يتقمص (هرمس) في ديوانه (كلاشنكوفي الحبيب) الصادر عن دار (شرقيات)
روح شبح خلقه التجرد من المفاهيم .. يتحرك هذا الشبح فيما يشبه التناثر بين ذاكرة
المفاهيم المنزوعة، وبين الحالة الشبحية المواجهة ـ المنطوية على استشرافات بداهة
ـ والتي تحوّل إليها العالم مع تفحص تلك الروح للمرئيات المتشابكة .. بدت هذه
المشاهد المرصودة كاحتمالات طائشة .. مبتورة .. تحاول أن تستجيب لرمزيتها لكنها
تدرك أنها لا يجب أن تفعل .. هي تخبو بمجرد ظهورها .. مبكراً ، وربما مبكراً جداً
ولكنها حتمية التلاحق الفوري للحضور والغياب التي لا تليق بشبح وحسب، وإنما التي
تناسب أيضاً محاولات تأويل الكينونة فيما بعد التخلص من المفاهيم.
الذين تحولوا لقرود ارتاحوا
من خطوة الحضارة
والذين تحولوا لضباع ضحكوا كثيراً
تحول كل منهم لحيوان
كنا يائسين تمامًا من بشريتنا
تحولوا وودعتهم وظللت هنا
أسمع أخبارهم وأشيخ.
إذا كان تحوّل البشر إلى حيوانات ـ وهو خلق مجازي متجذر في الذاكرة ـ
ناجماً عن اليأس؛ فإنه سيكون دافعاً قوياً بالتأكيد للاستفهام عن الكائن الذي
ودعهم وظل هنا بما يعني انفصاله عن هذا التحوّل .. ما هي الذات التي بقيت لتسمع أخبار
الذين تحولوا إلى حيوانات وتشيخ، ولماذا؟ .. هل هو ذلك الكائن الذي لم يصل يأسه
إلى (الموت) أي إلى مستوى القهر البالغ، اللازم للخروج من بشريته؟، أم أنه ذلك
الذي تجاوز يأسه حتى إمكانية الرهان على الخروج؟ .. ربما كانت المقامرة تتمركز حول
ضرورة أخرى تتمثل في تكوين سيرة ما لذلك التحوّل .. ذاكرة مضادة للحالة البشرية،
توثّق الطبائع التي أنتجها الوجود ـ ربما بعد الموت ـ في حضورها الحيواني .. لكنها
في جميع الأحوال سيرة قائمة على السماع، أي أن تفاصيلها ستظل محكومة بالذاكرة التي
تشيخ، أو ربما بشكل أدق تساهم تلك التفاصيل في بناء شيخوختها .. هي إذن احتمالات
أكثر من كونها تفاصيل يجب أن تُنحت في بناء صلب .. هواجس تناسب الموتى الذين حلت أرواحهم
في حيوانات، أو أولئك الذين تكفلت الذات التي ودعتهم وظلت هنا بتحويلهم وهم
لازالوا على قيد الحياة .. عناصر إيحائية تنسج مغامراتها في وعي الكائن الذي ربما
لم يكن بشراً أصلاً حتى يتحول مثلهم، أو الذي لم تغادر بشريته نحو الموت ليشاركهم
التحوّل .. قد يكون شبحاً يستند إلى عتمة ما بين الحياة والموت ـ يستطيع أن يكون
هكذا وهو لا يزال حاضراً في العالم بكامل واقعيته الإنسانية، وكذلك بينما يكون
متوارياً كمصير غامض داخل الموت .. الشبح الذي يلعب بطقوس خفية، ويراقب دون حاجة
لأن يرى، ويسمع أخبار الظلام الذي قاده ـ بمشيئة شبحية ـ نحو صوغ الأجساد الميتة،
أو التي مازالت حية لإعادة تمثيل الألم على نحو ناصع.
في شارع فؤاد المتصالب على الجحيم أو شارع الجلاء
أتناول الإفطار وأتحدث عن التخلي عن المفهمة التقليدية وأحوال الوعي.
أمشي إلى مكتبة مارًا ببولاق أبو العلا،
أتحاشى وأستقبل الأكتاف والعيون.
ما سرق أرواح هؤلاء،
هو بالتأكيد ما أغلق نادي أنس الوجود
هو ما سرق البلح من الوكالة
هو ما يدورني كالدمية بين السقاة.
يضع (هرمس) هنا ألوان اليومي في تضاداتها (التخلي عن المفهمة
التقليدية) مقابل (تحاشي واستقبال الأكتاف والعيون) .. (أحوال الوعي) في مقابل
(سرقة الأرواح) .. لكنه ليس تنافراً خالصاً بل يمكن القول أنه تجسيد لتناغم مختلف
.. نوع من تنظيم الصراع بين الاستبعاد غير المنقذ للأطر، والخضوع الحتمي لمطارادات
الشوارع التي قررتها النمطية .. ترتيب خاص بين الانسجام مع التجليات الجمالية
الناشئة عن تحرير الذهن من المصائد، والفقد كهيمنة قدرية ترتجل شروطها .. إن هذا
التناغم لا ينطوي على براءة كتلك التي تبدو ظاهرياً، بل يمكن الشعور بفكرة التنازل
عن إمكانية العثور على ماوراء (التخلي عن المفهمة التقليدية) لصالح الوحشة ـ مهما
كان الإحساس بها كفائض قاصر ومبتذل يعادل (الغربة) مثلاً ـ باعتبارها فضاءً عاماً
.. يمكن ملامسة طيف لتهكم مستتر، يستبعد الثقة في الأغراض الممكنة لـ (أحوال
الوعي) أمام الإيمان بإبادة طاغية، تتولى أسرارها الحفاظ على بقاء الحواس منتمية
إلى (دمية تدور بين السقاة).
لو أن رجلاً حوى في قلبه جحيمًا كاملة
ألن يبيع الكون كله لو سنحت له الفرصة؟ يقول.
ثم يتحسس مسدسه ناظراً في عيون من حوله
يراه الجميع لآخر مرة في أمكنة عديدة
تُروى عنه أساطير: سَبَح له السمك في الهواء. كان يخرج من النهر
والماء يغلي على جسده الأحمر.
قتل رجلاً بنظرة.
لكنهم لن يقولوا أبدًا أن أمرًا ما كان يأكله عميقا
أنه فقد شيئًا عزيزا. أنه ساقط كالآخرين. أنه احتضر ببطءٍ وحيدًا فوق
سطح إحدى بنايات وسط المدينة.
هناك قابلية لاستدعاء علاقة التوتر بين التعارضات عند (دريدا)، والتي
تضمنتها نظريته عن (المكمّل) باعتباره نصاً أو عنصراً يضاف إلى آخر أو يعتبر
ثانوياً بالنسبة له، ويعتبر الآخر بنية أو نظاماً نصياً أكثر اكتمالاً .. في
(نظرية الأدب المعاصر وقراءة الشعر) لـ (ديفيد بشبندر) ـ ترجمة: (عبد المقصود عبد الكريم)
سيتم تلخيص الأمر على هذا النحو: (إذا كانت الإضافة إلى البنية ممكنة فلا يمكن أن
تكون البنية كاملة، وإذا كانت إضافة المكمّل ممكنة فلا يمكن أن يكون المكمّل
ثانوياً تماماً) .. عند (هرمس) وتحديداً في المقطع السابق سنجد مكمّلاً محجوباً
لما يبدو أنه تحديد أساسي وهو الأسطورة .. هذا المكمّل هو ما يقترحه النص كحقيقة
مقموعة تعارض الإعجاز المعلن .. ما لا يعد ثانوياً إذن هو ذلك الذي يأكل في العمق،
فقد العزيز، السقوط، الاحتضار البطيء داخل الوحدة .. لا تنبعث الأسطورة من أوهام
متخيلة، توحدها الرغبة الجماعية في امتلاك يقين زائف عن ذات خارقة، بل يروق لي
تشريحها كقراءة مسالمة لرغبة مؤجلة في التدمير، تعطي الذات إشارات وجودها طوال
الوقت .. إن الأساطير قد تكون تأويلاً هزلياً للجحيم الذي في القلب .. فهماً فكاهياً
لبيع الكون .. قد تكون تفسيراً غيبياً سهلاً للمسدس الذي يتم تحسسه أثناء النظر في
العيون .. ربما كان الجميع يعرف أن المعجزات المختلقة أكثر قدرة على استحضار الطمأنينة
من ذلك الظلام الذي يمنع من التعرف على النية المرجأة في القتل، والتي يختزنها
الكائن المحتضر .. لكن الرغبة المؤجلة في التدمير ـ الذي يُمارس شعرياً بصورة
تعويضية ـ قد تكون مكمّلاً محتجزاً لمتن غائب ينتظر التخلص من الأسطورة حتى يمكن
للذات أن تحضر بما كانت متجردة منه في أبصار الآخرين .. الانتظار يبدو شاقاً إذن، وهذا لا يفسر تحوّل
الذات إلى شبح ـ يستطيع الرماية والفتك باللغة ـ في قصائد الديوان وحسب، بل ربما
أيضاً يقودنا للحصول على المنطق الذي شيّد وصف (الكلاشنكوف) بـ (الحبيب).
أخبار الأدب
3 ـ 10 ـ 2015