إلى (ميمي الابيض)
قضى عمره داخل السينما القديمة يشاهد الحياة فوق شاشتها الهائلة،
ويضيء مسارات متناثرة داخل ظلامها بالكشّاف الصغير ليرشد المتفرجين إلى الكراسي
الخالية .. لم يكن عمراً مكتمل السعادة بالتأكيد! .. لكن على الأقل كان لديه شعور
ثابت بالسرور الخفي فيما وراء القلق والكآبة والملل .. لذة الانفصال عن العوالم
المختلفة التي تتعاقب أمام عينيه فوق الشاشة الهائلة .. كان يشعر دائماً
بالاطمئنان لكونه يختلف عن كل هؤلاء البشر الذين يدخلون السينما القديمة كل يوم، ويسترشدون
بالضوء الخافت للكشّاف الصغير الذي يحمله، حتى يصلوا إلى مقاعد البهجة والألم ..
الذين يغيبون في صور عديدة من ذواتهم، أو داخل تخيلات متعددة لأنماط مغايرة من
الحياة .. كان محصناُ ضد إغراء التقمّص الذهني للشخصيات التي لم يتعطل تتابعها
طوال سنوات الماضي داخل الأفلام، فضلاً عن كونه لم يصادف طوال عمره كائنً يشبهه
داخل تلك التنويعات التمثيلية التي تتوالى في الظلام .. كان في ذلك امتيازاً
منطقياً أدرك منذ زمن أنه جدير به .. كأنه توصل مع مرور الوقت إلى الحكمة الجوهرية
لوظيفته التي تقتضي أن يكون دليلاً إلى العالم لا أن يكون موضوعاُ له .. أن يساعد
القادمين لمشاهدة الحياة على المرور إلى حكاياتهم المرئية دون تورط في علاقة مع
أحداثها .. كان يؤمن أن لإجادة العمل في هذه المهنة مكافأة روحية تتلخص في اليقين
الذي سيحصل عليه بعد سنوات الخبرة بأنه لا أحد سيتمكن من رؤيته فوق الشاشة الهائلة
بأي شكل.
بعد أن هُدمت دار العرض القديمة، كان عليه دون شك أن يبحث عن واحدة
أخرى، لكنه فشل في العثور على تلك السينما التي لا يمكن أن تستمر حياته بدونها ..
لم يكن بمقدوره أن يمتهن وظيفة أخرى تُشعره بأنه أحد موضوعات العالم المتاحة
للمراقبة .. مر وقت طويل دون أن تضعف رغبته في استرداد العمل الذي أُجبر على تركه،
حتى بعد أن تحوّلت أيامه إلى عذاب متصاعد .. لم يكن هناك أكثر قسوة بالنسبة إليه
من اليقين بكونه مرئياً .. وصل به الألم لدرجة أنه كلما صادف أرضاً خالية، تتحلى
بقدر من الاتساع إلا ويضيف بصره إليها فوراً الحوائط والسقف والمقاعد والشاشة
الهائلة والظلام، ثم يرى جسده يتحرك أمام خلفية من أصوات الفيلم ممسكاً بالكشّاف
الصغير .. كانت السينما بمثابة تعويض مستقر، باستطاعته العودة إليه دائماً كي
يتخلص من الجروح التي تسبب فيها وجوده خارجها، أي في الأوقات التي كان خلالها جزءا
من الحياة التي يُمكن مشاهدتها .. كأن اليأس قد وصل بروحه إلى المدى الذي لم يعد
بوسعه أن يتحمّل العالم مع شراسته؛ أصبح يمشي في الشوارع، خافياً وجهه بقناع أسود
كأنه الظلام، وممسكاً بالكشّاف الصغير ـ حتى خلال النهار ـ الذي ينبعث منه ضوء
خافت، ويحرّكه بين أقدام الناس، مشيراً بيده الأخرى في نفس الوقت إلى اتجاهات
بعيدة كأنه يقود خطواتهم إلى حيث ما لا يمكن أن يصل أحد.