليه مبتسمًا، ومصافحته، وسؤاله إن كان يبحث عن أحد؛ فيُمعن الرجل النظر في عينيه ثم يسحب يده ويخرج بخطوات هادئة ليختفي قبل أن يموت صاحب النداء في نفس الليلة على نحو مباغت مثل سابقيه، كأنما يمتثل لضرورة لا تخضع لأي منطق أو حذر.
لماذا لا يستطيع شيء أن يُبطل اللعنة؟ .. لأن المقهى هو بيت في الحقيقة .. حجرة داخل بيت تحديدًا .. جميع المقاهي هي حجرات مغلقة داخل البيوت .. أما الجالس في المقهى فهو شخص وحيد، ممدد على سريره ويحدّق صامتًا في السقف، ويفكر في أولئك الذين يعرفهم داخل بيوت أخرى، ويقابلهم أحيانًا أو بصورة دائمة، ويشاركهم التحدث والحزن والضحك والغضب والصمت .. لأن الرجل الذي يدور بين المقاهي هو الشخص ذاته الممدد على سريره بينما يراقب نفسه عبر مسافات مختلفة محاولًا العثور في متاهاته الداخلية المدفونة على كائن غامض، ظل يفقده تدريجيًا مع تعاقب سنوات التحدث والحزن والضحك والغضب والصمت مع الآخرين .. لا يستطيع شيء أن يُبطل اللعنة لأن هذا الشخص يتحتم عليه أن يحصل على موتٍ ما، ربما لا ينتبه إليه حينما يسأل نفسه فجأة بشكل قهري: هل تبحث عن أحد؟.
موقع "قاب قوسين" ـ 1 أكتوبر 2018
اللوحة: Yoshida Hodaka
Houses on a Slope (Watakushi no korekushon yori - Sakamichi no ie), 1980
woodcut with photoengraving on paper
Yoshida Hodaka
Houses on a Slope (Watakushi no korekushon yori - Sakamichi no ie), 1980
woodcut with photoengraving on paper