الأحد، 8 يناير 2017

السيئ في الأمر

عند باب غرفتي:
الأيادي الصغيرة ممتدة؛ كي اهديدها عيديه، وقبلا ً مشحونة بدعاء الفرح، وتهديني في نفس اللحظة ابتسامات من القلب إلى القلب ، غير أنني أقف صامتة، متردده في الإندماج مع هكذا مشهد وأحاول الفرح ..متسائلة: ترى هل يمكنني تقمص السعادة؟ هل سأجرؤ على ارسال همي لمثواه الأخير، أو المؤقت؟ أسرع للداخل، أسحب كرسي وأقربه من دولابي الخشبي، أصعد ببطئ حاملة على عاتق الزمن هم الأسئلة. أسحب حقيبة سفري وألقيها على السرير ومن ثم افتح دولابي أبحث عن أي شيء وكل شيئ لألقيه في الحقيبة، نعم قررت ترك العيد ، آثرت السفر بعيدا حيث لا مجال لاضطهاد نفسي الصامته وجعلها تفرح بالإكراه.
على متن الطائرة:
هنا الوجوه كلها تفتعل الإرهاق والملل، كما أن رائحة القطط والكلاب تملئ المكان ومن حيث لا أدري! يفترض بي تحمل كل هذا والقليل من بكاء الملائكة الصغار..هممم لا بأس قريبا سينام الجميع ..وسأضل أنا حارسة الزمن اعانق صوت المحرك...وأعد المرات التي يدخل فيها الجميع لبيت الراحة!
السيئ في الأمر:
تذكرت ما قد يجعلني أتنفس قليلا ، أسحب حقيبة يدي ، أبحث داخلها عن مجموعة جديدة للكاتب الشاعر المصري (ممدوح رزق)،أرسل لي نسخة خاصه على البريد ، كما أنه أرسل يسألني رأي عن المجموعة ، ووعدته أنني سأقرئها وأرسل رأي في أقرب فرصة ..هو لا يعلم ما سيعلمه بعد قراءة هذه السطور ..لا يعلم أني أخذت مجموعته معي إلى ثلاث دول ممنية نفسي بقرائتها في أقرب فرصة ،و لم أفعل ! ..لكنني في هذه الرحلة فعلت..أخرجتها من حقيبة يدي وقرأتها على متن الطائرة . قرئتها وروحي في صمت وألم مدعق، أتنفس روائح مختلطة، وأبعد عن ذاكرتي عناصر سوداء، قرئتها وفي خاطري شيء من الرفض لهذه الأرض..وكرهه شديد للمعادن والأسمنت...قرئتها وبصيص الفرح قارب على الانتهاء...وحين أتممتها شعرت بأني لست وحدي ..وأن على هذه الأرض هناك من يشعر بالنملة ، ويطبطب على دميته قبل أن ينام، مجموعة الكاتب لا تخلو من الواقع الذي ينكره أغلب المجتمع ويبتسم ويفرح رغم قسوته، ولا تخلو من ذاتية عامة، يجوز للجميع ارتدائها عباءة، والإشارة لها بأنها تشبهه أو تخصه ، وأيضا من تفاصيل خاصة مؤلمة وقد تصل لحد القبح لكنها تصل بأسلوب مهندم يوحي بالصلابة. مليئة بالتفاصيل، والأزمنة، تعج بالشخوص المقربين والغرباء ، وكأنها فيلم من النوع الفني، النوع الذي يحمل نكهة الشارع، وضجة العمر، لا يسعني إلا أن أشكرك على هذا الإهداء، وأهنئك على المجموعة التي لا تقول سوى الحقيقة وحتى إن كانت محبطة أو ربما أصابها الخذل فهي لم تجد الكثير من المنطق أو حتى السعادة لطرحها ، ما يميزها الشجاعه في الطرح، حتى وإن كان على حساب الروح ، وكأن جملك ملابس منشورة على حبال الوقت تتافخر بإنجازات ليست من الخيال..وتقطر على المارة ماء غسيل ساخن.
باريس:
هنا.. أهدرت روحي التي تلازمني منذ زمن، وتركتها تذوب في المطر.. مع ابتسامة سخرية، هنا وجدت روحا جديده لا تشبهني لكنها ترضيني لبعض الوقت...
منال علي بن عمرو ـ مجلة (المرأة اليوم) / 18ـ 12 ـ 2008


السبت، 7 يناير 2017

ممدوح رزق: الاعترافات أو الفضح الذاتي لعب بالأكاذيب والمبالغات

حاورته: منار رشدي
هي الرواية الثالثة للكاتب “ممدوح رزق” بعد “سوبر ماريو” و”خلق الموتى”. تبدو “الفشل في النوم مع السيدة نون” كإعصار سردي من السخرية والجنس واللهو بكوابيس الذاكرة، يقتلع ويحطم كل ما يقابله في جميع الاتجاهات. عن الطبيب والمريض النفسي والسيدة نون كانت هذه المقابلة.  
*رغم وجود أكثر من محاولة للتشكيك إلا أنني قرأت ما جاء على لسان شخصية المريض النفسي كنوع من الاعترافات التطهرية أو السيرة الذاتية الفضائحية؟
ـ ولم لا؟ .. ربما كان الغرض من محاولات زرع الشك هي أن تؤدي ـ كجزء من الدعابة ـ الغرض العكسي، أي تثبيت ما جاء على لسان الشخصية كحقيقة .. ربما كان هدفها أيضاً تمرير احتمال بأن أحد الجوانب الجوهرية لما يسمى بالاعترافات، أوالفضح الذاتي هو اللعب بالأكاذيب، والمبالغات .. كل قراءة قد تخلق إذن ما يمكن أن يُطلق عليه واقع مختلف أو وهم مختلف، أو تخلق التباساً مختلفاً.
*رأيت الرجل الذي ربما يكون طبيباً نفسياً أو أي شخصية أخرى محتملة كما ذكرت في عنوان كل هامش كوجه آخر للمريض النفسي. كأن الرواية تقوم على هذا الفصام، خصوصاً أن تحليلات الطبيب النفسي للتداعي الحر الخاص بالمريض تتناول الأسباب والأعراض المعروفة عن مرض اضطراب الشخصية المتعدد؟
ـ ربما كان هذا صحيحاً، وهو احتمال له مبرراته القوية في الرواية .. لكن (الفشل في النوم مع السيدة نون) لم تخضع لخبرات وتجارب التحليل النفسي بل استخدمتها لخلخلة ما يمكن أن تقدمه هذه الخبرات والتجارب كيقين أو كنتائج محسومة .. هذا ما يقودني بالضرورة للإشارة إلى أن الهاجس الأكثر جدارة في تصوري بالجدل هو أن حالة الفصام هذه ـ لو اعتبرناها كذلك ـ لا تمتد فقط بين المريض والطبيب بل ربما تحوّل كافة الذين ظهروا على مسرح الرواية إلى هويّات متصارعة داخل كل جسد حتى لو كان ظهورهم لم يكن سوى مرور عابر.
*الرواية لا تكتفي بجرأتها الجنسية بل تنتهك صراحة أجساد المحارم خاصة الأم. ما الذي كان يدور في ذهنك عند هذه المناطق من الكتابة تحديداً؟
ـ لا أفكر مطلقاً في شيء اسمه الجرأة، أنا أكتب ما أريده وحسب وليس هناك ما يمنعني من ذلك، هكذا ببساطة .. الأمر لا يتوقف عند حد الانتهاك بل أنني أردت اغتيال قدسية هذه الأجساد ليس لمجرد الرغبة في استعمالها للعب مثل أي شيء آخر بل لأن هذه القدسية ربما كانت صاحبة التأثير الأعنف في التاريخ الجسدي لشخصية المريض النفسي، وهو وصف مخادع طبعاً .. أنا الذي اخترت صورة غلاف الرواية، ولم أكن مطمئناً لما سينتج عن استخدامها، لكنني فوجئت بتصميم الفنان (عبد العزيز السماحي)؛ حيث وضعني أنا وأمي خارج البرواز، وهذا بالضبط ما كنت أقصده؛ الرواية تفكيك لسلطة اللقطة الفوتوغرافية التقليدية القديمة، التي تجمعني في الطفولة مع أمي.
*أريد أن أسألك عن أحد الأشكال المتعددة في لغة الرواية وهي الخاصة بفصول التداعي الحر. كيف قررت لها أن تتخذ هذه الطبيعة الأقرب إلى الكلامية؟
هي الطبيعة التي تناسب التداعي الحر لمريض يجلس في عيادة طبيب نفسي .. التي تتوافق مع حرية تدافع الذكريات دون قمع بقدر الإمكان .. هذا ما جعلني أكتب هذه الفصول بلغة تدمج بين الشفاهي والكتابي، محافظاً على ما تتسم منطقياً به من طيش وارتباك وأخطاء.
*من المؤكد وأنت تعلم هذا أن “الفشل في النوم مع السيدة نون” لا يمكنها أن تحظى بقبول القراء الذين يرفضون ما يعتبرونه بذاءة أو انحرافاً أخلاقياً. ما موقفك تجاه هذا الشكل من النقد؟
ـ استمتع به جداً، حتى أنني اتخيل في بعض الأوقات ما يمكن أن تكتبه هذه النوعية من القراء عن عملي وأضحك لأن هذا التخيل جزء عزيز من لذة الكتابة .. ردود الأفعال المصدومة، والغاضبة، والمرتبكة تُشعرني بالبهجة، وبالاعتزاز بالنفس ربما أكثر مما يُسببه الإعجاب أو الإشادة أحياناً .. قطعاً لا أعد نفسي خاسراً إذا لم أحصل عليها، ولكن هناك رغبة أصيلة عندي في إحداث التأثيرات المؤلمة لمن لديهم أحاسيس أخلاقية ودينية مرهفة.
*في الرواية هجوم عنيف وسخرية من المركزية القاهرية وشلل وسط البلد، وأعتقد أنها ليست المرة الأولى. إلى أي مدى أنت منشغل بهذه القضية؟
ـ ليست قضية، ولم يكن ما كتبته هجوماً .. كل ما في الأمر أنني بين حين وآخر أجد في نفسي رغبة للتسلية بالكتابة عن أعظم وأجمل مدينة على وجه الأرض، وعن النخب الأدبية التي تعيش فيها، وتعاني من الظلم لأنها لم تجد من يرفق بها أو يحنو عليها رغم أنهم أفضل كتّاب العالم .. بجد.
*الفشل في النوم مع السيدة نون” من أكثر الروايات مبيعاً، كما رشحتها دار الحضارة لجائزة البوكر، هل أخبار كهذه تستحوذ على اهتمامك أو تجعلك سعيداً؟
ـ بالتأكيد تسعدني رغم أنها لا تمثل متعتي الأساسية .. ما يشبعني بحق لا علاقة له بنسبة التوزيع أو بالترشح لجائزة .. لكن على جانب آخر حتى لو لم تصل الرواية إلى القائمة الطويلة فيكفيني فعلاً اختيار الناشر المحترم (إلهامي بولس) لها من ضمن الروايات الكثيرة التي أصدرتها الدار، وبالمناسبة أنا أعتز جداً بتجربتي الأولى مع دار الحضارة، وتشرفت بالتعامل مع هذا الإنسان الراقي والمهذب، الذي لا زلت أكرر بأنني لا أصدق أنه ناشر مصري.
*هذا السؤال قد لا يكون “أدبياً” ولكنني عرفت الشخصيتين الحقيقيتين للسيدة نون وللروائي الشاب الذي مات بالسرطان بسهولة. ما الذي وراء إصرارك على أن تكون تفاصيلهما واضحة إلى هذه الدرجة؟
ـ لا أعرف ما هو استنتاجِك، ولا يعنيني صراحة .. لكن عموماً (الشخصيات) تتوقف عن أن تكون (حقيقية) في الكتابة مهما بلغ وضوح ملامحها الحقيقية .. هذه إجابة دبلوماسية طبعاُ لأنني في الواقع فقدت تدريجياً كل شيء، ولم تعد لدي حياة كي أعيشها ـ من قرأ (الفشل في النوم مع السيدة نون) قد يفهم ما أقصده ـ ولهذا منذ زمن طويل ـ ربما عكس ما يقوم به غيري من الكتّاب الذين يحوّلون الحياة إلى كتابة ـ قررت تحويل الكتابة إلى حياة انتقامية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
موقع الكتابة الثقافي ـ 11/9/2014 

الجمعة، 6 يناير 2017

الكراهية المطلقة

الساعة الثالثة عصرًا .. الآن أصبحت وحدي كالعادة .. أغلق باب البيت بالمفتاح .. أذهب إلى حجرة النوم وأقفل بابها ورائي .. أتمدد فوق السرير بملابسي الثقيلة .. أختار اليوم أغنيةun peu d’esperance) ) من خزانة الهاتف .. ألتحف بالبطانيتين محكمًا تغطية رأسي بالكامل مع ترك شق مناسب لعينيّ وأنفي .. لا أفهم الكلمات الفرنسية التي تغنيها (Mireille Mathieu) ولكنني أريد صوتها .. أحتاج إلى تباين الانفعالات لنبراتها المنغمة .. أتأمل الزرقة البيضاء للنهار البارد المنبعثة من وراء ستارة الشباك الزجاجي، والمنسدلة على ضلفتيه المغلقتين .. لا أفكر فقط في الانعكاس الناعم للضوء فوق الدولاب والكومودينو والأباجورة الصغيرة .. أفكر أيضًا في أنني وحدي الآن، وراء باب مغلق، وأرتدي ملابس ثقيلة، وملتحف ببطانيتين، وأن صوت (Mireille Mathieu) ملائم لهذا .. أنني بعيد ومنعزل ليس مكانيًا فحسب وإنما على مستوى الزمن كذلك داخل اللحظات الأكثر جمالا في الشتاء .. الدقائق القليلة التي تدفعني ـ وعلى نحو أقوى من أي وقت آخر ـ للتمعن في أنني طوال أربعين عامًا لم أفعل شيئًا بشكل صحيح .. لم أتكلم بشكل صحيح .. لم أكتب بشكل صحيح .. أهدرت كل شيء .. لم أكسب أي شيء .. ماتت عائلتي .. انتُزعت مني كل القطط التي حاولت أن أُبقيها معي ..  قطعت علاقتي بجميع أصدقائي .. لم أعد أغادر البيت .. لدي زوجة وإبنة كنت أريدهما ألا تجيئا إلى الحياة .. أتمنى لو أمتلك القدرة على الهروب منهما، وأن أسافر بعيدًا لأقضي ما تبقى من عمري في بلد لا أعرف أحدًا فيها .. كنت مسخًا مضحكًا، وسأموت كأنني لم أمر في العالم.
أغمض عينيّ وأتذكر أن كل الأشياء التي كانت ستبدو صحيحة في زمن ما، ربما ستكون خاطئة في زمن آخر .. أتعهد لنفسي مجددًا بعدم نسيان هذا الهاجس كي أظل مطمئنًا إلى أنني أمضيت أربعين عامًا بشكل مثالي .. لكنني متأكد جدًا من أنني سأنسى وسأتغافل عن أن كراهيتي المطلقة مشيدة على أسس بديهية من غياب الصواب والخطأ .. سأحرم الندم من أن يكون ممتنًا .. سيظل ندمًا فقط .. كراهية مطلقة فحسب كانت جديرة بتحويلي إلى سفاح، ولكنها جعلتني منتحرًا مكرهًا على الحياة، لا يفطن أحد للطريقة التي يقتل بها نفسه.
أصعد مع زوجتي سلالم محطة قطار .. سلالم رخامية ذات لون طوبي لامع، يمكن الجلوس فوقها والبكاء طوال اليوم دون أدنى شعور بعدم الاستقرار .. مدينة غريبة، ولكن ليس على نحو عدائي .. الوقت ظهرًا، أو اقترب كثيرًا من العصر .. سلالم المحطة ليست عالية، وتطل على ميدان واسع ومزدحم ولكنه هادىء، كما أن هناك مساحة واسعة من الفراغ الصامت تمامًا تفصل بين الميدان والمحطة .. لكن بعد تجاوز عتبة المبنى تقابلنا مباشرة سلالم أخرى لأسفل، تقود إلى قصر ثقافة الطفل .. سلالم غير مرتفعة، وليست محفوفة بجدارين، وإنما تنزل في الفراغ نحو حديقة القصر .. لا ننظر أمامنا، حيث نعرف أن الواجهة الكبيرة للمسرح تحجب فناءً صغيرًا بلا سقف، يفصل هذا المسرح عن حجرة الفن التشكيلي المطلة على النيل والمجاورة لشجرة توت كثيفة، لم تتوقف أوراقها عن التساقط بغزارة فوق البلاط الأبيض للفناء .. نتوجه فورًا نحو اليمين لندخل من باب المكتبة الملاصقة لقاعة الفيديو .. نجد حجرة صغيرة خالية إلا من شباك التذاكر القائم على اليسار، وبالقرب من السقف نوافذ عالية ومفتوحة، يدخل ضوء الشمس من أطرها الواسعة .. أترك زوجتي لتقطع تذكرتين من الرجل الجالس وراء الشباك دون أن أكتشف ملامحه، ودون أن أعرف ما هي المدينة التي سنسافر إليها .. أنظر إلى النوافذ الكبيرة المرتفعة فيتملكني شعور بأننا الآن في بلد يقع على البحر، وأن أهلها يعيشون من أجل الذهاب إلى البحر، وأنني لو استطعت رؤية ما يحدث في الخارج عبر هذه النوافذ لأمكنني مشاهدة البشر الذين يمشون في تلك الظهيرة الصيفية نحو الشاطئ أو عائدين منه، بينما رائحة الأمواج المختلطة بذرات الرمال عالقة بكلماتهم وضحكاتهم ونظراتهم الملونة بزرقة السماء .. لكان بإمكاني أيضًا الإنصات إلى تلك الأغنيات السعيدة المتناثرة التي لا تنبعث إلا في مدينة تطل على البحر، ولا يستمع إليها في هذا الوقت إلا المقيمين فيها أو الذين يسكنونها بشكل مؤقت من أجل الذهاب والعودة من الشاطئ .. أنتبه إلى زوجتي وهي تتحدث بطريقة غير لائقة مع الرجل الجالس وراء شباك التذاكر، والذي لم أكتشف ملامحه .. أراها تضحك معه أيضًا على نحو يثير غيرة رجل مثلي، ترك زوجته تقطع تذكرتين، وقرر أن يقف على بُعد خطوات منها ليتأمل النوافذ العالية .. الغيرة التي أغرتني بكتمان الغضب للاستمتاع به أطول وقت ممكن .. رغم ذلك أسألها ونحن نغادر الحجرة عن السبب الذي جعلها تتصرف بهذه الطريقة .. تلتفت إليّ بملامح جامدة، وعينين متحديتين، وبنصف ابتسامة ثم تقول كلمات قليلة، مقتضبة ـ على غير عادتها ـ تؤكد عدم الاعتراف بالخطأ، وعدم اهتمامها لاعتباري ما حدث أنه خطأ فأشعر بلذتي المخبوءة تتضاعف .. خارج المكتبة نجد الظهيرة الصيفية قد تحولت إلى ليل شتائي صاخب .. حديقة قصر ثقافة الطفل أصبحت مساحة شاسعة ممتدة بلا نهاية أمامي تحت سماء سوداء .. طريق مهيب، يبدو كحقل هائل لم يُزرع منذ زمن طويل، تحجرت الثقوب والنتوءات والتعاريج الطينية الكبيرة في أرضه .. لا أنظر إلى الخلف لأنني بشكل ما أعرف أن هذا الطريق مقفل بالبيوت ورائي، وأنني أقف عند هذه البداية المغلقة، وعينيّ تتجهان إلى لانهائيته، أما وراء هذه البيوت فربما توجد حافة كونية تُطل على ظلام أبدي .. لا ألمح سيارة واحدة ضمن الحشد العظيم من الناس فأفسر هذا بعدم صلاحية الأرض لمرور السيارات .. جميع البيوت قديمة، متفاوتة الإرتفاع، وذات تصميمات مختلفة، وتعلو الدكاكين والأكشاك الكثيرة والمتلاحمة على الجانبين بينما تنتشر الإضاءة البيضاء والصفراء بكثافة من المصابيح النيون والتنجستين العتيقة الساطعة .. أفكر في أن هذا الطريق يبدو كخيال قادم من ذاكرة (فيلليني) .. شيء ما يجعلني مرتفعًا بصورة واضحة عن المشهد .. لم يكن الحيز الضئيل من الأرض التي أقف فوقها في بداية الطريق أعلى من المساحة الشاسعة الممتدة أمامي، كما لم يحصل جسدي على طول إضافي فجأة .. مع ذلك أنظر إلى الطريق كأنه أسفل بصري بطريقة ما، وبالكيفية التي تسمح لي برؤية الأفق البعيد للسماء السوداء المنبسطة ورائه، حتى أنه يتهيأ لي أنني ألمح خيالات ضبابية لأجساد هائلة تلعب خلف الغيوم الرمادية والنجوم الغزيرة بدرجات لمعانها المتفاوتة .. أنتبه إلى غياب زوجتي بعد أن تبددت من رأسي كل الأفكار التي تخص محطة القطار، والمدينة التي تطل على البحر، وقصر ثقافة الطفل .. أصبح وحدي أمام هذا الحشد غير المنتبه لوجودي ثم أدرك على نحو مباغت أن زوجتي قد ذهبت إلى حيث توجد ابنتنا في مكان ما لأنها لا يجب أن تتأخر عنها أكثر من ذلك .. أقرر أيضًا أن لدي موعد في مقهى يقع على الصف الأيمن من هذا الطريق، ويبعد عن نقطة وقوفي مسافة بسيطة، وأنني سأعود بعد انتهائه إلى زوجتي وابنتي اللتين تنتظراني في المكان الذي لابد أنني أعرفه .. أبدأ في المشي وسط الزحام ملتزمًا بجهة اليمين دون إحساس بالمعاناة نتيجة التكدس البشري أو الضوضاء بل على العكس تشعر خطواتي بذلك النوع من الخفة المنتشية الذي ينجم عن السير داخل نطاق مألوف، وحميمي .. لا أرى الناس من حولي رغم تأكدي من أنني أشاهدهم جيدًا، مثلما لا أرى البيوت والأضواء التي أنظر إليها بشغف، ولا أسمع الأصوات الصاخبة التي أحس باندفاعها المتواصل في أذنيّ .. كل شيء مُطمْئِن كأنما أُعيدت ولادتي بأمان كامل .. لكن هاجس مُقلق ينبعث في نفسي مع اقترابي من المقهى، ويتصاعد تدريجيًا بشأن هذا الموعد .. أعرف أنني سأقابل أشخاصًا قليلين، تربطني بهم صلة قديمة، وأننا لم نلتق منذ وقت طويل، كما يتعيّن علينا أن نحسم في هذا اللقاء أمرًا شاقًا.
أصل إلى مقهى شعبي، واسع، غير مزدحم، مضاء بنور أبيض قوي لمصابيح نيون نظيفة، منتشرة فوق الحوائط البيضاء أيضًا .. يوجد تليفزيون كبير فوق رفٍ عالٍ بعد المدخل، ولا أستوعب ما يدور على شاشته في تلك اللحظة رغم الصوت الواضح، ولكن ربما لدي حدس بأن السماء الليلية، والطريق الشاسع المزدحم بالبشر، والأضواء الصفراء والبيضاء في الخارج، وأشكال البيوت التي مررت بينها كانت علامات تؤكد أن ما يعرضه التليفزيون الآن حلقة من مسلسل قديم .. هناك بعض المرايا الكبيرة المثبتة بالجدران، التي يمكنك بواسطتها أن تتفاجأ بنفسك، أو تتعرف على حقيقة لوجهك لم تحصل عليها من مرايا سابقة .. لا أنظر إلى أي منها، مثلما لا أتطلع إلى الساعة التي لا أراها، ولكنني أعرف أنها معلقة هي الأخرى فوق حائط ما .. أدرك أن الوقت الآن فيما بين السادسة والثانية عشر مساءً .. أتوجه إلى نهاية المقهى حيث طاولتين متجاورتين وكراسي خشبية تستند إلى الحائط المقابل للمدخل وللتليفزيون الذي لا أحرّك رأسي إليه كي أتأكد من وجود المسلسل .. كانوا يجلسون هناك في انتظاري .. ثلاثة أصدقاء تقريبًا (كما ينبغي أن أسميهم) ينتمون إلى مراحل مختلفة من حياتي، ويُفترض أن كلًا منهم يجهل الآخر، ولكنهم اتفقوا بشكل مبهم على أن يتقابلوا في هذا المقهى، وأن يتحدثوا معي .. أجلس بينهم مثلما كان يحدث دائمًا، ونبدأ في الكلام والضحك والصمت، بينما يتناوب القهوجي على المجيء إلى طاولتنا لتبديل الأكواب والزجاجات، وتغيير مطفأة السجائر، وجمرات الشيشة .. كانوا يعرفون بالأمر الذي جئت من أجله إليهم، دون أن أفهمه، ودون أن أتحدث عنه كما يجب ـ كالعادة ـ ولهذا لم نحسم شيئًا .. يبدو لي كأن العابرين في الخارج يشاركوننا ما نتكلم فيه لمجرد أنهم تحت هذه السماء الليلية الممتلئة بالمطر، ويسيرون وسط هذه الأضواء الصفراء والبيضاء، وأمام هذه البيوت القديمة ذات الشرفات الخشبية، وفوق هذه الأرض الطينية المتحجرة .. كان من الحتمي أن نتفق على لقاء آخر في نفس المكان وفي مثل هذا الوقت ونحن ندرك جيدًا أنه سيلاقي نفس المصير، أما أنا فأشعر بالخسارة نتيجة عدم حدوث شيئ مختلف .. أحس بإهانة تقليدية أصابتني عبر وجوههم، وتلميحاتهم المتبادلة، وفراغات كلماتهم .. ننتبه إلى خبر عاجل تعلنه مذيعة جميلة فوق شاشة التليفزيون .. حدث خطير مفاجئ يجعلنا ننظر إلى الشاشة، وننصت إلى تفاصيل الأزمة الطارئة التي ربما تكون تمهيدًا متسارعًا لكارثة .. لا نشاهد ولا نستمع، ولكنني أعرف كل هذا مع الجالسين، وبقية زبائن المقهى، وبعض المارين الذين انحرفت خطواتهم مؤقتًا عن الشارع نحو المدخل لتبين الخبر .. أشعر بالسعادة لأن الحدث الخطير المفاجئ يبعد كثيرًا عن المدينة التي أوجد فيها الآن، ولكنه يستطيع الاقتراب منها إلى حدٍ آمن، وهو ما يجعل من مراقبته عبر شاشة التليفزيون ومن خلال وجوه المحيطين، وثرثرتهم تسلية شيقة .. أفكر في أن الأزمة الطارئة رغم كونها بعيدة فإنها متصلة بهذا المقهى وبالشارع الذي يقع خارجه، وبالأضواء، والليل الشتائي، والشرفات الخشبية للبيوت القديمة التي تنتظرني زوجتي وطفلتي في أحدها .. أدرك أنهما موجودتان الآن مع أمي وأبي وإخوتي وجدتي في بيت داخل هذا الشارع، وأنه قريب جدًا من المقهى، ربما على بُعد سبع خطوات فحسب على اليمين أيضًا، لدرجة أن بإمكاني رؤية المدخل الذي يقع التليفزيون وراء عتبته لو نظرت من شرفة هذا البيت الذي سأصعد إليه الآن .. أقرر أنني سأعود إلى عائلتي بذلك الإحساس بالإهانة التقليدية الناجمة عن لقاء أصدقائي، والذي لم نحسم خلاله الأمر الشاق .. سأتابع مع أولئك الذين ينتظرونني التطورات المثيرة للخبر العاجل في تليفزيون آخر، وسأتمنى أن تمطر السماء في هذا الليل، وأن يزداد البرد قوة، مع سخاء من البرق والرعد، وأن يقترب الخطر البعيد للدرجة التي تقودني للوقوف داخل الشرفة الخشبية للبيت القديم في وقت متأخر، وتأمل الشارع والسماء مع اشتداد المطر.
أفتح عينيّ .. لازالت الثالثة عصرًا .. أوقف صوت .. (Mireille Mathieu) أزيح البطانيتين .. أنهض بملابسي الثقيلة .. أفتح الباب المغلق .. أجلس أمام اللاب لأحاول كتابة شيء ما ـ ولو لمرة واحدة ـ بشكل صحيح .. أعرف أنك لن تمر على آلامي كأنك تمر على أمر استثنائي .. أنا واثق من هذا .. سيكون لديك يقين لن ترى ـ بكل أسف ـ مبررًا لمحاولة التأكد من صوابه بأن كل هذا عادي ومكرر، ويشبه ـ وربما على نحو أقل سحرًا ـ وثائق البؤس الأخرى التي يفيض بها التاريخ البشري .. هذا ليس غريبًا .. كل كائن يضفي طابعًا متفردًا لحياته التعيسة سواء نجح هذا الإيمان في العبور والاستقرار داخل ذاكرة الآخرين أم لا .. لكنني أدرك أن آلامي استثنائية حقًا، دون أن يكون لهذا ارتباط بتلك الضرورة التي قد تكون حتمية .. أعرف أن فشلي في تحقيق أحلامي، وفي عجزي عن امتلاك كل شيء، وعن السيطرة على جميع البشر والمدن والأزمنة، وعن الانتقام من كافة أعدائي، وفي البقاء منكمشًا وضعيفًا، وعاجزًا عن الحركة منذ لحظة ميلادي وحتى الآن مهلكًا روحي في جبهات حرب عديدة وتافهة، لا أريد من الانتصار فيها سوى تمرير حسرتي بأدنى طريقة ممكنة، وتثبيت يأسي ليظل أبديًا حتى لا يكون مصير الحكايات القديمة ولحظات ومشاهد الماضي التي تلعب في رأسي وأنا نائم هو الاندثار والنسيان؛ أعرف أن كل هذه الآلام استثنائية بالفعل .. ربما لا لشيء سوى لأنني أكتب وأدوّن مسبقًا فيما يشبه التنبيه بأنه سيكون لديك يقين لن ترى ـ بكل أسف ـ مبررًا لمحاولة التأكد من صوابه بأن كل هذا عادي ومكرر، وربما لأنني لا أعرف من ذلك الذي أتحدث إليه بضمير المخاطب في هذه اللحظة، ولماذا ..  ربما لأنني أوثّق شعوري بأنني كتبت مجددًا الآن بطريقة خاطئة، وهذا أمر يجب أن يسبب لي السعادة.
موقع (أنتلجنسيا) ـ 3 يناير 2017
اللوحة لـ Jaeyeol Han

الخميس، 5 يناير 2017

«صيّاد القصص» لإدواردو غاليانو ... التعب والمواساة

في مجموعته القصصية الأخيرة «صيَّاد القصص»، والتي أنهاها قبل وفاته عام 2015 بشهور قليلة، قام إدواردو غاليانو برحلة ختامية في تاريخ العالم عبر ذاكرته الشخصية. كأن الكاتب المولود في مونتيفيديو - الأوروغــواي عام 1940، كان يـعبِّد سردياً لخطواته القليلة المتبقية نحو الموت بما يشبه الاستعادة الكلية للماضي. أُضيفت إلى هذه المجموعة الصادرة أخيراً عن دار «ورق» في دبي، بترجمة صالح علماني، ووفق الناشر الإسباني كارلوس ي. دياث، نحو عشرين قصة من كتاب آخر لم يكمله غاليانو، وأراد له اسم «خربشات» بعد اكتشاف الكثير من التشاركات بين هذا المشروع و «صيَّاد القصص».
في القسم الأول من الكتاب المعنون بـ «طواحين الزمن»، يسافر إدواردو غاليانو إلى جذور الشغف. يجوب الأصول المتناثرة للحكايات داخل التاريخ ليقبض بتنقلات مكثفة على الخامات الكونية التي شكَّلت الروح السردية لعالمه الخاص.
يتأمل غاليانو ذخيرته القصصية التي راكَمَتها مشاهد الحب والألم والحـــروب والمجـــازر والثــــورات والإضرابات، وأقدار الوعَّاظ والفلاحين والمسوخ والعمال والعبيد والمؤرخين والفنانين والموتى الأحياء والقتلة ورجال العصابات، وأحلام الشعوب والإمبراطوريات والأعراق البشرية والحضارات القديمة، وإلهامات القصائد والأغنيات ومبارايات كرة القدم ومقاهي العالم والشوارع والكتب والرقصات والبيوت والأقنعة والصحف والأفلام والمقابر والنكات، وكذلك الآثار السحرية للمطر والريح والنهار والشمس والليل والنجوم والقمر والطيور والحيوانات والأشجار والحقول والزهور والأنهار والغابات.
كأن إدواردو غاليانو يجد في كل تلك الغنائم المحتشدة داخل ذاته «النَفَس الضائع»: «قبل الماقبل، حين لم يكن الزمان زماناً بعد، والعالم لم يكن عالماً بعد، كنا جميعنا آلهة. براهما، الإله الهندوسي، لم يستطع تحمّل المنافسة: فسرق منا النَفَس الإلهي وخبأه في مكان سري. منذ ذلك الحين، نعيش باحثيـن عـن النَـفَـس الضائع. نبحث عنه في أعماق البحر وفي أعلى قمم الجبال. بينما براهما يبتسم من مكانه البعيد».
لم تتّسم قصص المجموعة بالطبائع المألوفة للقصة القصيرة، بل كانت أقرب إلى ما يُطلق عليه في شكل اعتيادي الخواطر التأملية والاقتباسات التوثيقية التي تدمج بين التخييلي والواقعي والميثولوجي. لكنها قصص قصيرة بالكيفية المتحررة من الأنماط الشائعة لفن القصة، والتي يتخذ السرد خلالها حالات غير تقليدية. يمرر غاليانو عبر قصص المجموعة إغراءً حميمياً لاكتشاف أنه وراء ما يبدو أحياناً غياباً للقص، يمكننا العثور على وفرة متوالدة من القصص التي تحرّض على خلقها، كما يمكننا رصد النبرة الشفاهية التي تليق بذلك المشّاء الباحث عن الحكايات، والذي تعلم فن القص في مقاهي مونتيفيديو القديمة على يد «الكذابين المعتبرين»، كما وصفهم. ربما هذا ما يجعل قصص غاليانو تقوم على نوع من المفارقات الكاشفة أو المصادفات التي تُشيّد بحدة الدعابة أساطير سردية في مواجهة الأعاجيب القدرية للحياة والموت.
في القسم الثاني من الكتاب، يتحدث غاليانو عن البدايات وعن القصص الغريبة لكتبه مثل «كرة القدم في الشمس والظل»، كما في «أفواه الزمن» حيث الرسالة في القارورة التي أعادت الحياة إلى «خورخي بيريث»، و «أيام وليالي الحب والحرب» الذي افتتحه غاليانو بالجملة التي نسي ماركس أن يكتبها في «رأس المال»، و «شرايين أميركا اللاتينية المفتوحة» والرجل الذي اخترقته رصاصة قُتل بها رجل عصابات في معركة تشالاتيانغو.
بعض من ذكريات الأحلام التي حاول بواسطتها صاحب «مرايا»، و «ذاكرة النار»، و «أبناء الأيام»، و «كلمات متجولة»، أن يصطاد الفناء. وتنتهي القصة بالقول: «والآن، بعد مرور السنوات، وبعد أن خلَّف الطفل طفولته وراءه منذ زمن طويل، يشعر بالأسى من أن يموت ويترك ظله وحيداً». إحدى القارئات، تُدعى دايدي دونيلي، كتبت إليَّ تطلب مني ألا أقلق: فالظل لن يبقى وحيداً، لأن ظل الظل سيــتــولى مرافقته.
في القسم الثالث، وعنوانه «موجز»، يقدم إدواردو غاليانو ملخصاً لسيرته الذاتية، مقترناً بإشارات مختصرة عن الكتابة حيث قادته سهولة اقتراف الأخطاء في الصغر إلى إثبات أنه سيخلف أثر مروره في العالم. كان غاليانو يعرف أن الكتابة تُتعِب، لكنها تواسي، وهذا ما جعله يواصل ممارسة «الشغف غير المجدي» بتعبير سارتر، محاولاً أن يكون أقوى من الخوف أو من الخطأ أو من العقاب.
في القسم الرابع الذي يحمل اسم «أردت، أريد، أتمنى»، يترك غاليانو ما يشبه كلمات الوداع، وهي - كما ذكر في النهاية - من «نشيد الليل» لدى شعب (ناباخو): «أن أمشي في جمال. أن يكون هناك جمال أمامي وجمال خلفي وتحتي وفوقي، وأن يكون كل ما حولي جمالاً، وجمال عــلى امتــداد طريـقي، وأن أنتهي بجمال».
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 3 يناير/ كانون الثاني 2017

الأحد، 1 يناير 2017

الخطايا الكاملة للشاعر الرجيم

تُعتبر الأعمال الشعرية الكاملة لـ (شارل بودلير) بترجمة رفعت سلام والتي أُعيد نشرها في طبعة شعبية عن مكتبة الأسرة من أهم إصدارات عام 2016.. يُفتتح الكتاب بمقدمة المترجم عن الحياة البائسة لـ (بودلير) في القرن التاسع عشر، وعن مكانة أعماله مثل "أزهار الشر"، و"سأم باريس" في الحركة الرومانتيكية الفرنسية،وكذلك صراعاته ومعاركه الشخصية مع أمه وزوجها الجنرال اللامع، ومع معاصريه من النقاد والصحفيين الذين كانوا يرونه "ولدًا خبيثًا" أو شخصاً "غريب الأطوار".
يعرض الكتاب سيرة ذاتية لـ (بودلير)، متبوعة بقراءة (بول فاليري) لـ (أزهار الشر) والمعنونة بـ (مكانة بودلير):
(لكن المجد الأعظم الأعظم لبودلير، علي نحو ما أوضحت في البداية، يكمن في أنه ألهم ـ بلا شك ـ شعراء عظامًا كثيرين، فلا فيرلين، ولا مالارميه، ولا رامبو كان لهم أن يكونوا ما كانوه لو لم يقرأوا "أزهار الشر" في السِّن الفاصل).
في (الحب والجمجمة) وهي إحدي قصائد (أزهار الشر)1861 نتعرّف علي الصورة المرعبة للحب عند (بودلير).. كأن هذه العاطفة هي السبيل الأبدي نحو أشد حالات التعذيب شراسة بفعل إرادة عابثة، تتلذذ بتحويل الرأس إلي أشلاء:
(هذه اللعبة الوحشية البلهاء،
متي ستنتهي؟
لأن ما ينثره في الهواء
فمك القاسي
أيها الوحش القاتل، هو مخي،
ودمي ولحمي!).
يمكننا العثور علي هذا الحس المأساوي، أو الوعي بالألم في قصيدة (الصوت) من (البقايا) 1866 حيث تأمل ما يشبه اللعنة التي تدفع بالروح نحو الظلام الماورائي للعالم..الخوف الجاذب للروح خارج حدود المألوف المزيف بالبريق العقلاني.. ينتمي (بودلير) إلي ذلك السواد الخبيث الكامن خلف الوجود، والذي يبقيه مكرسًا لإفساد التناغم بين الحياة والمعرفة:
(ومنذ ذلك الحين، وأنا، كالأنبياء،
أحب برقة الصحراء والبحر؛
وأنا أضحك في الجنازات وأبكي في الحفلات،
وأجد متعة عذبة في الخمر المرير؛
وكثيرًا ما أعتبر الحقائق أكاذيب،
وأهوي، فيما العينان شاخصتان في السماء، وفي الحُفر.
لكن الصوت يعزيني ويقول: "فلتحتفظ بأحلامك؛
فالحكماء لا يملكون أحلامًا بجمال أحلام المجانين!"
في واحدة من أكثر قصائد (شارل بودلير) شهرة وجمالًا، نختبر هذا الدافع للتفكير والتساؤل حول العلاقة بين الرعب والغيوم.. إنها قصيدة (الغريب) من (سأم باريس) التي تتحوّل فيها الغيوم إلي وطن أو مأوي دائم لذلك المعذّب بالاغتراب.. المرايا السماوية البعيدة التي يحركها الخيال اليائس، وتتجمع في زمنها الخاص الأحلام والكوابيس والملامح المتراكمة للفقد.. يعرف (بودلير) أن الغيوم هي الوعود المتحررة من الأسر العائلي ومن المتاهات الجائعة للصداقة:
(ـ إيه!، فما الذي تحب إذن، أيها الغريب العجيب؟
ـ أحب الغيوم.. الغيوم التي تمضي.. هناك.. هناك.. الغيوم الرائعة!).
الغيوم التي تبدو طفوليتها القصوي لدي (بودلير) كأنها الممر الغامض والمتحسّر للذاكرة نحو الموت.. التجسيد الرومانسي للفناء، الذي ينقذ الماضي دون بتر أشباحه.. ربما هذا ما يجعلني دائمًا أضع هذه (الغيوم الرائعة) التي لم يذكرها (بودلير) في قصيدة (الرحلة) داخل السماء الحاضرة في هذا المشهد:
(أيها الموت، أيها القبطان العجوز، هو الوقت! فلترفع المرساة!
هذه البلاد تُضجرنا، أيها الموت! فلتُبحر!
فإذا ما كانت السماء والبحر سوداوين كالحِبر،
فقلوبنا التي تعرفها مليئة بالأشعة!).
قرأت أشعار (شارل بودلير) بترجمات مختلفة، ولكنني لم أحصل علي متعة تفوق قراءتهابترجمة رفعت سلام، وهذا ينطبق أيضًا علي أشعار (يانيس ريتسوس)، و(قسطنطين كفافيس)، و(آرثر رامبو)، ولاشك أن هذا الكتاب يعد واحدة من أعظم الهدايا التي يمكن أن يحصل عليها المغرمون مثلي بأشعار (بودلير).
(أخبار الأدب) ـ 12/31/2016

الثلاثاء، 27 ديسمبر 2016

المشي حول المكتبة

ليس كل موظفي المكتبات يحكمون العالم. فقط الذي سمع منهم ذات يوم صوتًا استثنائيًا ساحرًا، يتمركز داخل أعماقه، وتحديدًا فيما بين ظهره، وفخذيه. صوت قاهر، ينبعث بمنتهى الإيمان والشغف: أنت فاشل في الكتابة.
النبلاء المتجهمون، الذين سجنتهم (هيئة الكتاب) في مستعمرة (السكة الجديدة) ثم قطعت أعضاءهم، وأعطتهم بدلًا منها أقلامًا زرقاء لتوثيق سعادتهم.
يمكن لأحدهم ـ وسيشبه (عبد الناصر) لو تنحّى، وعاد إلى صفوف الشعب فعلا ـ حينما ينتقل ليبيع الكتب بالمعرض، وتعويضًا عن قصته الأولى التي لم يكتبها بعد؛ أن يرشد ولدًًا صغيرًا إلى (الصوت المنفرد) لـ (فرانك أوكونور)، و(القصة القصيرة) لـ (آيان رايد).
موظفو هيئة الكتاب أذكياء، ومتعاطفون. يعرفون كتّاب القصة بمجرد قراءتهم لعناوين الكتب التي يجيئون بها إليهم كي يدفعوا ثمنها. فضلًا عن تنبيه الصغار إلى الكتب المهمة التي لم ينتبهوا إليها، يدلونهم أيضا إلى موعد ندوة أسبوعية بقصر الثقافة ـ خاصة بمنتدى عروس النيل الأدبي مثلًا ـ ستساعدهم على اختراق السماء، والإقامة فيها، حيث يعيش (نجيب محفوظ)، و(يوسف إدريس)، و(تشيكوف)، وبقية الآلهة.
سمع جميع زوّار المعرض موسيقى (ضمير أبلة حكمت) حينما كان موظف الهيئة يودع بعينيه المبتسمتين، المرهقتين بثقل الحكمة وجه الولد الصغير، وهو يخرج من الباب ممسكًا حقيبة الكتب بثقة ممتنة.
موظفو المكتبات الذين أنقذهم الصوت الاستثنائي، الساحر، المتمركز داخل أعماقهم، وتحديدًًا فيما بين ظهورهم، وأفخاذهم حينما يفشلون في الكتابة، ويريدون عملًا إضافيًا يمكن لأحدهم أن يعمل مصححًا للغة في جريدة إقليمية يديرها (مومس إعلانات). يمكنه أيضًا أن يكتشف وقتها أن الولد الذي ساعده في المعرض قد أصبح بعد ثماني سنوات محرر الصفحة الأدبية بالجريدة. موظف هيئة الكتاب لن يعنيه شيئًا سوى معالجة الجروح التي تصيب (العربية) بالأظافر المتسخة لعيال الصحافة الجدد. لكنه بالتأكيد سيجد وقتًا للنظر في صمت لوجوه زملائه، خاصة الولد الذي لم يكتف بأنه صار شابًا، ولا بأنه أصبح قاصًا، وصحفيًا، ولا بأنه نشر ذات يوم قصة في (الأهرام المسائي)، بل وفوق كل هذا دخل المكتب، وفي يده نسخة تناقلتها أيدي الموجودين. موظف هيئة الكتاب حينما يفشل في الكتابة، وحينما يعمل مصححًا للغة، لن تكون هناك حدود لمهمته الكونية. ستحتم عليه المسؤلية بعد أن تصل الجريدة إليه أن يضع تحت إحدى كلمات قصة الشاب خطًا بأحد الأقلام الزرقاء التي أعطتها له الهيئة بدلًا من عضوه المقطوع. ربما انتبه الحاضرون، وأيضًا ربما انتبه هو نفسه مثلما جاء في ذهن الشاب لحظتها أن هذه هي المرة الأولى التي يتكلم فيها موظف هيئة الكتاب معه منذ أن جاء ليعمل مصححًا للغة. أخبره أن الكلمة ليس بها خطأ في الإملاء أو النحو، وإنما رآها فقط (غير مناسبة). كان هذا كافيًا كي يحمي الصمت الذي عاد إليه آمنًا بعدما أعطى الشاب نسخة (الأهرام المسائي) ملصقًا بها قطنة صغيرة تكتم نزيفًا ما في قصته، يجب أن يسرع إلى البيت لإيقافه.
الحياة تكمن هناك. في الثواني القليلة التي تمر خلالها أمام مقهى صغير مختبئ في شارع جانبي، ويجلس عليه موظف هيئة الكتاب الذي لم يعد موظفًا، ولا مصححًا للغة، وبالطبع لم يكتب قصته القصيرة بعد.
الموت أيضًا يكمن هناك. في نفس الثواني القليلة التي ستفكر خلالها في براعة الصدفة الكامنة في وجود المقهى داخل الشارع الخلفي لبيت الشاب. الأورجازم يأتي من هناك إذن. اللذة المتصاعدة التي لا يمكن احتمالها حينما تتمعن في موظف الهيئة الممسك بسيجارة كيلوباترا ـوهو الذي لم يدخن أبدًا من قبل- وفاتحًا رقعة شطرنج على الطاولة أمامه، ومجهزًا الجيشين للعب مع غائب لا يأتي أبدًا. مشهد أصعب من تكوينه كحلم، وأجمل من تصديقه كحقيقة. المتعة التي لن تكتمل إلا بتخيل نفسك تذهب إليه، ثم تضع يدك على كتفه، وتسأله بعتابٍ أخويٍ رقيق كاتمًا ضحكاتك: (لماذا لا تنهض، وتكتب قصتك الآن بأي طريقة؟).
ليس كل موظفي المكتبات يحكمون العالم. فقط الذي يأخذ منهم مكان زميله الميت، ثم يشتري على حسابه لافتة (مغلق للصلاة) ليعلقها على الباب الزجاجي المغلق للهيئة المصرية العامة للكتاب بالسكة الجديدة معظم اليوم هربًا من الذنوب التي تُوجعه فيما بين ظهره وفخذيه كلما باع كتابًا من سلسلة (الجوائز) للشاب الذي لا يزال يكبر.
 موقع (زائد 18) ـ الأحد ديسمبر 25, 2016
Photo by Peter Leponi 

الخميس، 22 ديسمبر 2016

"مكان جيد لسلحفاة محنطة".. ممدوح رزق والوجود الافتراضي

1ـ نص المتعة هو الذي يضعك في حالة ضياع، ذلك الذي يُتعب، لأنه يجعل القاعدة التاريخية والثقافية والسيكولوجية ـ للقارئ ـ  تترنح، ويُزعزع كذلك، ثبات أذواقه وقيمه وذكرياته، ويؤزم علاقته باللغة ... رولان بارت ـ لذة النص.
2ـ تعدد الأصوات إن لم يكن تعدداً في الرؤية والخطاب، واقتصر فقط على ترديد ذات الرؤية وذات الخطاب بأصوات سردية مختلفة، لم يكن تعدداً، وإنما صار ترديداً فقط لصوت المؤلف.
* * *
قارئ (ممدوح رزق) سوف يتمتع بجانب قراءته قصصاً تعتمد على ذات فردية، والإبحار في وجودها بالمعنى الوجودي الباحث في كينونته وماهيته في هذه الحياة المهولة، ودروبها العجائبية والغريبة عن الإحاطة، من خلال موقف درامي طازج يحسب للكاتب أنه له وحده، ولا شبيه له في كتاب قصصنا في الوقت المعاصر، سيحصل قارئه على كم من المعرفة، الفلسفية والتاريخية والجغرافية، والسينمائية، والفن التشكيلي أيضاً، إلى جانب مخاطبة قدرته على استيعاب التكنولوجيا الحديثة خاصة ثورة الاتصالات، على الإجمال تقوم قصصه على لعبة (الافتراضية) وكأن الحياة التي يوجد فيها هذا القاريء هي افتراضية محضة، فلا يقين على أنها حياة يمكنك فيها أن تصنع تاريخاً متراكماً، وتدعي الفخر به، كل شيء فيها غير ممسوك في قبضتك لأن الموت يلاحق هذا التاريخ، فلا تركن إلا إلى النسيان في تعاقب فصول هذا التاريخ.
يلف كل ذلك روح ساخرة تمكننا نحن القراء من عدم السقوط في القنوط، ولكنها مع ذلك تبعدنا عن الوهم .. الوهم بأي شيء يمكنه إبعادنا عن تلك النقطة المركزية.
في قصة (فيس بوك) أولى قصص المجموعة تذكرت على الفور نصاً شعرياً لـ (ممدوح رزق) كنت قد قرأته في أحد تلك المواقع التي تقدم نصوصاً قصصية وشعرية، والنص الشعري كان يحكي عن هذه الحياة الوهمية ـ وهي حقيقية في ذات الوقت ـ عبر الهوتميل تجري المحادثة بين أحدهم في مصر، وبين إحداهن في بلد خليجي، وتصبح أكاذيب الاثنين هي الحياة، والكاتب يدلنا على هذه الخدعة عبر كتابة تقول الحقيقة المجردة، وهي أن الفتاة سوف تموت بمرض عضال، وأن الشاب لديه مشاكل اجتماعية، ولكن الكذب يمكن له أن ينشيء حياة طالما كانت الافتراضية هي ما نعيشه، أما قصة (فيس بوك) فهي قائمة على الاستدعاء، فمن الأفلام يستدعي ضمير المتكلم ـ المولع به (ممدوح) فمعظم قصصه بهذا الضمير ـ بعض مشاهد من أفلام معينة يُفترض بالقاريء أن يكون قد شاهدها، المقصود منها التأثير الذي يُحدثه المعادل الموضوعي في كتابات أخرى لكتّاب آخرين، وهذه إحدى التقنيات التي يجيدها كاتبنا ويقيم عالمه من خلالها .. الخيبة تلاحق بطل النص ولا ينفعه تذكره لكل هذه المشاهد السينمائية، وكأنها تزيد هذه الخيبة بحدة التناقض بين المعرفة وبين السلوك.
في قصة (ماريا نكوبولس) تواجهنا هذه الموهبة الطبيعية وعلاقتها بالمنطق البيولوجي والحضاري على حد سواء، والفرضية في النص تتبعها فرضيات أخرى طريفة، أهم ما في النص التزييل بهوامش تزيد من حدة السخرية من موقف الناس تجاه الشيء المخالف للعادي أو المتصالح معه، في هذه النقطة تتحرك نوازع البشر إلى المقاومة، وما المقاومة إلا نوعاً من الحماقة البشرية، ولذلك تتسع الهوة في جوهر الوجود الإنساني ذاته، حيث محاولة تأجيل ما لا يُؤجل في قصة (أشياء الزمن)، ومع ذلك فهذا الوجود دائماً ما يوجد فيه قوة دافعة ذاتية على الاستمرار، وما ظهور الأسنان في فم طفل الراوي إلا استمراراً للحياة بقوانينها، في الخلفية 25 يناير تعبيراً تم اقتناصه لاستمرارية هذا التوالد من رحم العدمية التي تُشكل روح الموقف الوجودي.
يمكننا القول إن القصة عند (ممدوح رزق) هي ساحة تعبيرية عن الهوية، يلجأ دائماً إلى ما يشبه التقرير للبحث النفسي وعبر النوستالجيا والواقع أيضاً، ويتلمس في تقريره بشتى المعارف والقراءات التاريخية والطبية والكشوف الجغرافية والمرضية كل ذلك في إسلوب كتابة لا فصل فيه بينه وبين القاريء، وكأنه يكتب عند نقطة معينة من حديث يدور بينهما، وها هو يكمله، مزيحاً تلك المسافة التقليدية بينه وبين القاريء، ربما في بعض الأحيان تطغى معرفية الكاتب، فهي تقوده دوماً.
في قصة (هومر سيمبسون) نفس المنحى الافتراضي، ولكننا هنا مع اتساع عين الكاميرا واللجوء إلى شخصيات من فرط افتراضيتها تقع في وهم واقعي لوجودها، من نتاج كتّاب سابقين وسيناريستات آخرين، شخصيات كارتونية يستدعيها الراوي وكأنه يدفع نفسه دفعاً لأن يكون افتراضياً، وتسقط كل دعاوي التشبث بفكرة ما في حياة يعتبرها رحلة تشبه الفيلم الكارتوني، وليس من الحكمة أن ننغلق على ثبات الفكرة في وجودنا، فلا شيء يمكن أن يكون أبدياً يُعلق على حائط الحياة ويظل له من الوجاهة والمنطقية حضوراً فاعلاً في الحيوات الأخرى.
يستكمل الكاتب كل ذلك في نصه (ثغرات الخلود) بلا تورية مع هذه المفارقة (غير الفارقة) ولكنها تكمل صورة الفقد أمام سير الحياة وتغيرها وتبدلها وتحولها، وتبدو تلك الحيلة النفسية للاحتفاظ بذكرى شيء ما حالة عبثية كاملة الجوانب.
في قصة (رسم الهواء) يكون أكثر وضوحاً وتجلياً، وما تلك العبارة الأخيرة إلا ضربة على الصدغ (هل فهمت الآن ماذا تعني محاولة استعادة الماضي؟!).
في قصة (المرض) كتابة وجودية بامتياز حيث نرى معنى أن يمرض الجسد، وحالة الاندماج الجسدي والنفسي والعصبي معاً في كتلة واحدة يتمنى الإنسان لحظتها أن يكون نموذجاً لا يصيبه العطب، لحظات الصحة هي المؤامرة الصامتة لانهيار آت، وكأن المرض هو الهزيمة المعلنة بينما الصحة هي الهزيمة الأشد خطراً، وآليات القص هنا لا تخرج عما اعتاده (ممدوح) من اقتناص اللحظة والشغل عليها بطريقته الهادئة التي تعتمد تراكماً يعتمد على الزمن النفسي دون أية مفاجآت خارج حدود اللحظة المكتوب فيها وعنها.
في قصة (تخفيف العمى) الذي يخفف العمى هو العمى نفسه، يقدم الكاتب أو الراوي أو الضمير الذي يكتب به النص مفهموماً آخر يُضاف لما سبق عن التعلق الواهي بأشياء ربما تكون صغيرة ولكنها جوهرية لمن يتعلق بها، إلى جانب تلك المفارقة داخل المفارقة في النهاية فضمير الأنا وربما كان الآخر، وهذه لعبة ـ كما أوضحنا سابقاً ـ يجيدها (ممدوح رزق) بامتياز في كافة نصوص (مكان جيد لسلحفاة محنطة) .. والعنوان أي عنوان المجموعة لم يرد كنص في المجموعة، ولكنه لافت من وجهة نظر النصوص هو تعبير عن نظرة للحياة وعلاقات هذا الكائن الإنساني الذي ينظر إليه على أنه سيد هذا الكون وهو في الحقيقة أضعف مما هو متوقع شبيه بسلحفاة محنطة .. نظرة (ممدوح) نظرة ساخرة ومريرة، ولكنا يمكننا الاقتناع بها، ولا نملك إلا الموافقة.
في قصة (عيد الأم) تمضي تلك النظرة القريبة من العدمية من خلال التفكير المسبق لما سوف تحل عليه الحبيبة بتغير ملامح الجسد وعوامل الزمن ورغم الحب والمعايشة، الهروب من مجرد سماع أغنية فايزة أحمد عن الأم هو قمة تلك النظرة التشاؤمية نحو عاديات الزمن.
في قصة (وردة) تدوير الحياة ـ وممدوح له قصة في نفس المجموعة بذات العنوان ـ تدوير الحياة رغم كل ما بها لمحاولة جعلها مقبولة وميسرة للمضي فيها.
في قصة (لا شيء بعد الموت) رغم صدمة العنوان، والإيحاء بما سوف يأتي بعده، إلا أن (ممدوح رزق) يفاجيء القاريء بشيء آخر هو رحلة الإنسان العجوز عندما يواجه العدم من حوله في مقابل ما تعيه الذاكرة والتي يمكنها أن تمشي على الأرض وتحيا، فتكون رحلة ما بين العجز الآن، والطفل الذي كان، أي أن الحياة تسير في طريق واحدة لا مناص من مسايرتها.
في قصة (حكاية الرجل الذي كتب قصة قصيرة) بساطة وعمق، بساطة التناول من حيث التكنيك الذي شابه الحكاية وطريقتها في الإعلان عن وقائعها ببساطة تمتزج بشيء من السخرية، وعمق الدلالة في هذا المختلف الذي يؤثر الحياة بلا تساؤل أو تأويل ولا مناقشة.
في قصة (نهاية العالم) نهاية العالم الحقيقية تبدأ في نهاية القصة ذلك الفعل المجنون العدمي، غير المبرر ـ من داخل النص ذاته ـ والمبرر مع ذلك بعد رحلة القراءة في نصوص (ممدوح)، نستطيع أن نقول إنه غير معني بالمغامرة اللغوية، ولكنه يسير بشكل واضح إلى المفارقة، مما يجعلنا نعيد النظر في كل ما سبق قراءته، فالكتابة عنده كتابة خادعة، لا يمكنك أن تقبض على الدلالة وترتاح إلى نتائجها من أول مرة.
في قصة (حاسة الانتقام) لاحظ أنه استعمل تعبير حاسة ولم يستعمل تعبير طبع مثلاً، لأن فعلا الانتقام تصوري، لا يتقدم ليكون فعلاً له وجود إلا في داخل الراوي تجاه البنت، ليصبح الفعل خارج الراوي، لأنه الزمن وما يفعله في الإنسان، وليست مؤامرة الراوي إلا نوعاً من التشفي أمام تجليات الزمن.
في قصة (إعادة التدوير) قصة قصيرة جداً، وفي نفس الإطار السابق، لكن هنا الزوجة ترضخ لمؤامرات الزوج طوال حياتهما الزوجية، ثم تكتمل الرؤية في استمرارية هذا الوضع في قابل الأيام عبر الطفلة، وما ضحكتها في نهاية القصة إلا نوعاً من الرضوخ لنفس المصير.
في قصة (جامع القمامة) وهي تحمل كل ما في القصة القصيرة جداً من إشكاليات، فهي تعتمد في العموم على وجود مفارقة تنهي القص، إما أن تكون هذه المفارقة حاملة ـ مع مفاجأتها للقاريء، لابد أن تحمل قوة الامتداد إلى شتى التأويلات والمجازات وتعدد الرؤى، جاءت النهاية بها متوقعة نسجت من نفس نسيج ما سبقها.
إلى هنا نكتفي من 29عنواناً، ويمكننا أن نجمل ما وصل إلينا عبر وعينا بلا أدنى غرور من جانبنا، ولكن علينا أن نستحضر مقولة (بارت) التي بدأت بها، والذي قال عن (ممدوح رزق) وهذه المجموعة أنه يلعب بالمتاهات صحيح القول، ونوافقه عليه، كما أن الموت حاضر بكثرة ومطروحاً في أكثر قصصها، والزمن كمعيار وجود للكائنات بما فيهم الإنسان بالطبع، وأن هناك لعبة تدور من جانب الكاتب بمراوغة مفرحة، ولعل ذلك يجعلنا نفهم لماذا كانت معظم النصوص مكتوبة من خلال فرد، ذات، وحركتها في هذا العالم ومواجهته أحياناً بانكسار ورضوخ، وأحياناً بالثورة عليه ولكنها ثورة لا تُشكل حلاً وإنما تزيد من حدة مواجهة الذات وانسحابها داخلياً، تراكم مشكلاتها، قلنا أن (ممدوح) يتسلح بمعرفة واسعة، ولكنه في بعض الأحيان يقحمها في نصوصه، اللغة لديه لغة حيادية في الغالب، أي أنها لا تلجأ إلى المجازية أو التفاصح، ولكنه يستخدمها استخدام الوسيلة لا الغاية، (ممدوح رزق) يواجهك بتجريبيته، والنظر إلى ما تم إنجازه من كتابات سابقة عليه أو حالية بكسر المعتاد وتلك الروشتة الجاهزة عن الكتابة، مثيراً أسئلة كبيرة عن أصل الوجود، وهي أفكار لا تشغل حيزاً كبيراً في إبداع كتّابنا، (ممدوح رزق) عندما تقرأ نصوصه تصير في حالة شك دائم مما يجري حولك أو مما سبق من معلوم بالضرورة لديك، يُصدر إليك قلقاً، وفي اعتقادي أن هذا النوع من الكتابة هو ابن لعالمنا القائم على العلم والنقد، أو هكذا ينبغي أن يكون ونكون نحن.
 محسن يونس
موقع (الكتابة)
29/11/2014

مكان جيد لسلحفاة محنطة

ﺻدرت ﻋن ﺳﻠﺳﻠﺔ "ﺣروف" ﺑﺎﻟﮭﯾﺋﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻘﺻور اﻟﺛﻘﺎﻓﺔ ﻓﻰ ﯾﻧﺎﯾر اﻟﻣﺎﺿﻰ ﻟﻠﻛﺎﺗب "ﻣﻣدوح رزق" ﺻﺎﺣب اﻟﻌدﯾد ﻣن اﻟﻛﺗﺎﺑﺎت اﻟرواﺋﯾﺔ واﻟﻘﺻﺻﯾﺔ آﺧرھﺎ ""ﺧﻠق اﻟﻣوﺗﻰ" و "ﻗﺑل اﻟﻘﯾﺎﻣﺔ ﺑﻘﻠﯾل". ﻓﻰ ﻣﺟﻣوﻋﺗﮫ "ﻣﻛﺎن ﺟﯾد ﻟﺳﻠﺣﻔﺎة ﻣﺣﻧطﺔ" اﻟﻛﺛﯾر ﻣن اﻟﻘﺻص أﻓﻛﺎرھﺎ ﻣﻧﺗﻘﺎة ﺑﻌﻧﺎﯾﺔ واﻟﺗﻰ ﺗﺧرج ﻋن أﺣﻛﺎم ﻧﻣطﯾﺔ ﻟﺗﺻﻧﯾﻔﺎت اﻟﻘﺻﺔ اﻟﻘﺻﯾرة. ﻟﻛن ﻛﻣﺎ ُوﺻﻔت اﻟﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻓﺈﻧﮭﺎ "ﺗﺣﺎول ﺗﺟﺎوز اﻵﻓﺎق اﻟﻧﺻﯾﺔ" ﻟذﻟك ﻗد ﺗﺿﯾﻊ ﻣﻌﺎﻟم اﻟﺣﻛﻰ داﺧل ﻣﻧظوﻣﺔ اﻟﻘﺻﺔ اﻟواﺣدة - ﺑﺎﻟطﺑﻊ إذا ﻟم ﯾﻛن اﻟﻛﺎﺗب ﯾﻘﺻد ذﻟك - ﻓﺗﺧرج ﻣن اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ اﻟﻘﺻﺻﯾﺔ إﻟﻰ ﻋﺑﺎءة اﻟﻧص اﻟﻣﺟرد.
ﻧﺟد ﻓﻰ اﻟﻣﺟﻣوﻋﺔ ﻗﺻﺻﺎ ﻗﺻﯾرة ﻛﺎﻟطﻠﻘﺎت ﻣﺗﺄﺛرة ﺑﺎﻟروح اﻟﻌﺻرﯾﺔ اﻟﺳرﯾﻌﺔ ﻟﻣواﻗﻊ اﻟﺗواﺻل اﻻﺟﺗﻣﺎﻋﻰ اﻟﺗﻰ ﻻ ﯾﺣﺗﺎج ﻣرﺗﺎدوھﺎ إﻻ ﻟدﻓﻘﺎت ﻗﺻﺻﯾﺔ واﻣﺿﺔ ﻛﻣﺎ ﯾظﮭر أﯾﺿﺎ ذﻟك ﻓﻰ اﺧﺗﯾﺎره ﻟﺑﻌض ﻣواﺿﯾﻊ اﻟﻘﺻص ﻣﺛل: ﻓﯾس ﺑوك، ﻧﮭﺎﯾﺔ اﻟﻌﺎﻟم ، ﺑﺎﻹﺻﺑﻊ اﻟﺻﻐﯾرة ﻟﻘدم أﻋﻣﻰ، اﻟﻣزرﻋﺔ اﻟﺳﻌﯾدة.
اﻟﺧﯾﺎل ﻓﻰ "اﻟﺳﻠﺣﻔﺎة اﻟﻣﺣﻧطﺔ" ﺣﺎﺿر ﺑﻘوة وﺳط اﻟﺗداﺧﻼت اﻟﻧﻔﺳﯾﺔ اﻟﻣﺿطرﺑﺔ ﻧﺟده ﻣﺧﺗﻠطﺎ ﺑﺄﺑطﺎل اﻟﺳﯾﻧﻣﺎ اﻟﻌرﺑﯾﺔ واﻷﺟﻧﺑﯾﺔ وﺳط ﺗﻧوع اﻟﺧطوط داﺧل اﻟﻛﺗﺎب ، ﻓﺗظﮭر روح اﻻﺧﺗﻼق اﻟواﻗﻌﻰ ﺑﺑراﻋﺔ، ﺣﯾن ﯾﺣدﺛك اﻟﻛﺎﺗب ﻓﻰ ﺟدﯾﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻋن ﻗﺻﺔ : ﻣﺎرﯾﺎ ﻧﻛوﺑولوس ﻓﻰ ذﻛرى وﻓﺎﺗﮭﺎ وھﻰ ﻓﺗﺎة ﯾوﻧﺎﻧﯾﺔ ﻧﺎﻟت ﺷﮭرة ﻋﺎﻟﻣﯾﺔ ﺧﺎرﻗﺔ، ﻓﻛﻣﺎ وﺻﻔﺗﮭﺎ اﻟﺻﺣﺎﻓﺔ ھﻰ ﺗﺳﺗطﯾﻊ أن ﺗﺳﯾر ﺑظﮭرھﺎ ﻣﺳﺎﻓﺎت ووﺳط اﻟزﺣﺎم. وﯾﺣﻛﻰ ﻋن ﺳﻔرھﺎ ﻓﻰ ﺟوﻟﺔ ﻋﺎﻟﻣﯾﺔ إﻟﻰ أن اﻟﺗﻘت .اﻟزﻋﯾم ﻋﺑد اﻟﻧﺎﺻر واﻟﺑﺎﺑﺎ ﺷﻧودة.
ﻛﻣﺎ ﺗظﮭر اﻟﺗﻧﺎﻗﺿﯾﺔ اﻟﺣﯾﺎﺗﯾﺔ ﻓﻰ ﻗﺻﺔ "ﺣﻛﺎﯾﺔ اﻟرﺟل اﻟذى ﻛﺗب ﻗﺻﺔ ﻗﺻﯾرة" اﻟﺗﻰ ﺗﺣﻛﻰ ﻋن ﻋﺟوز ﻗرر ﻗﺑل رﺣﯾﻠﮫ ﻋن اﻟدﻧﯾﺎ أن ﯾﻛﺗب ﻗﺻﺔ ﺣﯾﺎﺗﮫ ﻓﻰ أوراق وزﻋﮭﺎ ﺑﻧﻔﺳﮫ ﻋﻠﻰ أھل ﻗرﯾﺗﮫ ﻟﻛﻧﮭم ﻟم ﯾﺟدوا ﻓﻰ اﻟورق ﻏﯾر ﻛﻠﻣﺎت ورﻣوز ﻏﯾر ﻣﻔﮭوﻣﺔ ووﺳط ﻋﺟﺑﮭم اﻟﻣﺳﺗﻣر أﻋزى ﺷﯾﺦ اﻟﻘرﯾﺔ ﻋﻠﯾﮫ ﻛل اﻟﻣﺻﺎﺋب اﻟﺗﻰ أﻟﻣت ﺑﮭم ﻣﻧذ رؤﯾﺗﮫ، ﻓﯾﻘررون اﻟﺗﺧﻠص ﻣﻧﮫ ﺑﺷﻛل ﻓﺎﻧﺗﺎزى رﻏم ﻣﺎ ُﻋرف ﻋﻧﮫ طول ﺣﯾﺎﺗﮫ ﺑﯾﻧﮭم ﺑوداﻋﺗﮫ و ﺣﻛﻣﺗﮫ. أو اﻟﻐراﺋﺑﯾﺔ ﻓﻲ ﻗﺻﺔ "ﺳرﯾر" اﻟﺗﻰ ﻓﯾﮭﺎ ﯾروى ﺳرﯾر ﺻﻧﻊ ﻓﻰ اﻟﺧﻣﺳﯾﻧﺎت ﺳﯾرة ﺣﯾﺎﺗﮫ اﻟﻣﻘﺗﺿﺑﺔ. أو ﺣﺗﻰ ﺗﻧﺎول ﻓﺳﺎد اﻟﻣﺟﺗﻣﻊ اﻟﺛﻘﺎﻓﻰ واﻟﻛﺗﺎﺑﻰ ﻓﻰ ﻣﺻر ﻣن ﺧﻼل ﻗﺻﺔ "ﺗﺎرﯾﺦ اﻷدب".... وﻓﻰ اﻟﻧﮭﺎﯾﺔ ﺗﺧﺗﺗم اﻟﻣﺟﻣوﻋﺔ ﺑﻘﺻص ﻗﺻﯾرة ﺟدا ﻣﻔﻌﻣﺔ ﺑﺎﻟوﺣدة واﻟﺣﻧﯾن.
لؤي ياسر
جريدة (المواطن) الإلكترونية
3/4/2014

عمر شهريار عن (مكان جيد لسلحفاة محنطة): (ممدوح رزق) يلعب بالمتاهات

نظّم مختبر السرديات بنادي أدب قصر ثقافة المنصورة الأحد الماضي أمسية إبداعية لمناقشة المجموعة القصصية (مكان جيد لسلحفاة محنطة) للكاتب (ممدوح رزق) .. ناقش المجموعة الناقد (عمر شهريار) الذي تحدث عن أن (ممدوح رزق) قاص مراوغ، يتعامل مع الكتابة بوصفها لعباً، ويمتلك ملامح مميزة جداً لعل أهمها هو تعاطيه القوي، والعميق مع الفلسفة .. ذكر (شهريار) أن في المجموعة حضور لفكرتين رئيسيتين: (الموت)، و(الزمن)، وهما فكرتان فلسفيتان بالأساس تؤكدان تشبّع (ممدوح رزق) بالمشاريع الفلسفية لـ(هيدجر)، و(نيتشه)، و(فوكو)، و(دريدا) الأمر الذي أنتج تلك الحمولات الفلسفية، الساخرة داخل المجموعة. أشار (عمر شهريار) إلى أن الموت سؤال مركزي عند الكاتب حيث يطرح مفاهيم مختلفة، ومتباينة له .. (ما الموت)؛ هذا هو السؤال الذي يتناوله (ممدوح رزق) ويفككه طوال الوقت .. كأن الموت ليس فعل الغياب الجسداني فقط، وإنما موت كل شيء، وكثيراً ما قرأنا عن (موت الانسان)، و(موت النص)، و(موت المؤلف) وهذه أسئلة فلسفية يلعب بها الكاتب معنا، ويلعب بنا منذ المفتتح الرئيسي لـ (سيوران) الذي بدأ به المجموعة (تاريخ العالم هو لاشيء سوى تكرار للكوارث، بانتظار كارثة نهائية) .. سؤال زمني كأن الزمن دائماً يعيد نفسه، وأنه لاشيء جديد فيما يتعلق بالموت بشكله الفلسفي الأعمق، والمرتبط بنهاية العالم. ذكر (شهريار) أنه من أمارات اللعب داخل (مكان جيد لسلحفاة محنطة) قصة (ماريا نكوبولس) عن حياة البنت التي تمشي بظهرها حيث يتقاطع، ويتناقض المتن مع الهامش في مفارقة صادمة للقاريء فلا يعرف ما هو الحقيقي؛ هل هو المتن أم الهامش .. الهامش يتحوّل إلى جزء هام من لعبة السرد عند (ممدوح رزق)؛ فهو يتخطى وظيفته التعريفية، والبحثية إلى نفي، وتفكيك المتن .. ما هو الأصل: المتن أم الهامش .. فخ يجعل سؤالاً يمتد داخل المجموعة: ما هو أصل الوجود .. هل الموت، والغياب هما الأصل أم الحضور .. ما هو الأكثر جدوى: المتن أم الهامش .. تطرح قصة (المتسول) هذا التساؤل بقوة: هل نشاهد الأفلام، ونضحك، أم نناقش الواقع بجدية حيث تتداخل أحداث الفيلم مع أحداث الواقع .. متى يتبادل المتن، والهامش موقعيهما، وكيف يتم كسر غرور المتن، وتضخمه.  تحدث (عمر شهريار) أيضاً عن أن (ممدوح رزق) يلعب بالزمن فلا نعرف أين الماضي، وأين الحاضر .. في قصة (العود الأبدي) مثلاً نجد المخاطب الموجه إليه السرد حاضراً دائماً .. كأن الراوي يسرد على الغائب تحولات الزمان، والمكان من لحظة حاضرة كأنه موجوداً رغم موته .. كأن الغياب ليس مادياً بل يمكن استحضاره عبر نتف، ومنمنمات بسيطة، وذكريات، حتى بالصور التي تم قصقصتها .. كأن هذا الغائب يمتلك حضوراً غير منته. تناول (شهريار) أيضاً قصة (لا شيء بعد الموت) كي يشير إلى الحضور القوي للمتاهة .. لا نعرف هل هناك طفل اصطحب الرجل إلى هذا المكان فعلاً، أم أن الرجل هو الذي اصطحب الطفل .. أيهما موجود، وأيهما ميت .. هل جميعها شخصيات ميتة تتحدث إلينا من العالم الآخر .. ذكر أيضاً أن (ممدوح رزق) ينسج شبكة عنكبوتية سردية موازية لمواقع التواصل الاجتماعي لا تعرف فيها من مع من .. من الموجود، ومن الغائب .. شبكة معقدة تعتمد على فكرة موت الجسد التي ترسخها مواقع التواصل الاجتماعي، وتقوم عليها الأسئلة التي يطرحها الكاتب: ما الموت .. هل هو فعل نهائي .. هل هو فعل نسبي .. هل الحياة حياة بحق أم حياة تكتنف، وتكتنز في داخلها الأموات، واللاحضور، والغياب .. أسئلة ما بعد الحداثة المتأثرة بـ (الوجود والزمن) عند (هيدجر)، و(مفهوم الخطاب) عند (فوكو)، و(شذرات النص) عند (دريدا). تحدث (شهريار) عن أن (ممدوح رزق) يبحث طوال الوقت عن ثغرات العالم، وأن الذات الساردة في كثير من قصصه هجومية .. عنيفة .. ساخرة لكنها لا تنبع من قسوة أخلاقية، وإنما من إدراك عميق لعبثية العالم بوصفه مسخرة لا تحكمها قواعد سببية .. الذات المكرهة على الوجود، والتي تعرف أن كل شيء هو عبث، وبلا روابط منطقية؛ فتحل المتاهة (الخيوط المتشابكة، والمعقدة التي لا تؤدي لبعضها بالضرورة) محل البناء السردي الممنهج .. يسخر الكاتب من المقولات الكبرى، ومن الترتيب المنطقي للعالم؛ فوجه (مجدي وهبة) لحظة قتله في فيلم (حنفي الأبهة) يحيلك إلى وجه (سلفادور دالي) في قصة Facebook .. يطرح (ممدوح رزق) دوال عائمة تحاوطها هالة من الغموض فيعطي لكل قاريء فرصته في التأويل، وفي الربط بين الفقرات حيث الاستراتيجية التي يتبعها هي التفكيك، والهدم، وبناء علاقات غير منطقية .. فقرات تبدو للوهلة الأولى غير مترابطة، ولكن تصل بينها علاقة تفكيكية ساخرة للوجوه، والبشر داخل عالم عبثي لا تحكمه روابط .. في هذه القصة ـ كما ذكر (عمر شهريار) ـ تجاوز لأفكار التشيّوء، والأنسنة، والانمساخ الكافكاوي نحو اعتبار العالم مجرد موجودات تهدم مركزية الإنسان. تناول الناقد كذلك تشكيل المشهدية في المجموعة، وكيفية تحويل تاريخ العلاقات الإنسانية التي كان هناك حرص على تثبيت زمنها إلى قصاصات ممزقة في ألبوم عند (جامع القمامة) الذي يبتسم أثناء تصفح ذلك المتحف، وهي ابتسامة (ممدوح رزق) نفسه الذي يمارس ذلك العبث، واللعب بخلخلة السلطة، والهامش، ويعشق العلاقات غير المنطقية، ويستمتع بالتجريب، وبتدمير مفهوم القصة بمعناها التقليدي، وبتجاوز الكتابة السائدة عن مواقع التواصل الاجتماعي حيث استفاد (ممدوح رزق) من بنية الوعي الجمالي الجديد لتلك المواقع بعيداً عن المحاكاة المعتادة.
جريدة (النهار) الكويتية
23/04/2014