الأحد، 4 سبتمبر 2016

الميتافيزيقا المضادة

أتصور أن التفكير في انحياز (محمد الفخراني) لأن تُقارب روايته (ألف جناح للعالم) الصادرة مؤخراً عن (الكتب خان) كأسطورة مرآوية لواقع معين، محدد بأطر مدركة، وبلغة يمكن اكتشافها، أتصور أن هذا التفكير يمثل أحد (الأعاجيب) المقاومة لقراءة الرواية .. الخيال في (ألف جناح للعالم) لا يعكس واقعاً بل أنه ليس مرآة أصلاً .. هو حضور هائل وراء موضوع الكون نفسه .. وجود خارج الزمن، ينظم أحلامه دون أصل في الماضي، وبألعاب مجازية غير مشروطة بنظام سابق للبلاغة .. هذا ما تنجزه طوال الوقت حركة السرد غير المتوقعة، وطبيعة الشخصيات وعلاقاتها الجدلية، والتفاصيل التي تمر عبر السياقات المتعددة للحكي، كما لو أنها غير معنية بضرورة بنائية مقصودة، بل كما لو أنها منفصلة عن غايات القدر والمصير لصالح الخيال ذاته.
(ظلت تطارد رائحة الحلوى وهي تحضن أوراقها حتى تلونت السماء بالبنفسجي الفاتح، يمكنها الآن العودة إلى البيت لتقرأ أوراق "الليل"، تلفتت حولها لتختار طريقاً للخروج، رأت طفلة تعبر إلى شارع جانبي، وهي تمسك بخيط في نهايته بالونة حمراء، تبعتها، وجدت نفسها بمواجهة فاترينة ملأى بالحلوى، كان المحل المفضل لها، وصاحبته الأربعينية، بشعرها الذهبي وساقيها الحلوتين تقف في فتحة الباب وتبتسم لها، ابتسمت لها "سيمويا"، ومررت عينيها على ساقيها).
أشياء العالم تصلح كخامات .. هذه إجابة الرواية عن التساؤل الذي ربما يصبح الأكثر جوهرية عند البعض .. ماذا عن العالم كفكرة ذهنية ستحدث مشهدياً في المستقبل كما تتم في الحاضر؟ .. ماذا عن أشيائه الحتمية التي لا يتم تداولها كظلال خارج أجسادنا بل كحياة مظلمة في الوعي؟ .. (محمد الفخراني) يستعمل كافة الحسيات الممكنة لا لخلق سيرة غرائبية ترتفع فوق أي تاريخ منظور ـ أو هكذا يبدو ـ بل للوصول إلى أقصى يقين محتمل لتلك الحسيات عما يمكن أن تخلقه .. المعرفة المقموعة (الخارقة) التي بوسع رواية مثل (ألف جناح للعالم) البرهنة على أن العالم يمتلكها .. أجنحته غير المرئية .. هذا ليس اكتشافاً عجائبياً يوازي ما تنجزه (سيمويا) في الرواية .. إنه الحقيقة (البديهية) المبتورة عن ما يسمى بـ (الواقع) وبالتالي عن ما يطلق عليه (العالم الغرائبي) نفسه .. الحقيقة التي تتنشر في غموضنا الجسدي، ولا علاقة لها بالتمثيلات المشهدية في الخارج حيث تستقر العتمة.
(لا تفقدى شَغَفَك سيمويا"
قال القبطان المذهول وأدار الدفّة، انطلقَتْ السفينة بسرعة كبيرة.
 قابلَهم ضباب برتقالى، دخلوه، قلّلَ القبطان سرعته، سمعوا مع صوت البحر حفيف أشجار، شمّوا رائحة منعشة كأن ألف شخص يُقشّرون ألف برتقالة فى اللحظة ذاتها، شعرَ "دوفو" و"سيمويا" برذاذ القشر يلمس وجهيهما وجفونهما مثل نشوة، رأيا البرتقال يتطاير حول السفينة، ويعبر فوقها، كأن أشخاصًا يتبادلونه أو يلعبون به، حاولا أن يُمسكا بواحدة، يراوغهما البرتقال، ويسمعان ضحكات أطفال فى كل محاولة، ترك القبطان الدفّة، راقَبَ البرتقال لحظات، قفز وأمسكَ بواحدة، قشّرها بيديه، اقتسمها مع "سيمويا" و"دوفو"، توقف البرتقال عن الطيران، تلاشى الضباب عدَا طبقة خفيفة على سطح البحر، لم يكن هناك أطفال أو أشجار.
خرجَتْ السفينة إلى الأزرق.
"أنظرا خلفكما"، قال القبطان.
رأى "دوفو" و"سيمويا" الضباب البرتقالى يتكوّن من جديد).
أسس (محمد الفخراني) في رواية (ألف جناح للعالم) ما يمكن أن أطلق عليه (ميتافيزيقا مضادة) .. لقد وضع (الشغف) سردياً كماهية للموجودات وكعلة للأسباب .. كقدرة مطلقة أوجدت العالم، وتقوده، وتكمن وراء ظواهره .. طالما أن الأمر كذلك فكل شيء سيتغير (منطقياً) .. ستختلف المبادىء التي تحكم الموجودات والأسباب والظواهر .. ستصير حضوراً لم يسبق لنا إدراكه .. ستتحول الحسيات نفسها إلى (ماورائيات) مستقلة، ولن تبقى كوسائط لأصل متعال .. ستتبادل الخواص فيما بينها دون تأطير، ولن تخضع لغتها للمفاهيم الموحدة للعلامات .. لن تكون مرآة (أسطورية) لعنصر آخر سبق لمسه.
(تنقّلَتْ السفينة بين درجات مختلفة من ألوان الليل، توقّفَتْ فى مساحة ساكنة، ليس بها موج، فقط يرتعش الماء بخفة، صوت البحر بعيد كأنه وشيش، سحب القبطان ذراعًا حديدية زرقاء بجوار الدفّة، بدأت السفينة تغطس ببطء، حتى لم يتبق من جسمها على سطح البحر غير متر واحد، مشى القبطان إلى أبعد نقطة فى المقدمة، فتحَ فى جانبها الخارجى بابًا عَرْضيًا، سحَبَ من داخله شريط فلّين، عَرْضُه مترين، طوله ثلاثة أمتار، وسُمْكه نصف متر، ألقاه على سطح البحر، وقفز إليه، أشار إلى "سيمويا" و"دوفو"، قَفَزَا، تمدّدَ على بطنه، حَدّقَ فى الماء، فَعَلَا مثله، رأيا فى عمق البحر طبقات بألوان مختلفة، زرقاء، خضراء، حمراء، برتقالية، ورديّة، ذهبية، صفراء، بيضاء، بنفسجيّة، تكرّرَتْ الألوان بدرجات مختلفة، بدَتْ كأنها لن تنتهى، حتى رأيا طبقة مُعتمة، نفَذَ بصرهما منها إلى قاع مضئ، بَدَا قريبًا، كادا يمدّان أيديهما إليه، خَشِيَا أن يخدشا هذا الجمال، كأن كل شىء خُلِقَ للتوّ، أو أنه موجود منذ أول لحظة فى الوجود، انمحَتْ ذاكرتيهما، نَسيَا كل لحظة حزن وفرح، تلاشى الوقت والمكان.
 كانا ينظران مباشرة إلى سرّ البحر).
لابد من الإلتفات إلى فكرة غياب المعنى في الرواية .. من أهم الهواجس ـ وأكثرها غرائبية أيضاً ـ التي يمكن أن تطغى بفضل هذه المغامرة السردية هو أن الإحالات التي قد تبدو لها أهمية بوجه عام، ربما ستصبح اعتبارات ثانوية هنا .. نعم في الأمر مخاطرة كما أظن، ولكنها تليق وتتفق تماماً مع اللعبة الهائلة التي قررها (محمد الفخراني) منذ البداية وظل ملتزماً بها .. ليست مخاطرة وحسب بل وقبولها شاق أيضاً ولكن له ثمن أكبر من المتعة .. كيف يمكن تصديق أن الزمن والحياة والحرية بل والحب نفسه أساسيات تقف على حافة الرواية وليس في عمقها؟ .. كيف يمكن أن نتعامل مع هذه الحكمة (من أحب نجا) كهامش وليس متناً؟ ..  إذا كان (محمد الفخراني) قد أسس في رواية (ألف جناح للعالم) ما أطلقت عليه (ميتافيزيقا مضادة) فإن هذا يستدعي ـ منطقياً أيضاً ـ شكلاً من أشكال (الهرمنيوطيقا المضادة) .. التأويل الذي لا يفسر الحكي بوصفه حقلاً من الرموز المثالية، المرهونة بحقيقة كلية خارجها بل كمراوغة أدائية قائمة في ذاتها .. الذي لا يعيد الدال إلى (مدلولات كاشفة) بل يتستفز شياطينه .. حسناً .. لو تركنا الأمر للحب ـ كمتن ـ سنظل عالقين داخل الزمن الذي انفصل (محمد الفخراني) عنه في الرواية .. سنظل سجناء كافة السرديات التي أخبرتنا بهذه الحكمة (من أحب نجا) .. لكن في (ألف جناح للعالم) نحن لسنا عالقين في تاريخ ما بل استبدلنا كافة الغايات بعدم فقدان الشغف .. بالخيال .. بأجنحة العالم ..  هذا ما لا يمكن أن يكون مشابهاً لشيء آخر ..  الشغف لا يمكن أن يخضع لماهية محددة أو لعلة ثابتة أو لقدرة محسومة .. الشغف لا يكون إلا ذاته، ولا يخلق إلا ما يخصه، وما لا يتكرر حتى لو بدا ـ ظاهرياً ـ أن ثمة واقع ينفي ذلك .. أن تحب، فهذا مستوعب ومفهوم، لكنه ـ كما حاولت الرواية أن تخبرنا ـ ليس مستوعباً ولا مفهوماً إلا بواسطة الغموض الذي يهيمن على خطواتنا التي تتحرك باتجاهه .. إلا بواسطة الخيال.
 أخبار الأدب
 03/09/2016