الاثنين، 12 أكتوبر 2015

رؤية العمى

لا تكتفي قصة (أفيلين) لـ (جيمس جويس) ـ وهي إحدى قصص مجموعة (أهل دبلن) ـ بمواجهة الإشكاليات الاستفهامية الناتجة عن هذه الحقيقة المحتملة: سيتحول التحرر من النمط البائس للحياة الذي ضاع ماضيك داخل ظلامه إلى ارتكاب شاق حينما تحصل على فرصة لذلك .. تتفحص القصة أيضاً كيفية استدعاء ذكريات انتقائية لتبرير التمسّك بهذه الحياة ليس لأنها تمثل في حد ذاتها أسباباً منطقية للاستمرار داخل التعاسة، بل لتفادي الصدام مع ما يمكن أن يعد دافعاً أصيلاً لهذا التمسّك وهو الخوف .. تسترجع (أفيلين) وهي عند حافة الوداع لقسوة عالمها كيف بدا على والدها التقدّم في السن، وكيف سيفتقدها حين ترحل .. تتذكر اللحظات التي كان خلالها لطيفاً، وكيف جلس يوم مرضها عند سريرها ليقص لها قصصاً من الخيال، ويحمص لها خبزاً على نار الموقد .. تستعيد خروجهم في نزهة إلى التلال، حيث أقدم والدها على ارتداء قبعة أمها ليثير الضحك في قلوبهم .. تتذكر العهد الذي قطعته على نفسها أمام أمها قبل أن تموت على أن تحيط هذا البيت بأقصى ما تستطيع من رعاية .. هذه المحرضات المتعددة للبقاء قد لا تمتلك ـ خاصة مع مهانة طاغية في البيت والعمل ـ القوة اللازمة للصمود أمام الوعد بحياة أخرى سعيدة، تنتظر أن يحققها الهروب مع حبيبها (فرانك) .. العالم الجديد الذي تنشده في (بوينس آيرس) حيث التعويض المستحق عن التضحيات المحزنة التي لم تمنحها سوى الشعور بالضياع .. لكن ربما هناك في القصة ما يشبه الحكمة: الحياة التي لم تختبر حتى الآن ـ مهما كانت الإشارات التي تدعم مثاليتها ـ تظل مجهولة .. ليس هناك ما يضمن طبيعة المفاجآت التي تخبئها .. الإذلال داخل وجود مجرّب ربما أكثر رحمة إذن من وجود غامض لم يتم التأكد من كونه مسرحية غنائية بعد.
لكن (جويس) لا يحوّل هذه الحكمة إلى يقين، بل يتعامل معها كظلام بديل لذلك الذي تضيع حياة (أفيلين) بداخله .. إن الورطة المحكمة ليست مجرد اقتناع بأن الخبرة أكثر أماناً من المغامرة، ولا بأن هناك في الماضي ما يستحق التخلي عن الأحلام، ومواصلة التضحيات من أجله، بل تكمن صلابة المأزق في عدم القدرة على رؤية أي شيء .. لنتأمل كيف وصف (جويس) نظرة (أفيلين) بينما كان (فرانك) يناديها، ويشير إليها أن تعبر الحاجز وتلحق به نحو الباخرة: (لا تفصح عيناها الجامدتان بنظرة حب أو وداع وليس فيهما أي نوع من الرغبة بشيء) .. كان بمقدور (جويس) أن يستجيب لإغراء التراجيديا المبتذل ـ كما من الوارد أن يحدث تلقائياً في لحظات كهذه ـ ويجعل من نظرة (أفيلين) تجسيداً ختامياً للصراع المأساوي بين الواجب والعاطفة، لكن (جويس) أعطى هذه النظرة نوعاً من العمى المجازي .. كان جمود العينين هو التحجر المرافق لعدم القدرة على الإبصار، الأكثر شراسة من مجرد الاستسلام المحسوم لأمر واقع .. جعل (أفيلين) تخبرنا بعينيها أنها لا تعرف ما هو الواجب، وما هي العاطفة رغم جميع الصور التي تدعي الوضوح، وتبدو ظاهرياً كأنها لا تخفي أشباحاً في صدوعها .. ما هو الماضي الذي عاشته ـ مع كافة الذكريات التي يمكن الشعور بالحنين إليها بثقة ـ وما هو المستقبل الذي تعجز عن العبور إليه .. لا تعرف ما الذي يجب أن تريده، وما الذي ينبغي ألا ترغب فيه حتى لا يزيد ظلام العالم.

أفْيلين
جيمس جويس
ترجمة / ناظم مزهر

جلَسَتْ عِنْدَ النافذة تراقب المساء وهو يغمر الشارع ، تميل رأسها على الستائر وتتنافذ إلى أنفها رائحة قماش مُغْبَر . كانت مُتْعَبَة .قليلون هُم المارَّة الذين اجتازوا الشارع ، والرَجُل الذي خرج من آخر منزل قَدْ مرَّ هو الآخر في طريق عودته وهي تسمع وقعَ خُطاه تطب على إسمنت الرصيف مبتعداً ، ثُمَّ وهو ينعطف مستديراً نحو الممشى الحجري أمام تلك البيوت الحمر حديثة البناء حيث الساحة التي اعتادوا اللعب فيها مساءً مع بقية الأطفال . حَتَّى جاء ذات يوم رَجُلٌ من بلفاست ليشتري الأرض وينشيء عليها تلك البيوت التي بزهو ألوانها وسقوفها المتناسقة لَمْ تَكُنْ تشبه بيوتهم الصغيرة باهتة الألوان . اعتاد جميع الصبيّة أن يلعبوا في تلك الساحة منهم أولاد "آل ديفن " وبنات " " آل ويتر " و" آل دون " وكذلك الولد الأعرج " كيو " الصغير وهي مع أخوتها وأخواتها ما عدا شقيقها الأكبر " إيرنست " لم يشاركهم اللعب أبداً و غالباً ما كان والدها يطاردهم بعصاه حين يجدهم في تلك الساحة ، وكان " كيو" الأعرج الصغير يقوم بدور الراصد الذي يعلِمَهَم حال رؤيته لوالدها مقبلاً . أيام كانوا سعداء فيها إذ لَمْ يَكُنْ الوالد فظَّاً عِنْدَما كانت أمها على قيد الحياة . تلك أيام مضت وكَبُرَ الجميع ، تُوفِيَّت الأم وكذلك "تايزي دون" جَارهم العَتيد وانْتقل "آل ويتر "عائدين إلى إنكلترا هكذا تَشتَّت الشَمل وهاهي أفيلين هي الأُخرى تروم الرحيل كالآخرين لتودِّعَ هذا البيت رُبَّما إلى الأبَد .
"
البيت ! " وطفقت أنظارها تجول بَيْنَ آثاث الغرفة التي واكبت حياتها ونفَضَت عنها الغبار طيلة سنين ، ربَّما لَنْ ترى بعد اليوم كل هذه الأشياء التي تآلفت معها ولم يخطر على بالها يوماً أنها ستفارقها ، هذه صورة القِس باهتة اللون على الجدار ، هو ذا الأرغن المكسور مُعلَّقٌ هو الآخر إلى جانب صورة ملونة للقديسة " مارغريت ماري " . ذلك القِس الذي لَم تعرف إسمه إلى الآن كان صديقاً لوالدها أيام الدراسة إذ مافتيء والدها ، كُلَّما ، زارهم ضيف ، يشير إلى الصورة ويقول دون أن يسأله أحد :
"
إنه في ملبورن الآن ".
لقد رَضيت بنصيبها و بتوديع هذا البيت فَهَلْ مِن الحكمة أن ترضى بذلك ؟ حاولت أن تزن في عقلها هذه المسألة بوضوح ، مهما يَكُنْ الحال ففي هذا البيت سترها ومعيلها ومن حوله كل معارفها وأصدقائها ، وليس ما تواجهه مِن مشقة العمل في البيت أو في الوظيفة لهو أمر عادي . ما الذي سيقوله زملاء عملها في المتجر لو عرفوا بمسالة هروبها مع صديق عابر ؟ ربما يصفها البعض بالطيش ، حينذاك ستحل محلها فتاة أُخرى عن طريق إعلان الوظائف الشاغرة ، وستفرح الآنسة " كافان " بهذا كثيراً فهي تستفزها دائماً خصوصاً عِنْدَما يصادف تواجد بعض الزبائن الذين يسترقون السمع :
"
أفيلين ألا ترين أن السيدات قد طال انتظارهن؟ "
"
أفيلين أسرعي مِن فضلك ! "
لا ، لَنْ تذرف غزير الدموع على تركها العمل في المتجر ، سيختلف الأمر كثيراً لو استقر بها المقام في بيتٍ جديد وفي بلدٍ آخر . ستتزوج وينظر إليها الناس حينذاك باحترام ، لَنْ يحصل لها ما حصلَ لأمها مِن قبل ن لكنها الآن بالرغم مِن تجاوزها سن التاسعة عشر لم تزل تشعر بالخوف مِن غضب والدها وهي تعرف جيداً أن شعوراً كهذا يسبب لها خفقاناً ، ولكونها فتاة فإن والدها لم يَكُنْ قاسياً معها مثلما هو مع هاري و إيرنست ، إلاّ أنه في الأيام الأخيرة بدأ ينذرها وكأنَّ كُلَّ ذلك اللطف معها كان مِن أجل المرحومة أمها . أمَّا الآن فهي تشعر بالوحدة ، ليس هناك مَنْ يهتم بأمرها ، أخوها إيرنست كالميت لا شأن له وأخوها الثاني هاري الذي يعمل في نقش الكنائس فهو كثير الترحال و قلَّما يتواجد في البيت، إضافة إلى ذلك ومما لاشك فيه أن النكد المتواصل على المال نهاية كل أسبوع قد بدأ يثقل كاهلها . كانت تسلمه كل إجرتها الأسبوعية البالغة سبعة شلنات إضافة على ما كان يرسله " هاري ". كان يصعُبُ عليها أن تطلب مِن والدها مبلغاً ما فهو دائماً يتهمها بالتبذير وسوء التدبير وقال إنَّه لَنْ يعطيها مما يكسبه بعرق الجبين لتبدده هنا وهناك ، والأكثر مِن هذا أنَّه اعتاد أن يكون رجلاً لا يُطاق ليلة كُل أحد ، لكنه في النهاية يعطف عليها ويعطيها بعض النقود ثم يسألها ملاطفاً ما إذا كانت تريد أن تشتري شيئاً لعشاء يوم الأحد . هكذا كانت تهرع ممسكة بجزدانها الأسوَّد وتشق طريقها في زحام السوق ثم وهي تعود متأخرة تحمل الأكياس الثقيلة.
لقد كان مِن نصيبها أن تكدح دون كلل في تدبير شئون البيت ورعاية أخويّها وتحمل مسئولية ذهابهما إلى المدرسة وانتظام طعامهما . كان عملاً شاقاً وحياة قاسية ، لكنها الآن وهي على أهبة الرحيل لم تشعر أنَّ تلكم الأيام بهذا القدر مِن القسوة .
هي الآن على أبواب حياة جديدة مع فرانك . فرانك الطيب القلب اللطيف المعشر والشهم ، سترافقه بعيداً على ظهر زورق في الليل لتصبح شريكة حياته ويستقران في بوينس آيرس حيث سيكون المنزل الجديد بانتظارها . إنَّها لتتذكر جيداً أول يوم التقيا فيه عِنْدَما كان فرانك يسكن في الشارع الرئيس حيث اعتادت الذهاب ، تتذكر ذلك كما لو أن الأمر حدث قبل أيام ، تذكرت كيف كان فرانك يقف عِنْدَ الباب دافعاً طاقية رأسه إلى الوراء فتهدلت خصلات شعره مُسدلةً على جبينه برونزي اللون . هكذا تعرفت عَليه وراح ينتظرها كل مساء عِنْدَ خروجها مِن عملها في المتاجِر ويصرّ على مرافقتها حَتَّى باب منزلها ، تتذكر جيدا كيف أنه اصطحبها ذات مساء لمشاهدة المسرحية الغنائية " الفتاة الغجرية " إذ شعرت بالزهو وهي تجلس إلى جانبه في ركن قصي مِن المسرح . كان فرانك شغوفاً بالموسيقى إلى حدٍّ ما وكثيراً ما كان يغني ، وحين يرفع عقيرته مغنياً أغنية البحار الذي أحب يتملك أفيلين شعورٌ بالبهجة والارتباك معاً . كان فرانك يمازحها ملاطفاً ويدلعها بإسم " بوبينز " والجميع يعرف بعلاقتهما وقد بدا الأمر في الوهلة الأولى مسلياً بالنسبة إليها كفتاة تحظى بصديق مثل فرانك ثم وجدت نفسها تميل إليه بشدة . لقد قص لها فرانك كثيراً عن بلاد ما وراء البحار وكيف أنه بدأ عمله مذ كان صبياً على ظهر السفينة " ألين لاين " وهي في طريقها إلى كندا إذ كان يتقاضى جنيهاً واحداً في الشهر وعدد لها الكثير مِن أسماء السفن التي عمل عليها وجاب بها عباب البحار حَتَّى وَصَل غلى مضيق ماجلان .
كان يروي لها قصصاً مِن غرائب العادات في أمريكا الجنوبية ، ولمَّا استقر المقام به في بوينس آيرس جاء لقضاء أجازته في بلدهِ ، ولمَّا عرف والدها سِرَّ علاقتها فرضَ عليها مقاطعته وراح يكرر على مسامعها قائلاً :
"
يا ابنتي ، أنا أعرف بهذا النوع مِن البحارة المراهقين ."
وهكذا كان عليها أن تقابل " فرانك " سِرّاً .
هي ذي عَتمة المساء تغمر الشارع تماماً ، لم تعد ترى بياض الورقتين في يدها ، هما رسالتان ، الأولى منها إلى أخيها هاري والأخرى لأبيها أمّا أخوها أَرنست فهو نعم الأخ بالتأكيد لكن منزلة هاري لديها أكبر . لقد بدا على والدها في الفترة الأخيرة تقدمٌ في السن بأكثر مِن ذي قَبْل ، وتصورت كم يفتقدها حين ترحل ، فهو في أحيان كثيرة يبدو في غاية اللطف ، لَنْ تنسى أبداً يوم مَرَضت وجلس عِنْدَ سريرها يقص لها قصصاً مِن الخيال ويحمص لها خبزاً على نار الموقد . وتتذكر أيضاً أنهم خرجوا جميعاً في نزهة إلى تلال " هاوث " وهناك أقدمَ والدها على ارتداء قبعة أمها ليثير الضحك في قلوبهم .
كان المساء يمضي قُدُماً ولم تزل تجلس عِنْدَ النافذة ، تميل برأسها على الستارة تشم فيها رائحة الغبار ومن هناك في الأسفل تهادى إلى مسامعها في الشارع عزف أرغن لشحَّاذ جوَّال سبقَ وأن سمعت مثل لحنه ومن الغريب أن تسمعه مرة أخرى في هذا المساء بالذات ليذَكِّرها بالعهد الذي قطعته على نفسها أمام أمها ، على أن تحيط هذا البيت بأقصى ما تستطيع مِن رعاية ، وتذَكَّرَت ليلة وفاة والدتها التي كانت مستلقية هنا في هذه الغرفة بالذات ، الغرفة المعتمة بجوها الخانق حين سمعوا جميعاً اللحن الحزين للعازف الشَحَّاذ ، تذكرت كيف عاد والدها إلى الغرفة متبختراً بعد أن أعطى لعازف الأرغن ستة بنسات وهو يقول :
"
اللعنة على الإيطاليين ! وصلوا إلى هنا ؟! "
بينما هي غارقة في تأملاتها الحزينة ، دهمتها قشعريرة وهي تسمع صدى راح يتردد لصوت أمها وهي تنادي بحزمٍ وإصرار : وداعاً .
غمرت الأحزان حياتها في وقت مبكر ولم تجنِ مِن تضحياتها شيئاً غير هذا الشعور بالضياع . وفجأةً انتصبت واقفة كالمصعوقة ، أتهرب ؟ نعم يجب أن تهرب ! سينقذها فرانك ويمنحها أملاً جديداً في الحياة والحب ، سيأخذها بالأحضان وينتشلها مما هي فيه وتعيش حياتها كما تريد .
وعلى رصيف ميناء " نورث وول " وقفت وسط الزحام المتلاطم كالموج ، كان فرانك يمسك بيدها وهي تعلم أنه يحدثها عن الرحلة ويعيد عليها ما قال بينما كان الرصيف يعج بالجنود وهم يحملون تجهيزاتهم داكنة اللون ، ومن خلال الأبواب الواسعة لحواجز الانتظار لمحت أفيلين لأول مرّة ، الكتلة الهائلة السوداء لهيكل الباخرة حين أُضيئت النوافذ في مقصوراتها وهي قابعة ، بمحاذاة الرصيف ، في الظلام.
لَمْ ترد على كلامه بل شَعَرَت بالبرودة في وجهها الشاحب واعتصر الألم والحيرة قلبها وهي تدعو ربها أن يهديها إلى طريق النجاة . وإذا بالباخرة تطلق صفيراً تردد صداه بعيداً في الضباب مثل نواح حزين . لو تحققت أمنيتها ، ستكون غداً في أعالي البحار مع فرانك نحو بوينس آيرس . لقد قطعا تذكرتين فهل بالإمكان التراجع والانسحاب بعد كل الذي فعله فرانك . سبّب لها القنوط شعوراً بالغثيان وهي تدعو ربَّها وتتضرع إليه بصمت ، و لَمّا جَلجلَ أحد الأجراس مُدَوِّياً ، إنتفض قلبها هلعاً وشعرت بفرانك يمسك يدها قائلاً :
"
هيّا ... ! "
كأنَّ كُلَّ بحار الدنيا هاجت في نفسها وكأن فرانك يدفع بها نحو الأعماق ليغرقها ، فتشبَّثَت بالحاجز الحديدي وهو يقول لها :
"
هَيّا ...! "
كلا ! كلا ! إنّه لأَمر مستحيل ، وعادت تتشبث بالقضبان بكل قوتها . خُيَّلَ إليها أنه تسمع ثَمّة نداء يصل إليها مِن أعماق البحر :
"
أفيلين ، أفيلـ ... ! "
راح فرانك ينادي ويشير إليها أن تعبر الحاجز و تلحق بهِ . طلبَ منه بعض المسافرين أن يمضي في سبيلهِ لكنه وقف في مكانهِ ينادي عليها وهي تتطلع إليه بوجه شاحب لا حوَلَ لها ، لا تفصح عينيّها الجامدتان بنظرة حب أو وداع وليس فيهما أي نوع مِن الرغبة بشيء .


الأحد، 11 أكتوبر 2015

إيلان


إلى (ملك)
لا يبدو ميتاً
فهكذا ينامون في أسرّتهم
أو في رسومات (ميكي)
أو في أفلام mbc3
ربما الأطفال هم أكثر من يمحو نومهم الفرق
بين حجرات النوم، والقصص المصورة، والكرتون
والبحر.
حتى يبدو كأنه يحلم
وأن أصابعه الصغيرة سترتعش للحظات
مع أنين خافت
تأثراً بمشاهد لن يتمكن من وصفها جيداً حينما يستيقظ
ثم يسترد استكانته.
حتى يبدو كأنه سيصحو الآن
وينادي على أمه أن تحضر له بسكويت (كتاكيتو) سريعاً
قبل أن يجري ليركب دراجته
ويتجول بها داخل البيت
واضعاً قطته في سلتها الخلفية.
كأنه سينتبه إلى جيفة ثقيلة
ممتلئة بالقيء
تنظر في اتجاه آخر
فيقرر أن يتوقف ويسألها:
(هل في السماء مكان للعب بالدراجة بعد الموت؟).
(هل سيتمكن من الاحتفاظ بـ "مشمش" هناك؟).
(ما هو شكل "ربنا"؟).
أحاول أن أتخيل في صمت
ظلاماً لا يغرق.

السبت، 10 أكتوبر 2015

الخصائص الأنطولوجية للقارىء الضُراط

ـ يؤمن بوجود قواعد ثابتة للكتابة، متفق عليها، ومفروغ منها .. أنه يحيط علماً بكافة هذه القواعد، ونتيجة لذلك لا يمثل رأيه في عمل أدبي مجرد وجهة نظر، بل حكم عادل منبثق عن تاريخ الكتابة .. يعتبر أن هذه الأساسيات من الممكن حقاً إدراكها كلياً، وأنه ينبغي أن يتطابق حضورها في وعي الكل، كما أن مقاربتها لابد أن تتم بنسق موحد عند جميع البشر، وأن التصورات الناجمة عن هذه المقاربة من الحتمي أن تتخذ طبائعاً متماثلة .. يوقن أن التحرر من هذه القواعد خرافة لا يجب تضييع الوقت في محاولة تصديقها، أما لو كان هذا التحرر (أي التجديد) حقيقة بالفعل فينبغي عليه الالتزام بأنماط محسومة لا يجب تجاوزها .. يرى أن هناك قواعدا ثابتة بالطبع، ومن لا يفهم هذا عليه أن يتعلم أو يعالج نفسه قبل أن يقرأ ويكتب، أو يتراجع عن التفكير في القراءة والكتابة وسيكون هذا أفضل.
ـ يحكم على العمل الأدبي الذي لا يروق له بأنه (عمل سيىّء)؛ فأي كاتب حينما يقرر كتابة أي نص لابد ألا يحدد له هدفاً يتجاوز إرضاءه هو بالذات، وبناءً على ذلك يصبح عملاً رديئاً إذا لم يحقق هذه الأمنية.
ـ إذا وجد في العمل الأدبي الذي لم يعجبه تناصاً بارزاً مع عمل آخر، أو صلة ظاهرة بمادة فنية أو محتوى تاريخي، أو اشتباكاً مع نظرية نقدية معينة، أو مضامين فلسفية محددة، أو مع أفكار وتحليلات في علم النفس، أو استخداماً لتقنية سرد مقصودة مثلاً فإنه لا يجد مبرراً لبذل جهد في التفكير والبحث ـ ولو باستخدام (جوجل) ـ للعثور على اكتشافات يمكن أن تثمر عن هذه التناصات أو الصلات أو الاشتباكات .. هو يثق تمام الثقة في صحة انطباعاته، وصواب رؤيته التي تتضاءل أمامها أهمية أي إدراكات أخرى .. ثقته في ذاته تجعل الأمور أكثر سهولة بالنسبة إليه؛ فهي تحميه من ممارسات ذهنية شاقة يرى أنه ليس مضطراً لها خاصة لو كان مدافعاً عن الأدب المحترم، المقاوم للقبح والظلم والابتذال، والملتزم بالأخلاق الحميدة .. الكتابة الرافضة للفحش والبذاءة، التي تقدس قيم الحب والحق والخير والجمال؛ حيث لابد لأي كاتب ـ مهما كان جحيمه ـ أن يدهن (روح) هذا القارىء بها، وبالكيفية التي (تُريحه).
ـ عند كتابة ريفيو للنص الذي لا يروق له يجب أن يستخدم تعبيرات كـ (أخفق الكاتب في ...)، (لم ينجح الكاتب في ...)، (فشل الكاتب في ...) لأن هناك ثمنً ينبغي للكاتب أن يدفعه نتيجة عدم إرضائه شخصياً، وذلك بتوثيق الأسباب التي حرمته من الإشباع في صيغة إدانة تحمّل الكاتب مسؤولية عدم معرفته باحتياجات هذا القارىء بالذات التي ـ دون شك ـ هي نفس احتياجات مجتمعه وتلبيتها .. تضحكه سخافات مثل: (لكل عمل أدبي قانونه الخاص) .. (المنطق الشخصي للكاتب) .. (الدوافع الجمالية للنص) .. بالنسبة له كل هذه اللافتات البراقة مجرد هراء ذائع، وتفاهة طاغية؛ فلا يوجد سوى قانونه هو، الذي لابد أن يكون قانون الجميع، ومنطقه هو الذي لابد أن يكون منطق الجميع، ودوافعه هو التي لابد أن تكون دوافع الجميع، وإلا لصارت الحياة عبثية ليس لها حاكم.   
ـ تعبيرات مثل (أخفقت في التواصل مع هذه الرواية)، (لم أنجح في تكوين علاقة مع هذه القصة)، (فشلت في استيعاب هذا الكتاب) التي يستعملها قراء آخرون هي بالنسبة له عبارات مائعة، رخوة، تتسم بقدر غير مقبول من الدونية؛ إذ أنها لا تتفادى عقاب الكاتب بشكل قاطع ومباشر وحسب، بل وتمرر أيضاً بطريقة أو بأخرى انطباعاً بتوجيه هذا القارىء الاتهام لنفسه باعتباره موصوماً بالخلل الذي تسبب في (غياب الاستفادة)، و(منع التوافق) مع النص، وهو العار الذي لا يمكن ـ بديهياً ـ إلحاقه إلا بالكاتب.
ـ إذا صادف احتفاءً لجمهور من القراء بكاتب ما يعتبره (سيئاً)، أو بعمل أدبي يراه (رديئاً) فإنه لابد أن يمتد بالإدانة التي سبق ووجهها للكاتب أو للعمل الأدبي إلى هذا الجمهور من القراء باعتبارهم فئة من الساذجين والحمقى الذين أثبتوا أنهم (لا يعرفون كيف يقرأون) بعدما أعجبوا بكاتب (لا يعرف كيف يكتب) .. يؤمن بأن عليه واجب مطاردتهم، ومعاقبتهم بالشتائم أحيانأً، وبالسخرية أحياناً، وبالتساؤلات المستنكرة أحياناً، أو بمزيج من كل أسلحة الردع هذه في أحيان أخرى، ليس فقط جزاءً لهم على عدم اعتناقهم ليقينه تجاه ذلك الكاتب، وعجزهم عن إدراك (العيوب الواضحة) في عمله الأدبي، وإنما كدور تنويري ملزم به، ورسالة تطهيرية تحتم عليه التدخل لتصحيح (الحالة الأدبية العامة)، وإنقاذ (المناخ الثقافي) من الرذائل السائدة.
ـ لديه احتياج عظيم إلى المتعة الناتجة عن (الإبداع) في الإدانة سواء على صفحات التواصل الاجتماعي أو مواقع القراءة أو المدونات؛ إذ يشعر بأن وجوده في الحياة يكتسب قوة وقيمة مع كل لحظة يكتب فيها أنه كاد يتبول على إحدى الروايات، أو ألقى بها في القمامة، أو طوّحها من نافذة البيت أو شباك القطار، أو أعطى كتاباً ما إلى بائع الطعمية أو بائع اللب، أو عرضه كهدية مجانية لأي أحد يرغب في الحصول عليه.
ـ إذا واجه تعليقاً أو رأياً مخالفاً بعد كتابة إدانته لعمل أدبي، يريد إقناعه بأنه لا ينبغي تناول الكتابة بتصنيفات الجودة والرداءة، أو بمعايير الصواب والخطأ فإنه يقوم على الفور باستدعاء الرد التقليدي الجاهز وكتابته: (رأيي ليس حكماً مطلقاً، بل مجرد وجهة نظر تعبّر عن ذائقتي الشخصية، التي يمكن أن يتفق أو يختلف معها الآخرون) .. يكتب هذا الرد وعلى وجهه ابتسامة مطمئنة لا تخلو من التهكم تقول: (أنجزت العقاب وانتهى الأمر، لقد وضعت هذا الكتاب في مكانه المناسب).
ـ القراء الذين يتفقون مع يقينه عن عمل أدبي ما أو عن أحد الكتّاب لا يعدون بالنسبة له مجرد  مثقفين حقيقيين، أو أخوة في المعرفة الأصيلة، أو أصدقاء في الفهم السليم بل علامات من الغيب، يعتبر نفسه جديراً بأن تُبعث إليه كي تؤكد له من حين لآخر بأن الحق معه، ولتهوّن عليه مصاعب الرحلة، وتثبّت إيمانه بضرورة الاستمرار فيها، متمسكاً بعزيمته.
ـ أحياناً يجد في نفسه ميلاً لتقديم لمسة رحيمة إلى ذلك الكاتب الذي عاش لحظات قاسية من الانتظار المرعب بعد صدور عمله الأدبي مترقباً بمنتهى القلق والتوتر انتهاء هذا القارىء شخصياً من قراءته حتى يعرف حقيقته ومصيره .. في بعض الأحيان يفتح نافذته، وينظر إلى الكاتب وهو جالس تحتها يبكي، ويخبره بأنه يعلم جيداً أن حكمه كان قاسياً، ولكن عليه أن يتقبله لأنه يليق بحجم الجريمة التي ارتكبها، وأن عليه مراجعة نفسه، والرجوع عن الطريق الفاسد الذي يمشي فيه، وأن يبدأ من جديد مسترشداً بنور هذا القارىء .. يرى أنه مهما كان قاسياً، لا يجب على من (يعرفون قواعد الكتابة والقراءة) أن يكونوا مجاملين لمن (لا يعرفون قواعد الكتابة والقراءة) .. يؤمن بأنها أمانة إلهية .
ـ يعتبر نفسه أكثر البشر استحقاقاً لحمل لقب (ناقد)، خاصة لو كان نشطاً على صفحات مواقع القراءة، لا يقوم بأكثر من كتابة سطور تختزل (المعاني العامة)، و(الأهداف الكلية) للأعمال الأدبية، أو ملخصات لـ (حواديت) الروايات، والمجموعات القصصية، و(أفكار) دواوين الشعر ـ يراها ميزة نادراً ما توجد في أحد ـ وخاصة أيضاً لو كان أكاديمياً، يعلّم الصغار ما هو (الأدب)!.
*ورقة أوليّة ضمن مخطوط (نقد استجابة القارىء العربي) / مشروع قيد الكتابة.

الأحد، 4 أكتوبر 2015

الإرجاء الشعري لبيع الكون

يتقمص (هرمس) في ديوانه (كلاشنكوفي الحبيب) الصادر عن دار (شرقيات) روح شبح خلقه التجرد من المفاهيم .. يتحرك هذا الشبح فيما يشبه التناثر بين ذاكرة المفاهيم المنزوعة، وبين الحالة الشبحية المواجهة ـ المنطوية على استشرافات بداهة ـ والتي تحوّل إليها العالم مع تفحص تلك الروح للمرئيات المتشابكة .. بدت هذه المشاهد المرصودة كاحتمالات طائشة .. مبتورة .. تحاول أن تستجيب لرمزيتها لكنها تدرك أنها لا يجب أن تفعل .. هي تخبو بمجرد ظهورها .. مبكراً ، وربما مبكراً جداً ولكنها حتمية التلاحق الفوري للحضور والغياب التي لا تليق بشبح وحسب، وإنما التي تناسب أيضاً محاولات تأويل الكينونة فيما بعد التخلص من المفاهيم.
 الذين تحولوا لقرود ارتاحوا من خطوة الحضارة
والذين تحولوا لضباع ضحكوا كثيراً
تحول كل منهم لحيوان
كنا يائسين تمامًا من بشريتنا
تحولوا وودعتهم وظللت هنا
أسمع أخبارهم وأشيخ.
إذا كان تحوّل البشر إلى حيوانات ـ وهو خلق مجازي متجذر في الذاكرة ـ ناجماً عن اليأس؛ فإنه سيكون دافعاً قوياً بالتأكيد للاستفهام عن الكائن الذي ودعهم وظل هنا بما يعني انفصاله عن هذا التحوّل .. ما هي الذات التي بقيت لتسمع أخبار الذين تحولوا إلى حيوانات وتشيخ، ولماذا؟ .. هل هو ذلك الكائن الذي لم يصل يأسه إلى (الموت) أي إلى مستوى القهر البالغ، اللازم للخروج من بشريته؟، أم أنه ذلك الذي تجاوز يأسه حتى إمكانية الرهان على الخروج؟ .. ربما كانت المقامرة تتمركز حول ضرورة أخرى تتمثل في تكوين سيرة ما لذلك التحوّل .. ذاكرة مضادة للحالة البشرية، توثّق الطبائع التي أنتجها الوجود ـ ربما بعد الموت ـ في حضورها الحيواني .. لكنها في جميع الأحوال سيرة قائمة على السماع، أي أن تفاصيلها ستظل محكومة بالذاكرة التي تشيخ، أو ربما بشكل أدق تساهم تلك التفاصيل في بناء شيخوختها .. هي إذن احتمالات أكثر من كونها تفاصيل يجب أن تُنحت في بناء صلب .. هواجس تناسب الموتى الذين حلت أرواحهم في حيوانات، أو أولئك الذين تكفلت الذات التي ودعتهم وظلت هنا بتحويلهم وهم لازالوا على قيد الحياة .. عناصر إيحائية تنسج مغامراتها في وعي الكائن الذي ربما لم يكن بشراً أصلاً حتى يتحول مثلهم، أو الذي لم تغادر بشريته نحو الموت ليشاركهم التحوّل .. قد يكون شبحاً يستند إلى عتمة ما بين الحياة والموت ـ يستطيع أن يكون هكذا وهو لا يزال حاضراً في العالم بكامل واقعيته الإنسانية، وكذلك بينما يكون متوارياً كمصير غامض داخل الموت .. الشبح الذي يلعب بطقوس خفية، ويراقب دون حاجة لأن يرى، ويسمع أخبار الظلام الذي قاده ـ بمشيئة شبحية ـ نحو صوغ الأجساد الميتة، أو التي مازالت حية لإعادة تمثيل الألم على نحو ناصع.
في شارع فؤاد المتصالب على الجحيم أو شارع الجلاء
أتناول الإفطار وأتحدث عن التخلي عن المفهمة التقليدية وأحوال الوعي.
أمشي إلى مكتبة مارًا ببولاق أبو العلا،
أتحاشى وأستقبل الأكتاف والعيون.
ما سرق أرواح هؤلاء،
هو بالتأكيد ما أغلق نادي أنس الوجود
هو ما سرق البلح من الوكالة
هو ما يدورني كالدمية بين السقاة.
يضع (هرمس) هنا ألوان اليومي في تضاداتها (التخلي عن المفهمة التقليدية) مقابل (تحاشي واستقبال الأكتاف والعيون) .. (أحوال الوعي) في مقابل (سرقة الأرواح) .. لكنه ليس تنافراً خالصاً بل يمكن القول أنه تجسيد لتناغم مختلف .. نوع من تنظيم الصراع بين الاستبعاد غير المنقذ للأطر، والخضوع الحتمي لمطارادات الشوارع التي قررتها النمطية .. ترتيب خاص بين الانسجام مع التجليات الجمالية الناشئة عن تحرير الذهن من المصائد، والفقد كهيمنة قدرية ترتجل شروطها .. إن هذا التناغم لا ينطوي على براءة كتلك التي تبدو ظاهرياً، بل يمكن الشعور بفكرة التنازل عن إمكانية العثور على ماوراء (التخلي عن المفهمة التقليدية) لصالح الوحشة ـ مهما كان الإحساس بها كفائض قاصر ومبتذل يعادل (الغربة) مثلاً ـ باعتبارها فضاءً عاماً .. يمكن ملامسة طيف لتهكم مستتر، يستبعد الثقة في الأغراض الممكنة لـ (أحوال الوعي) أمام الإيمان بإبادة طاغية، تتولى أسرارها الحفاظ على بقاء الحواس منتمية إلى (دمية تدور بين السقاة).
لو أن رجلاً حوى في قلبه جحيمًا كاملة
ألن يبيع الكون كله لو سنحت له الفرصة؟ يقول.
ثم يتحسس مسدسه ناظراً في عيون من حوله
يراه الجميع لآخر مرة في أمكنة عديدة
تُروى عنه أساطير: سَبَح له السمك في الهواء. كان يخرج من النهر والماء يغلي على جسده الأحمر.
قتل رجلاً بنظرة.
لكنهم لن يقولوا أبدًا أن أمرًا ما كان يأكله عميقا
أنه فقد شيئًا عزيزا. أنه ساقط كالآخرين. أنه احتضر ببطءٍ وحيدًا فوق سطح إحدى بنايات وسط المدينة.

هناك قابلية لاستدعاء علاقة التوتر بين التعارضات عند (دريدا)، والتي تضمنتها نظريته عن (المكمّل) باعتباره نصاً أو عنصراً يضاف إلى آخر أو يعتبر ثانوياً بالنسبة له، ويعتبر الآخر بنية أو نظاماً نصياً أكثر اكتمالاً .. في (نظرية الأدب المعاصر وقراءة الشعر) لـ (ديفيد بشبندر) ـ ترجمة: (عبد المقصود عبد الكريم) سيتم تلخيص الأمر على هذا النحو: (إذا كانت الإضافة إلى البنية ممكنة فلا يمكن أن تكون البنية كاملة، وإذا كانت إضافة المكمّل ممكنة فلا يمكن أن يكون المكمّل ثانوياً تماماً) .. عند (هرمس) وتحديداً في المقطع السابق سنجد مكمّلاً محجوباً لما يبدو أنه تحديد أساسي وهو الأسطورة .. هذا المكمّل هو ما يقترحه النص كحقيقة مقموعة تعارض الإعجاز المعلن .. ما لا يعد ثانوياً إذن هو ذلك الذي يأكل في العمق، فقد العزيز، السقوط، الاحتضار البطيء داخل الوحدة .. لا تنبعث الأسطورة من أوهام متخيلة، توحدها الرغبة الجماعية في امتلاك يقين زائف عن ذات خارقة، بل يروق لي تشريحها كقراءة مسالمة لرغبة مؤجلة في التدمير، تعطي الذات إشارات وجودها طوال الوقت .. إن الأساطير قد تكون تأويلاً هزلياً للجحيم الذي في القلب .. فهماً فكاهياً لبيع الكون .. قد تكون تفسيراً غيبياً سهلاً للمسدس الذي يتم تحسسه أثناء النظر في العيون .. ربما كان الجميع يعرف أن المعجزات المختلقة أكثر قدرة على استحضار الطمأنينة من ذلك الظلام الذي يمنع من التعرف على النية المرجأة في القتل، والتي يختزنها الكائن المحتضر .. لكن الرغبة المؤجلة في التدمير ـ الذي يُمارس شعرياً بصورة تعويضية ـ قد تكون مكمّلاً محتجزاً لمتن غائب ينتظر التخلص من الأسطورة حتى يمكن للذات أن تحضر بما كانت متجردة منه في أبصار الآخرين  .. الانتظار يبدو شاقاً إذن، وهذا لا يفسر تحوّل الذات إلى شبح ـ يستطيع الرماية والفتك باللغة ـ في قصائد الديوان وحسب، بل ربما أيضاً يقودنا للحصول على المنطق الذي شيّد وصف (الكلاشنكوف) بـ (الحبيب).

أخبار الأدب
3 ـ 10 ـ 2015

الخميس، 1 أكتوبر 2015

السكر المتساقط على الأرض

في واحد من أكثر عروضه الكوميدية إبهاراً قدم الفنان الأميركي (لويس. سي. كي) فقرة عن المواعدة، تهكم خلالها على تلك اللحظة التي تقرر فيها المرأة بداخلها السماح للرجل بمضاجعتها، بينما لا تكون لديه فكرة عن هذا القرار .. فقط يواصل محاولاته المضحكة لإثارة إعجابها، مظهراً حالة من الفوضى غير المتماسكة من انعدام الشخصية (مثل حروف ملاحظات طلب الفدية المقصوصة من مجلات عدة) يخلط خلالها بين أنواع مختلفة من الرجال، يتبادل تقمصهم (بعض ثوان لكل واحد، كقضيب أعمى في الفراغ، يدفع في اتجاهات لامتناهية، ويأمل في إيجاد شيء ثمين بمكان ما) .. يخبرنا (جي دي موباسان) في قصة (ندم) أن هذه اللحظة ليست مجرد تجربة من ضمن تجارب الحياة، أو ذكرى قد تتشابه مع ذكريات أخرى، بل من الممكن أن تكون الكابوس الأعمق الذي يجعل من العمر بأكمله ـ مهما كانت خبراته الأخرى ـ ليس أكثر من خيبة ثقيلة.
يكتشف الأب (سافال) بعد إتمام عامه الثاني والستين أنه أضاع فرصة مضاجعة حبيبته السيدة (ساندرز) في شبابهما أثناء نزهة في إحدى الغابات الصغيرة نتيجة الخوف من رد فعلها ـ رغم كل علامات القبول التي أبدتها له ـ خاصة أنها زوجة صديقه الذي كان مستغرقاً في النوم فوق العشب أثناء ذلك الوقت .. السيدة (ساندرز) تخبر (سافال) بعد أن ذهب إليها كي يضع حداً للشك الذي عذبه طوال حياته بأنها كانت تعرف أنه يحبها، وأنها كانت ستعطيه ما يشاء لو طلب منها ذلك أثناء النزهة القديمة في الغابة .. أدرك (سافال) أنه كان قريباً من السعادة، ولم يُمسك بها .. ذهب في هذه الليلة إلى نفس المكان الذي أضاع فيه تلك الفرصة ليبكي.
أفكر الآن روايتي (الفشل في النوم مع السيدة نون) الصادرة عن دار (الحضارة) 2014:
(فجأة يا دكتور، قبل أن أنام في تلك الليلة، وبينما كنت في ذروة اختناقي من التفكير، واسترجاع ما حدث؛ جاء في ذهني هاجس طيّر عقلي، ودمّر آخر ما تبقى لدي من أعصاب، وسوّد الدنيا في عينيّ أكثر مما كانت سوداء .. فكرت في أن مجيئها لي اليوم بهذا المكياج، وبهذا الميني جيب كان يعني أنها كانت مستعدة لاحتمال أن يحدث شيء بيننا .. بالضبط كما أقول لك يا دكتور .. كانت جاهزة لخوض تجربة أن ننام معاً .. طبعاً حضرتك ممكن تقول بأن هذا ليس شرطاً، وأنه احتمال صعب، إلى آخر كل ذلك الكلام .. سأقول لك أنني أوافقك، ولكنه يظل قائماً .. هل تستطيع يا دكتور أن تعطيني دليلاً دامغاً لا يقبل الشك، أو مبرراً قوياً جداً لا يمكن مجادلته أنها جاءت، ولم يكن في رأسها نهائياً أن مقابلتنا من الممكن أن تنتهي بممارسة الجنس؟ .. أظن أنك لا تملك هذا الدليل، أو المبرر يا دكتور .. حضرتك ممكن تسألني أيضاً ببساطة ما الذي بيننا يجعلها تُفكر في أمر كهذا، بل وتأتي مستعدة لإمكانية حدوثه .. أستطيع الرد عليك، وأسألك: ما الذي بيننا يمنع ذلك أصلاً؟ .. كل كلامنا على الماسنجر، والحوارات التي تبادلناها كانت عادية جداً، ومثلما قلت لحضرتك أن التحدث عبر الانترنت أعطاني فرصة إخفاء طبيعتي المهزوزة، الخجولة، والمرتبكة بقدر كبير للغاية .. منحني الشات حماية ـ لأنها لا تراني، ولا تسمعني ـ من اكتشاف ضعفي الهائل، وتوتري العظيم .. هذا يعني أن صورتي عندها لم تكن من السوء للدرجة التي تستبعد أن يصبح نومنا معاً شيئاً وارداً .. ثانياً يا دكتور ما الذي يجعلها تهتم، وتحرص على الاتصال بي، وطلب مقابلتي حينما نزلت الأجازة لو كان انطباعها عني ليس جيداً؟ .. أظن أنك لست في حاجة لتعرف أنه لو كان في داخلها انطباع ضدي، أو على الأقل ليست لديها الرغبة في ذلك اللقاء لقضت أجازتها، ورجعت، وكان من الممكن ـ ولن يكون صعباً عليها ـ أن تخبرني فيما بعد أنها كانت مشغولة جداً، أو أنها واجهت أموراً طارئة منعتها من الاتصال بي .. لن تعوزها الحجج، والأعذار يا دكتور، أو حتى لم تكن ستهتم من الأساس بتقديمها، أو التفكير في ضرورتها .. ما حدث هو العكس .. اتصلت بي، وطلبت لقائي، وجاءت بمفردها ـ لاحظ هذا جيداً ـ وكانت متأنقة، وتضع كامل مكياجها، وترتدي الميني جيب .. المظهر الذي لم يسبق لي أبداً أن رأيتها به سواء في المرات القليلة السابقة، أو حتى في صورها المنشورة على الانترنت .. ليس هذا فحسب يا دكتور .. تريد الدليل الأقوى الذي لا يحتمل الشك، أو التأويل، ويؤكد صحة الدلائل السابقة؟ .. جملة (هي الناس بتبصلي كده ليه، هو أنا ماشية عريانة) .. لم يكن معناها الاستغراب، ولا كان القصد منها أن تُشعر نفسها بأنها جميلة، ومثيرة مثلما قلت لنفسي وقتها .. لا يا دكتور .. كانت تريد أن تُشعرني أنا أنها جميلة، ومثيرة بلغة صريحة، وواضحة .. لغة تبرز فيها كلمة (عريانة) دون أي ساتر .. كانت تلفت نظري لها، ولما هو مكشوف من جسمها بعدما لم تجد مني استجابة، بل تجاهل غشيم لا نظير له .. رغم كل شيء، لم يكن عندها مانع حتى اللحظة الأخيرة، ونحن نخرج من (الكافيه)، وقبل أن أُوقف لها التاكسي من أن نذهب إلى السرير .. تخيّل .. ولا كأني هنا .. كأنني مسافر داخل بلاهتي، ولا أشعر بشيء سواها .. ضع كل ما قلته بجوار بعضه، ثم أخبرني ماذا يعني يا دكتور .. أنا لا أقول أنها قادمة خصيصاً كي أركبها، أو أنها كانت ترتعش من الهياج، وتتمنى أن آخذها فوقه، ولو أنه يظل احتمالاً .. أنا فقط أقول أنها على الأقل كانت مهيأة للتجاوب مع أي شيء يمكن أن يحدث، ويؤدي لأن ننام معاً .. ثم لابد أن تأخذ في بالك أيضاً أن هذا عادي بالنسبة لها، وليس فيه مشكلة لو حدث .. شاعرة، مثقفة، متفتحة، تعيش في الخارج، والجنس بالنسبة لها ليس أمراً غريباً، أو مخيفاً، أو غير أخلاقي .. بالعكس .. ضرورة، واختبار، وكشف، وهذيان، ومراقبة، واحتياج، وعلاج .. كل الدوافع الجميلة، الممتعة، التي بلا شروط .. ثم بصراحة وجهها كان يقول هذا يا دكتور .. ملامحها كانت مرتخية ـ في البداية، قبل أن يجعّدها الزهق بمرور الوقت ـ وابتسامتها كانت سائبة، وعيناها كانتا ناعستين، كأنها تحلم، أو كأنها تمرر لك بدهاء الطمأنينة التي تلزمك من رد فعلها لو قررت اتخاذ خطوة جريئة .. خطوة جريئة مني أنا يا دكتور؟!!! .. عرفت الآن ماذا ضيّعت من يدي؟ .. عرفت الآن الروعة الاستثنائية، التي لا تتكرر، والتي تفضّلت بهمّة، وثبات بتحطيمها، ونسفها؟).
لماذا هي ليست مجرد تجربة حينما تخفق يمكن أن تنضم على نحو تلقائي إلى مخزون الهزائم العادية؟ .. هل لأن هذه الرغبة تحديدأ يتم اعتبارها ـ خاصة طوال وقت عدم إشباعها ـ الأساس الجوهري للحياة، الذي تتضاءل بجواره أي أمنيات أخرى، بل ولأنها حينما تتحقق قد يكون لديها القدرة على معالجة الجروح التي لا تنتمي ـ ظاهرياً ـ إليها، أو تجعلها ـ حينما تفشل ـ عاهات أشد مرارة؟ .. لماذا هي ليست مجرد ذكرى قد تتشابه مع ذكريات أخرى؟ .. هل لأن آلامها ـ خاصة مع الوعي باستحالة أن يعطي الزمن احتمالاً لتعويضها ـ تجعلك توقن وأنت على عتبة الموت أنك لم تدخل العالم أصلاً، وبالتالي لم تكن حياتك أكثر من حمولة بائسة من الحرمان؟ .. لننتبه جيداُ إلى قطرات السكر السائل التي كانت تتساقط من أصابع يدي السيدة (ساندرز) وهي تخبر (سافال) بالحقيقة .. لقد فات الأوان أن يلحق بهذا السكر المهدر.
إن ما يبدو عجيباً بشكل مضحك أن عدم رغبة الإنسان في الحصول على تأكيد بأنه أضاع فرصة ثمينة لن تعوّض كتلك قد يجعل من اللقاء بين (سافال) و(ساندرز) حدثاً جيداً لو تم بطريقة عكسية .. لنتخيل مثلاً لو أنها أخبرته ـ على الأقل ـ بأنها لم تكن تحبه، وأنها لم تكن لتسمح له بأن يستمتع بها في تلك النزهة القديمة في الغابة؛ ما الذي كان سيشعر به (سافال)؟ .. ربما كانت ستبقى آلامه كما هي، مستقرة على حالتها قبل هذا اللقاء، دون تطور، بل يمكن أيضاً أن تكون معرفته بعدم حبها له سبباً في منحه نوعاً من التصالح المستسلم مع هذه الآلام .. تعطيه رؤية محكمة اليأس، ومتفهمة إلى الماضي، باعتباره قدراً لم يسمح له بامتلاك ما يمكن خسارته من الأساس .. ربما كان بمقدور (سافال) أن يعثر على شيء من العزاء في تلك الليلة بدلاً من الذهاب للبكاء إلى نفس المكان الذي شهد هزيمته .. ربما كان العزاء حينئذ أكثر رحمة من الندم .. ربما.
ندم
جي دي موباسان
إنـّه يومٌ خريفيٌّ حزين.
حينما نهض سافال من نومه كانت السماء تمطر، وأوراق الأشجار تتساقط كأنها مطراً آخر أكثر غزارة، وأكثر رتابة،
إنـّه يومٌ خريفيٌّ حزين. وسافال، الذي يطلقون عليه في نانت:الأب سافال ليس مرحاً هذا الصباح. وحالما نهض، شرع يتنقل من المدفأة إلى النافذة، ومن النافذة إلى المدفأة
تكتظ الحياة بالأيام الكئيبة. بالنسبة لسافال، من الآن وصاعدا، لن تحتوي الحياة إلا على أيامٍ كئيبة. إذ أنه قد أنهى عامه الثاني والستين، ولا يزال وحيدا, عانسا، دونما أحد من حوله. كم هو محزن أن تموت هكذا وحيداً، بعيداً عن أي إنسان يمكن أن يشعر نحوك بالامتنان!
شرع يفكر في حياته الخاوية. تعود به الذاكرة إلى ماضيه البعيد، إلى طفولته، في المنزل مع أهله، ثم المدرسة والنزهات، وفترة دراسة الحقوق في باريس. ثم مرض أبيه ووفاته.
بعد ذلك، عاد سافل ليعيش مع أمه. عاش الاثنان معاً: الرجل الشاب، والمرأة العجوز في هدوء دونما حاجة لشيء أو شخص آخر. لكن أمه أيضاً ماتت. فمكث هو وحيداً.
كم هي حزينة الحياة! قريباً سيموت بدوره سيفنى هو أيضاً! وسينتهي كل شيء. لن يبقى هناك سافل على سطح الأرض. شيءٌ مرعب! أناس آخرون سيولدون وسيعيشون وسيحبون بعضهم بعضاً. سيضحكون. نعم سيمرحون، بينما هو لن يكون هنا. أليس غريباً أن نستطيع الضحك والمرح، أن نكون سعداء مع إيماننا الراسخ بالموت؟.. لو كان محتملاً فقط هذا الموت. حينها سيكون بمقدورنا أن نأمل .. لكن لا. إنه محتوم محتوم، كقدوم الليل بعد النهار.
لو كانت فقط حياته مليئة؟ لو كان حقق شيئاً ما؟ لو قام ببعض المغامرات؟ لو حصل على بعض المتع والنجاحات؟ فتات مما لذ وطاب. لكن لا، لا شيء. لم يفعل شيئاً لا شيء غير النهوض والأكل والنوم في المواعيد نفسها. هكذا. حتى بلغ الثانية والستين.. حتى أنه لم يتزوج مثل بقية الرجال. لماذا؟ نعم لماذا؟ لم يتزوج كان يمكنه ذلك. فقد كان يملك ثروة لا باس بها . أهي الفرصة التي لم تسنح؟ ربما لكن نحن الذين نخلق الفرص. لقد كان مهملاً. غير مكترث بشيء. هذه الحقيقة. اللامبالاة كانت مرضه الأخطر. نقطة ضعفه. عيبه. كم من الناس يخسرون حياتهم بسبب عدم اكتراثهم من الصعب على بعض الناس أن ينهضوا، أن يتحركوا، أن يتكلموا. من الصعب عليهم أن يبحثوا حتى عن أصغر الأمور .
لم يحبه أحد. أو هكذا تهيأ له. لم تنم امرأة فوق صدره في لحظة حب عميق. لم يعرف متعه القلق في لحظات الانتظار، ولا قشعريرة اليد المضغوطة،  ولا نشوة الوجد المنتصر. أي سعادة سامية تغمر قلبك عندما تلتقي الشفاه للمرة الأولى وتتشابك أربعة سواعد لتصنع مخلوقاً واحداً مغموراً بالسعادة.
كان سافل جالساً وقد وضع قدميه بالقرب من النار ملتحفاً بثوب النوم؛ لقد خسر حياته. نعم أكيد خسرها تماما. ومع ذلك فقد أحبّ حبّا ظل محبوسا مكتوما. أحب بألم وبعدم اكتراث. كما كان يفعل دائما. لقد حبّ صديقته السيدة ساندرز زوجه صاحبه ساندرز. أواه! لو كان عرفها عندما كانت لا تزال فتاة كان بالتأكد سيتزوجها لكنه تعرف عليها بعد فوات الأوان، بعد أن تزوجت. ومع ذلك فقد حبها دون كلل منذ اليوم الأول.  لازال يذكر انفعاله الشديد في كل مرة كان يلتقي بها, وحزنه عندما يفارقها، والليالي التي لم يستطع خلالها النوم لأنه كان يفكر فيها. عندما يستيقظ في الصباح كان ولهه يتناقص دائما لماذا؟ الآن بلغت الثامنة والخمسين. كم كانت جميلة ولطيفة في ذلك العهد كان شعرها الأشقر مجعدا. كانت تحب الضحك. ومع أن ساندرز لم يكن الزوج المناسب لها فقد أصبحت سعيدة ..
آه لو كانت تلك المرأة قد أحبته؟ ومن يدري؟ لماذا لم تكن لتحبه بما أنه كان يحبها؟ ألم تخمن شيئاً؟ ألم تر شيئاً؟ ألم تدرك شيئاً أبداً؟ ماذا يمكن أن تظن لو أنه صارحها؟ ماذا يمكن ردها؟
ظلّ سافل يتساءل عن عددٍ من الأحداث المماثلة في حياته الماضية.. وتوقفت ذاكرته عند السهرات الطويلة التي كان يضيفها في بيت صديقة ساندرز عندما كانت زوجته لا تزال شاب وجذابة. يتذكر أشياء قالتها له، صوتها، ابتسامتها الصامتة الرقيقة والمليئة بالإيحاءات. ويتذكر النزهات التي كان الثلاثة يقومون بها معاً على ضفاف نهر السين، وتناول طعام الغداء فوق العشب في عطلة الأحد، إذ أن ساندرز كان موظفاً في إدارة المأمور…
وفجأة عادت إلى ذاكرته وبوضوح نزهة قام بها مع السيد ساندرز وزوجته في إحدى الغابات الصغيرة الواقعة عند ضفة النهر. كانوا قد رحلوا في الصباح حاملين مؤنهم في صدر صغيرة. كان ذلك اليوم الربيعي مشرقاً. يوم من الأيام التي تجعلنا نشعر بالنشوة: كل شيء يفوح بالعطر. كل شيء يبدو سعيدا، الطيور أكثر مرحا ورفرفة أجنحتها أسرع.
في ذلك اليوم، أكل سافال والسيد والسيدة ساندرز فوق العشب. في ظل شجرة صفصاف، بالقرب من بركة ماء غمرتها الشمس بأشعتها. وكان الهواء دافئاً مفعماً بأريج الندى الذي يجعل المرء يشعر بالثمالة عند استنشاقه. كم كان الجو صحواً ذلك اليوم
بعد الغداء، تمدد ساندرز  فوق العشب. ونام “أفضل نوم في حياتي!” قال لهما عندما أيقظاه قبيل الغروب. أما سافال فقد أمسك بذراع السيدة ساندرز وسارا معاً بمحاذاة النهر. وكانت هي تستند به وتضحك قائلة: “إني أشعر بالثمالة، يا صديقي، أني منتشية”. وكان هو ينظر إليها بهلع شديد، فقد امتقع وجهه من شدة خوفه أن تشعر السيدة ساندرز بالحرج من جرأة نظراته إليها. كان يخشى أيضا أن تتبين السيدة ساندرز رعشة يديه، وتكتشف حقيقة مشاعره.
فجأة سألته السيدة ساندرز وقد وضعت فوق رأسها تاجا من العشب وأزهار الزنبق المائية قائلة: “هل تحبني هكذا؟”. وعندما رأته لم يرد عليها لأنه لم يجد شيئاً يقوله لها، أخذت تضحك باستياء، ثم قالت بعنف: “إذن، فلنتحدث على الأقل أيها الأبله!” حينئذ كاد أن يبكي دون أن يجد كلمة واحدة يقولها.
عادت كل هذه الإحداث إلى ذاكرته الآن، بكل تفاصيلها الدقيقة كأنها وقعت اليوم. لماذا قالت لهك إذن فلنتحدث على الأقل أيها الأبله! وتذكر كيف كانت تستند إليه برقة وحنان؟ وفي لحظة مرورها تحت إحدى الأشجار المنحنية حس بأذانها تلامس وجنته، فتراجع هو بسرعة خشية أن تظن أنه قد تعمد هذا الاحتكاك. وعندما قال لها:  ألم يحن الوقت للعودة بعد؟ رمقته بنظرة غريبة. لم يدرك ذلك حينذاك. وهاهو الآن يتذكر كل شيء.  “كما تشاء يا عزيزي أن كنت متعباً فلنعد”. قالتها ببرود. ورد عليها: ليس بسبب التعب، لكن ربما يكون ساندرز قد استيقظ. فقالت وهي تهز أكتافها: “أوه إذا كانت تخشى أن يستيقظ زوجي فهذا شيء آخر! فلنعد”.
في طريق العودة ظلت صامتة، ولم تتكئ على ذراعه. لماذا لم يحاول من قبل أن يجد جوابا لهذا السؤال. أما الآن فيبدو أنه قد وجد شيئاً لم يكتشفه من قبل:
-هل….؟ شعر سافل بالدم يتدفق في شرايينه وأحمر وجهه، فنهض منفعلاً كما لو أنه عاد حقا ثلاثين عاماً إلى الوراء، وكأنه يسمع ساندرز تقول له: أحبك
هل كان هذا ممكناً؟… أخذ الشك يتسلل إلى كيانه، وما أنفك يعذبه. هل يمكن أنه لم ير شيئاً؟ لم يخمن؟ أوه لو هذا كان صحيحاً! لو أنه اقترب من السعادة دون أن يمسك بها! وقال لنفسه: أريد أن أعرف. لن أستطيع أن أعيش مع هذا الشك. أريد أن أعرف. وهرع يضع ملابسه وهو يفكر: عمري اثنتان وستون سنة وعمرها ثمان وخمسون سنة يمكنني أن أسالها عن هذا الأمر دون خجل وحرج.
ويقع منزل ساندرز في الطرف الأخر من الشارع أمام بيته تقريباً. و عندما طرق الباب فتحت له خادمة صغيرة مندهشة لمجيئه مبكراً. قائلة له:
–         أنت؟ في هذه الساعة؟ هل وقع حادث يا سيد سافال؟
–         لا بابنتي. رد عليها وأضاف: اذهبي واخبري سيدتك أنني أريد مقابلتها حالاً.
–         وفي الحقيقية سيدتي في المطبخ تحضر مؤنه الشتاء من مربي الخوخ. وهي لم تلبس بعد لعلك تفهم ذلك.
–         نعم لكن قولي لها أني جئت لأمر مهم جداً.
بعد أن غابت الخادمة شرع سافل يذرع قاعة الاستقبال بخطوات واسعة مضطربة. لن يشعر بالخجل هذه المرة. سيطرح عليها السؤال كما لو كان سيطلب منها وصفة طعام. لا داعي للخجل ما دام عمره قد تجاوز الثانية والستين. انفتح الباب وبرزت السيدة ساندرز. أنها الآن امرأة بدينة وعريضة ومدورة وجنتاها مكورتان وضحكتها رنانة تمشي ويداها بعيدتان عن جسمها، فقد كانتا ملطختين بمعجون السكر.
سألته بقلق: “ماذا جرى لك يا صديقي أنت لست مريضاً؟”
–         لا يا عزيزتي. ورد قائلاً ، لكني أود أن أسالك عن أمر مهم جداً بالنسبة لي، فهو يعذبني ويثقل خاطري هل تعديني بأن تجيبيني بصراحة؟
–         أني دائما صريحة. ردت مبتسمة.
–         لقد أحببتك منذ أول يوم رأيتك فيه.  ألم يساورك شك في ذلك؟
ردت عليه وهي تضحك وفي صوتها شيء من نبرة الماضي: أيها الأبله، لقد أدركت ذلك منذ اليوم الأول.
بدأ سافل يرتعش، وقال هامساً:
–         كنت تعرفين إذن؟ وسكت
 فسألته: أذن ماذا؟
–         إذن؟ ماذا كنت تعتقدين؟ ماذا كنت ستقولين؟
ضحكت مرة أخرى وبصوت مرتفع بينما كانت قطرات السكر السائل تتساقط من أصابع يديها فوق الأرضية الخشبية. ثم قالت؟
-أنا؟ لكنك لم تطلب شيئاً مني؟ ولم يكن من اللائق أن أصارحك بشيء.
عندئذ تقدم سافل نحوها خطوة وقال:
قولي لي؟ اخبريني؟ أتذكرين ذلك اليوم عندما نام ساندرز فوق العشب بعد أن تناولنا الغذاء … وذهبنا نحن الاثنان حتى المنعطف هناك.
وانتظر. كانت هي قد توقفت عن الضحك وأخذت تنظر في عينيه وقالت: “
–         بالتأكد أتذكر كل هذا.
فاستطرد بانفعال: “… حسنا! ذلك اليوم، لو كنت لو كنت جرئيا ماذا كنت ستفعلين؟”
ابتسمت السيدة ساندرز وقد بدت كامرأة سعيدة لم تندم أبدا على شيء. وردّت بصوت صاف يكشف عن الصراحة وقدر من السخرية:
–         كنت سأعطيك ما تشاء يا صديقي
ثم أعطت سافال ظهرها وذهبت إلى مرباها. أما سافال فقد خرج إلى الشارع مرعوباً كما لو أنه قد شاهد كارثة طبيعية. وسار مهرولاً تحت المطر في خط مستقيم باتجاه النهر دون أن يفكر أين هو ذاهب.  وعندما وصل إلى الضفة اتجه إلى اليمين بمحاذاة النهر مشى طويلاً كما لو أنه مدفوع بغريزة ما في ما في داخله. كانت ثيابه تسبح في المياه التي تنهمر من على قبعته المشوهة اللينة كأنها من على سطح أحد البيوت.
وأستمر سافال يسير إلى الأمام حتى لقي نفسه في المكان نفسه الذي تناولوا فيه طعام الغذاء في ذلك اليوم البعيد. لقد قلبت ذاكره كيانه وأخذت تعذبه أكثر وأكثر. وعندئذ جلس تحت الأشجار العارية. وبكى.