الجمعة، 9 سبتمبر 2016

الحوض الزجاجي

كنت أجلس بجواره، لكن هذا لم يكن يعني لحظتها الرفقة العادية التي يصبح فيها المرء قريباً من جسد تقليدي يُشكّله مزيج ضبابي من شخصيات مختلفة .. كان فرداً محدداً بملامح وتكوينات مدركة، يمكن بسهولة لمس حوافها .. إنه كائن (ثمانينيات المنصورة) الذي ضاجع راقصات (شارع صيام)، وشرب البيرة مع المارلبورو الأحمر والفول السوداني في فنادق (مكة) و(القاهرة) و(كليوباترا)، وغازل بنات ونساء (السكة الجديدة)، وحضر حفلات رأس السنة في (مارشال المحطة) والأفراح في (أبو شامة)، ووزّع (النقوط) على الراقصات والمطربين والموسيقيين، ولعب القمار على القهوة (الأهلية)، وأكل كثيراً في (رستوران داندي)، وفي شارع الهرم رقصت النجمة (هندية) على طاولته، قبل أن يدور على الكباريهات متتبعاُ (عدوية) طوال الليل، وحتى الصباح.
حضوره كان يعني أننا نعيش الآن في هذه الحقبة (الثمانينيات)، وداخل هذه المدينة (المنصورة) حتى لو كان الزمن والمكان مختلفين .. أتأكد الآن من هذه المعرفة: طبيعة وجوده التي انتزعت حينئذ استقلالها بوضوح تام من كيانه المحتشد، وبتخوم صلبة، لن تسمح بالضرورة أن تتداخل معها، أو تشاركها أي طبائع أخرى من شخصيته، تشوّش على نقائها، أو تشتت بميوعة هيمنتها، وهذا ما يحتّم على الوقت والحيز الجغرافي الحاليين الاختفاء تحت ثقل زمنه ومكانه.
كانت الحجرة مضاءة بالنيون، لكنه لم يكن مجرد ضوء النيون الشائع .. لحظتها كان الضوء الذي يجعل من الظلام، أو على الأقل خفوت الأنوار في الخارج يقيناً محسوماً، غير قابل للجدل .. الضوء الذي يُعرفك بشغف على احتكار السطوع، خاصة حين تطير عيناك من النافذة المفتوحة، وتحلّق لذتك في الفضاء الليلي الممتد بلا نهاية حول الحجرة، حيث ترقد أسفله الشوارع والبيوت التي نامت مصابيحها، أو التي على وشك النوم .. كان ضوء نيون لعائلة تحتفل سعادتها بحكايات لا تخص أحداً سوى أبنائها، ولكنها تقبض على العالم .. حكايات تنتمي إلى (الثمانينيات)، وإلى (المنصورة(.
لم تكن هناك عائلة حقاً  .. كنت أنا، وهو، وامرأة عجوز فحسب .. لكن يبدو أن اتفاقاً ضمنياً سبق وأن خلق داخلنا تصديقاً مشتركاً بأننا عائلة بالفعل، الأمر الذي بدا معه جلوسنا كأنه تعبير عن الألفة التي تُشيّد جسوراً حريرية بين الأقارب.
كان يحكي كيف كان يبدأ (كازينو الليل) سهرته بمطلع أغنية صاحبته (شريفة فاضل): (الليل)، مع انبعاث الأضواء الهائجة .. قاطعته العجوز بكلمات غير مفهومة .. لم تكن جالسة معنا، وكلماتها ـ رغم كونها غير مفهومة ـ كانت توثيقاً لمتعة الإصغاء التي ينسجها الحكي .. كانت تكلمنا من وراء مكتبة كبيرة، تفيض رفوفها العالية والعريضة بالكتب .. عين من عينيها تنظر إلينا من شق ضئيل بين كتابين في طرف المكتبة، والعين الأخرى تنظر إلينا من شق ضئيل مشابه بين كتابين في أقصى طرف المكتبة الآخر .. كانت ساحرة مخيفة.
في وسط الحكي خرجت العجوز من وراء المكتبة .. كان شعرها أبيضاً، قصيراً، ولم تكن تغطيه، وإنما عقصته خلف رأسها تاركة ما تحرر من الضفيرة المستديرة منكوشاً .. كانت ترتدي ذلك النوع من جلاليب البيت الذي لا يليق إلا على الأمهات أو الجدات .. عندما رأيت ملامحها لم أعرفها، وإنما كنت مقتنعاً تماماً أن في وجهها لا تكمن جميع النساء اللاتي عرفتهن، وكذلك اللاتي لا أدري عنهن شيئاً فحسب، وإنما كان في ملامحها أيضاً غموض لازمني يتخطى كونها امرأة، بل يتعدى البداهة البشرية أصلاً .. كانت هناك مراوغة تتجاوز التمييز بين الذكوري والأنثوي، تمتلك الذاكرة السرية للحياة والموت، ولا تبقيها كمخلوق مفزع، ولا تثبّت الطيبة في نفس الوقت .. تتحدث معنا بكلماتها المعتادة غير المفهومة، دون أن يبدو علينا القلق من الالتباس الذي يزاوج بين كونها غريبة، وأنها حارسة على (ثمانينيات المنصورة) أيضاً.
فجأة وجدت نفسي أنهض، وأجري داخل الحجرة .. لم أكن أعرف هل أريد الخروج، أم الاكتفاء بالهروب في الداخل .. هل كان يوجد باب أساساً .. أسرعت العجوز دون جزع، أو ارتباك، أو تردد، وإنما بمنتهى الهدوء والاطمئنان بدأت ترفع أغطية المقاعد والكنبة، وتُمسك بالأشباح المختبئة أسفلها، ثم تقذفها بتلاحق قوي بين قدميّ .. كانت الأشباح مزيجاً من دخان، وحيوانات غريبة، ميتة، ومسلوخة، وفقاعات رمادية محبوس فيها حروف، وأرقام ..  ظللت أجري داخل الحجرة محاولاً تفادي الأشباح التي تتدافع على الأرض بشراسة نحو المسارات المختلفة التي أتجه إليها .. كان كائن (ثمانينيات المنصورة) يراقب المشهد مذهولاً، يمنعه الرعب من التفكير في ترك الكرسي الذي يجلس عليه.
من المجموعة القصصية (دون أن يصل إلى الأورجازم الأخير) ـ مؤسسة المعبر الثقافي 2015