السبت، 31 ديسمبر 2022

"مألوف": الكائن مدموغًا بسرِّه

في ورقتي البحثية "اختصارات حول الفانتازيا" والخاصة بالمائدة المستديرة التي عُقدت تحت عنوان "الرواية والفانتازيا" بملتقى القاهرة للرواية العربية 2015 كانت هذه السطور:

"إذا كان الوعي بالغرابة في مقابل المألوف يمثل استجابة تلقائية لا يمكن تفاديها فعلى تلك الاستجابة أن تكون بداية التعارف وليس نهايته .. أتحدث عن مهمة النقد في الخروج بالعجائبي من الرواية إلى الوجود، أي تعيين غير الممكن ـ بحسب الظن السائد ـ في قلب الممكن المفهوم وليس مجرد الاكتفاء بلذة الوقوف عند ما تم الاعتياد على تسميته بـ (العوالم الموازية) .. أفكاري هنا لا تقصد المقارنة أو الاستبدال أو الإحالة إذ لا يزال كل ذلك خاضعاً لسلطة التنميط والفرز، وإنما أقصد إعطاء الفانتازي ثقل الحتمية، وإلزام المنطق، وسطوة القانون؛ فالغرائبية ـ وهو ما يفترض في تصوري أن يتكفل به جهد جوهري في عمل الناقد ـ يجب الكشف عن كونها ليست انصرافاً عن الواقع بل هدم لما يُعتقد أنها حدود له تحافظ على بقائه كمجرد (واقع)".

أعتقد أن مجموعة الكاتبة ابتهال الشايب الصادرة عن دار النسيم بما تختبره قصصها القصيرة، وبالعنوان الذي تحمله هذه المجموعة "مألوف"؛ أعتقد أنها تقع تمامًا في ما تطارده هذه السطور .. إنها تقدم سرديًا ما يشير إليه هذا التحريض النقدي .. الوعي بالغرابة لا يعني انسحابًا لذلك الذي لا يمكن تمييز حدوده بمسمى "الواقع".  

("الكتابة وسيلة لإثبات أن الإنسان غير موجود بشكل كامل"

إحدى الجُمل التي كتبها الشخص غير المرئي في دفتره .. الذي وُجد بداخل منزله مُغطى ببعض قطرات البول، وكلمتين طيبتين، وابتسامة واحدة لطيفة).

في قصة "خارج" ثمة نفاية مستبعدة من الوجود (دليلها الكتابة) .. نفاية بألف لام التعريف "الشخص غير المرئي" وليس "شخص غير مرئي" أي أنه في تجاوز أزلي لفرديته "هو / نحن"، خاضع لصيرورة الاختفاء باعتباره "الإنسان"، ومن ثمّ فإن الكتابة خاضعة بالضرورة للتخطي / التغير والاستبدال .. غير المرئي (محتجب داخل جسده / محتجب داخل السر الذي يسبق جسده ويمتد بعد فنائه)، ولكن المرئي: "قطرات البول ـ كلمتين طيبتين ـ ابتسامة واحدة لطيفة" ما يتحتم أن يُطبع كهوية للجسد بوصفه شيئًا "رديئًا، مضحكًا، ومثيرًا للشفقة" في العالم، وهو ما قد يستدعي الاستعمال الشبقي للبول والغائط عند جورج باتاي وتشاك بولانيك مثلًا  ... الشخص لا يؤكد حضوره "احتجابه داخل جسده" إلا بالجُمل المكتوبة في الدفتر وقطرات البول والكلمتين الطيبتين والابتسامة الواحدة اللطيفة .. الدلائل التي تصلح لأن تكون كل منها محل الأخرى / تنويعات على "نفاية من الغياب" .. الدفتر يجعل الجسد "برهان الغياب" .. نفاية تعرض تناغمها مع كونها نفاية، وبما يستدعي شعورًا بالثأر التهكمي لكونها نفاية، تكتب في دفتر "تشير إلى أنها أثر لعدم الوجود" .. نفاية في حالة امتزاج مع بصمتها المتحوّلة (الشخص والدفتر يصيران شيئًا واحدًا وفقًا لقابلية التفاصيل أن تشملهما عند مقاربتها حرفيًا ومجازيًا معًا"، مهانة مسالمة بشيء من الحميمية الساخرة  .. الإيجاد هنا إعلان لنهاية ما "لم يحدث في لحظة سابقة وإنما عند اكتمال محكم لـ "اختفاء" بين الجسد وسرِّه / بين الحاجز والمحتجب .. الإيجاد إعلان لإفاقة عابرة تجاه الموت .. الموت هو الذي وجد "الدفتر / الشخص غير المرئي"، وذلك عبر الموتى الذين كان موتهم يمر من خلال "لا مرئيته" قبل تتعيّن "الحياة / حياته التي لم تكن" أمام عمائهم  .. إثبات ما كان موجودًا "شكليًا"، ولم يكن منتبهًا إليه قبل لحظة العثور على دليل حضوره المتبدد .. إيجاد الحياة لا يتم إذن إلا بالموت، إيجاد غيابها.

"قرأت في إحدى الصحف التي اشتريها كي أضع عليها الطعام .. إن عددًا من الأشخاص باتوا لا يعرفون ما يقولونه أو يفكرون فيه أو يتبرزونه، يجهلون ماهية العرق، البلغم، المخاط، الدم، الدموع، والبول"

الدفتر / دليل الاستبعاد / الاحتجاب يصبح هو الحياة، لا شيء يحدث خارجه، النص المتناثر الذي تتبدل شخصياته وأحداثه بحسب الاستعمال اللغوي للغائب داخل جسده .. الغائب داخل السر الذائب في الكلام، البراز، العرق، البلغم، المخاط، الدم، الدموع، والبول، أي في ما لا يمكن التعبير عن "الكينونة" إلا بواسطته .. ما لم يسمح "الحضور" المقصي بالإشارة إليه إلا من خلال " فضلات الداخل" .. ثمة اتساق أنطولوجي "جمالي" هنا في اعتبار "الكلام" و"الدم" كذلك .. ما يفرزه السر كـ "ناتج كريه" زائد عن الحاجة .. كاستجابة لرجاء كشف غيبيته .. الفضلات التي حين أخذت موضع الكينونة صارت هي نفسها هذه الكينونة، أي أصبحت الكائن مدموغًا بسرِّه .. التي حين تتجسد في "الخارج" لا تتحوّل من "سر" إلى "نوع من المعرفة" وإنما تظل "فضلات" .. لا يتحقق الجسد إذن "يثبت وجوده" إلا بقدر امتهانه العفوي للذات المستبعدة .. الذات المحتجبة التي لا تعدو ـ كتصوّر للخلاص / احتياج عادل لاسترداد النجاة ـ سوى أن تكون محض قذارة فائضة عن ذلك الجسد، أي فائضة عن الموت.

 "علمت من صديق لي أن أحد أقربائه ذات يوم هبّ من مكانه فجأة وكأن شيئًا وخزه، ثم أخذ يصيح في منزله بصوت عالٍ، ويستنجد وهو يرتجف من شدة  الرعب، قال لزوجته وأولاده وهو يصرخ.. إن أصابع بشرية على هيئة أسياخ، تبرز من كل مكان حوله، تقترب منه لتنغرز في جسده، حتى بدأ يختفي تدريجيًا وهو يحاول أن يُريها لهم، كان يشير بيديه إلى الفراغ".

الفضلات لا يتم التخلص منها .. تتحوّل إلى أصابع بشرية مسنونة / أسياخ تبرز في الفراغ، من جميع الثقوب، كأنها تكافح بعنف الإخفاق أن تعاقب "الشخص" الذي توقع لها أن تكشف عن ما هو محتجب حين كانت بـ "الداخل" .. كأن "الأفكار" في "الداخل" حين أصبحت "كلامًا" في "الخارج" تحتم عليها ألا تكون زائدة عن الحاجة فحسب بل المقابل "التنكيلي" للاستبعاد .. دفتر الغائب هو ما يوثق ذلك التحوّل للفضلات إلى أشباح طاعنة في هيئة أصابع .. دفتر الغائب هو ما تُفصِح داخل صفحاته الكينونة التعذيبية عن نفسها .. الفضلات إذن هي (نحن) كرجاءات محطمة، عارية، حسرات ساطعة، النهايات الواضحة التي تحنطت أرواحنا داخلها من قبل أن تولد .. الأصابع هي الكلمات التي دائمًا ما تكوّن الجملة ذاتها "الكتابة وسيلة لإثبات أن الإنسان غير موجود بشكل كامل"، وما التفاوت بين الأصابع إلا تفاوتًا بين صياغاتها، نبراتها، الغايات الكامنة في تشكيلاتها .. هو دفتر للموت إذن من حيث أراد أن يكون سجلًا للحياة.

”تكوّنت بعض الشقوق على جسدي، ارتدتني الحوائط منذ زمن، بدأ النمل يغزوها، ويرسم شقوقًا منحرفة، تلتصق الأحجار بالأرضية فتصير خشنة قليلًا وغير مستوية، الورشة أشبه بكهف مظلم يُضاء من وقت لآخر بألسنة اللهب المنطلقة من آلات اللحام، مقاعد خشبية ذات مسامير بارزة. تنظر الماكينة في إمعان، يعتز بها صاحب العمل كثيرًا، لم يهتم بالمبلغ الكبير الذي اشتراه بها، يستخدمها بحرص ويصطحبها معه إلى كل مكان خوفَ أن تُسرق .. أو أن يُسيء أحد استخدامها".

هل الموجودات المحيطة بالماكينة هي التي تدوّن سيرتها من خلال حديث كل موجود عن نفسه في قصة "لا شعوري"، أم أن الماكينة هي التي تستنطق هذه الموجودات بصورة خفية لتكتشف نفسها عبر وعي كل موجود منها بذاته؟ .. لكن الموجودات لا تدوّن سوى ظاهر الماكينة، سطح طبيعتها الذي لا يضيء باطنها .. ما هو منذور دائمًا للمحو .. إلى أي شيء ينتمي هذا العجز عن الوصول إلى الجوهر؟ .. الماكينة أم الموجودات؟ .. كأنهم جميعًا يقولون "نحن لا نعرف سوى ما تبدو عليه وحسب" .. كأنهم يقولون أيضًا "ما تبدو عليه يجعل ما نعرفه عن أنفسنا ليس كافيًا أبدًا" .. إن الموجودات تدوّن عدم قدرة الماكينة على أن تتحدث عن ذاتها بقدر إدراك كل موجود ذلك عن نفسه .. غفلة متبادلة .. هل يذكرنا هذا بشيء عن اللغة؟ .. عن إنتاج اللغة لأجسادنا؟ .. عن تكوين ما تصمت عنه اللغة لأجسادنا؟ .. أي جسد؟ .. ليس فقط ذلك الذي يمكننا لمسه / رؤيته / التنقل به من مكان لآخر، وإنما ـ على نحو أعمق ـ ذلك الذي نحاول الانفلات من إكراهاته الكبتية المبهمة.

"يسخرون من الحقيقة، يُضحكني ذلك، أمر يدعو حقًا للسخرية، أضحك ضحكات عالية، أتنقل بين المكاتب لأرى من يضحك مثلي؟ من لديه استعداد؟ أنظر بعيدًا إلى نافذة غرفة الاجتماعات لعلني أجد شخصًا يضحك، ما يزال هناك بعض زملائي الذين أدخلوا رؤوسهم في المشانق والمعلقين فيها ثابتين، يعجبني ثباتهم .. كم هم أقوياء ليظلوا هكذا منذ أن وضعت المشانق لهم. الضحكة شيء وقتي، أتركها وأتجه إلى جوارهم".

في قصة "مألوف" لا نبصر ذلك المعرّف بالعجيب / "غير الممكن" دالًا / منفصلًا عن الوجود، وإنما ما يجدر فهمه كتمثيل غريزي للمنطق .. تجسيد عفوي وبديهي لـ "واقع"، مرئي بطريقته، ملموس كما يقتضي حاله، موثق خارج العماء المسيّج بتخوم استعبادية قاصرة .. "ألبير كامو" يبدو راويًا لهذه القصة: الشقاء السيزيفي أو الانتحار .. "المألوف" ـ مشتملًا ما يتجاوز قناعاتنا الحسية ـ الروتيني والعبثي أو إنهاء الحياة .. الصوت في القصة أشبه بإشارات متباينة النبرات إلى هذه "الحقيقة" .. "أمواج عالية" في مواجهة البطء / الرتابة .. لكن الصوت يشير بالضرورة ـ وفي المقام الأول ـ إلى نفسه .. إلى الوعي بالمأساة كتمرد على الشقاء والانتحار .. الانتباه "ولو مؤقتًا، متدثرًا بالضحكات" ـ في حد ذاته ـ و بالطبع مازال كامو برفقتنا ـ إلى التوحد بـ "المرارة" ومراوغة العزاء .. اليقظة ـ كسبيل للمقاومة لا الحماية ـ إلى اللعنة الأزلية: إما أن تستمر في حمل الصخرة المتدحرجة من الجبل أو أن تُدفن تحتها .. الصوت هو دفتر الشخص غير المرئي في قصة "خارج".

"يغرق لون جسدي في السواد. تتحرك الأشياء على رأسي وتتخبط معًا، أين هو الآن؟ بلطف يوجهون عيونهم بعيدًا .. كي لا يبدو أنهم غير قادرين على تحمّل رائحتي. تركني هكذا دون سبب، لم أقم بإزعاجه قط .. لأنني لا أعرفه في الأساس، ولا أعرف كيف هو شكله أو ملمسه أو رائحته، بالتأكيد له رائحة .. ورائحة مميزة، يجب أن أسألهم لأتأكد".

في قصة "احمرار" ثمة "حدوث" فعلي لما يمكن تسميته بـ "حياة الباطن" .. الحياة التي ليست في حاجة للدفاع عن "حقيقيتها"، أو الاستجابة للمطالبات "العقلانية" بتقديم حجج مشبعة لبصائر معطلة .. حياة تسرد ما يهيمن علي محاولاتها لرصد / تشريح "الجسد" أي صياغتها كنظام غير منضبط من "العفن"، "السواد"، "الشروخ"، "الخدر"، "الألم" .. ثمة معيار للسرد يرتبط بذكرى "الجرح" كموضع منفلت للمعاناة .. الأثر الذي يتركه الجرح في الماضي "البتر مثلًا" لا يبقى ملتصقًا بمصدره .. يشيع في الجسد كاملًا دون قدرة على تحديد مكانه .. "كلية الألم" تظهر كأنها في حالة نفي له .. كأنها تعمل بطريقة تناقض الشعور به؛ الألم الشامل يحررك من الخضوع لشروطه .. لكن هذا "التحرر" هو إثبات لـ "جثة" كل ما في الأمر أن ما "يؤلمها" ليس مرهونًا بما هو منتظر .. أنها تشعر بالألم على نحو آخر .. يؤلمها جهلها بالألم .. أن يديها لا تقبضان إلا على ذلك الخواء .. الحرية هنا تُقارَب بعدم الامتثال إلي يقين للألم .. الحرية التي قد تصلح لأن تكون حلمًا بالبطولة الخارقة في بُعد هازئ بمصدر الألم .. بكل الذين يعيدون إنتاج وتدوير الألم .. الحياة حين تُسرد بطريقة عكسية "التفسير المضاد للعنف أو البلادة الساخرة" فإن الجسد يكشف عن "الحقائق الاستفهامية" الكابوسية الكامنة في كل ما يتصوّر أنها "حقيقة واقعية" مؤكدة ووحيدة.

جريدة "أخبار الأدب" ـ 31 ديسمبر 2022