"لا تضمن الغضب في المسافة / التي يستلزمها الذهاب من هنا إلى التل
وسط المدينة / حيث برج الياقوت. / آخرون غيرك قاموا بالرحلة، والقليل منهم وجد / ما
يثير التعجب ما إن انقضى فعل الوصول. / كلماتك تحمل معاني كثيرة / بمجرد انطلاقها.
احتفظ بقصيدة ساخرة / للجِرار بمجرد أن تنقضي / ستحملها كورقة اعتماد، / قطعة من
الجلي لا تحقق شيئًا. / على طول النهر الصغير حيث وقفنا مرة / هناك أمور جديدة
يجري استيعابها / وكشف أسرارها. هل يهمنا هذا؟ / أم أن الوقت قد حان بالفعل للعودة
إلى الداخل؟ / "على الواجهة البحرية" كان فيلمًا جيدًا. / هل نُنهي
الحديث ههنا؟"
يقوم "جون آشبري" بتخريب السياق بواسطة الإيحاء بدراما تسعى
للاكتمال، أي تقبل التأويل كدلالة مستقرة، لكن القصيدة تقوم على "وهم
المشهدية" أو التكوين "السرابي" لصور تدعي محاولة التجرد من
نقصانها في سبيل إزاحة المشهد كموضوع أو محو الصورة كمعرفة استباقية. نلاحظ هنا أن
آشبري يعيّن ما يشبه شفرة ـ مضادة للبلاغة ـ بين مفردات متقابلة لخلق مسافات
مناقضة بين حضورها والرجاءات العفوية لهذا الحضور: "معاني ـ ساخرة"،
"اعتماد ـ لا تحقق شيئًا"، "استيعابها، كشف أسرارها ـ هل يهمنا
هذا؟". كأن المسافة / الرحلة هي مسار إفساد التناغم بين الخطوات وتوقعاتها
حيث يمكن اكتشاف هذا الانسجام المهشّم في "الداخل" / الأنا
"ككينونة شعرية"، أي حيث تقتل الكلمات وعودها.
"الحياة بأحزانها، الحياة بدموعها. / وأنت تعرف ما يعني ذلك: / السماء
في جارور، / والملابس الداخلية العالم السفلي / على أرضية القمر. / تحت مصابيح
الطوارئ ذعر صغير يتنامى، / منزويًا على نفسه، يدوي / أمام أضواء مركبتك، بتموّج.
/ أنت للتو غدوت صغيرًا جدًا / وليس بوسعي إلا أن أحيطك / بالمنشفة الكتانية التي استبقيناها
لهذا الغرض. / الطبيب أوصى بالراحة. / البقرة الحلوب هي عمل فيه كسب، / غير أن
الريع ليس عظيمًا بما يكفي / لكي تفرحوا أيها الناس / ليست هي الخلود، / هذه
الأشجار الميكانيكية، أشجار الحور. / جيد معرفة أنك لا تفتك بها كلها بنفسك / في
الجهة الأخرى من الشارع يا عزيزي".
مقاربة ما يعادل لطشات هذيانية في هذه القصيدة، تتدفق كحنين أعزل ومشرّد
"ذكريات مفقودة وماض متأرجح من الاستعادات المبتورة والملتبسة"؛ هذه
المقاربة تحيلنا إلى استفهام المتعة الحلمية الناجمة عن تأمل اللغة في هذه الوضعية
من التشذر والتناثر. تكمن هذه المتعة في تخلي اللغة عن خداع التماسك "ثمة حق
في مكان ما يبرر خطاب الصلابة" لكي تسترد منطقها "غير التفسيري" أو
طبيعتها "اللاتبريرية" التي تراوغها وتنكرها طوال الوقت. تشير إلى تلك
الذات المجهولة التي تتجاوز اللغة "العارية من التبجيل" في احتجابها
القهري. الذات التي يومئ لها ويؤكدها الذعر الغاضب نحو السماء، والمشكّل من أحزان
ودموع ووعي انتقامي بالفناء.
"عندما أفكر في الانتهاء من عمل، عندما أفكر في العمل المنجز، يغمرني
حزن عارم، حزن ويا للمفارقة يشبه الفرح. ها وقد وضعت ظروف العمل بعيدًا، فكينونته
تتملكني، مثل قاطن منزل مستأجر. أين أنت الآن، أيها القلب الشريد؟ قد علقت في
مفصل، أو نفثت داخل طبقات الجدار، مثل أسلافك المغمورين وقد مُنحوا أسماءً الآن؟
من الأفضل ألا نسترسل في الكلام عن حالنا، لكن أن نفعل ذلك هو أمر ملهم للغاية.
مثل خوان ملآن بالقناني والفاكهة. كما هي طائرة ورقية على شكل صندوق بالنسبة
لطائرة ورقية. داخل التعثر. الطريق إلى التنفس. الرسم الكاريكاتوري على
السبورة".
ينحاز "جون آشبري" إلى الوخزات المتلاحقة المستندة على نوع من
الطيش. يستعمل المفردات كأشلاء أو شظايا مشيرًا إلى جسد ممزق أو بنية محطمة. الجسد
الذي يكافح لأن يكون بديلًا لوجود محصّن تم تغييبه قسرًا، أو البنية التي تجاهد
لأن تكون تعويضًا عن "كونية مستحيلة". بهذا الاستعمال "التعثر في
الأشلاء أو الشظايا" يمكن التحديق إلى ما أجبرت الفردية أن تكونه: رسم
كاريكاتوري. محض هزل مؤقت. التحديق الذي قد يُسمى ـ بالتهكم اللازم ـ "حرية
معكوسة".
"الغرفة التي دخلتها كانت حلمًا بهذه الغرفة. / حتمًا كل آثار الأقدام
على الأريكة هي لي. / الصورة الشخصية البيضوية / لكلب هي صورتي في عمر مبكر. / شيء
ما يتلألأ، شيء ما قد امحى. / كنا نأكل المعكرونة ظهرًا كل يوم / ما عدا الآحاد،
عندما يستجلب طائر سمان صغير / كيما يقدم إلينا. لماذا أخبرك هذا كله؟ / أنت حتى
لست هنا".
كلمات في صيغة من العراء الرمزي حيث يهدم المعنى نفسه في اللحظة التي تحاول
كل كلمة أن تحيل إلى برهانها الموثق. تنتج فكرًا يعاند الترابط، شبحيًا، مخلخِلًا،
أقرب لموسيقى التفكيك التي تحوّل اليقين إلى دعابة هازئة. يتحوّل العالم إلى إرجاء
جحيمي "لا أحد هنا" كحماية "حتمية" للمطلق. يتجسد الشعر
كتجانس ثأري مع هذا الإرجاء، أي أن الشاعر يوطد دليلًا دامغًا على أن أكاذيب
الحكمة تتجلى ناصعة في بصيرته.
"كما نفذّها بارمجيانينو، اليد اليمنى / أكبر من الرأس، تندفع نحو
الناظر / وتحِيد بسهولة مبتعدة، كما لو أنها تحمي / ما تعلن عنه. بضعة ألواح
زجاجية معشقة، عوارض خشبية قديمة، / فرو، قماش موسلين بطيات عدة، وخاتم من المرجان
/ كلها تتعاضد معًا / في حركة تسند الوجه، الذي يسبح / مقتربًا مبتعدًا مثل اليد /
سوى أنه في سكون".
في قصيدة "صورة ذاتية في مرآة محدبة" التي كتبها جون آشبري عن
لوحة الرسام الإيطالي فرانشيسكو ماتسولا "بارميجيانينو" تُحكى سيرة
التقنية الفنية التي أنتجت اللوحة ودوافعها وبصماتها كممارسة أقرب لفانتازم شعري. التشكيلات
الحسية وأداءات الباطن والحركة التشابكية للنظرة. يرسم "آشبري" اللوحة
مجددًا بالاعتماد على عزل اللغة عن الرغبة المقموعة، المخاتلة من وراء القدر، حيث
الأشياء "ليست هي نفسها".
"السر في الأمر أوضح ما يكون. الخيبة فيها تلذع بالألم. / تجعل الدموع
الساخنة تفيض: لأن الروح ليست روحًا، وليس لها سر، ضئيلة، وتلائم تمامًا /
تجويفها: غرفتها، ولحظة الانتباه خاصتنا. / ذلك هو اللحن وما من كلمات".
الرغبة المقموعة ساطعة في الشكل الكروي للحياة، واليد التي تريد الخروج من
الكرة تحاول القبض على ما خارجها المعتم. تصفية الحساب مع الأسباب المقدسة لنفي
الذات الأصلية "المستحقة للوجود" واستبدالها بألم دون معنى. بروح
"ليست روحًا" لأنها مصنوعة من بلاغة خائبة. اليد تسخر من جُرم التجروء
على "السحر غير العادل" حين تسعى لاختراق مسافاته الطاحنة "كما
تبدو الصورة في المرآة المحدبة"، للانفلات من ديناميكيات القتل، نحو الحماية الإعجازية
المحرمة.
"ذيول الحركة التي تؤرجح الوجه / في مرمى النظر تحت سماوات المساء،
دون معمعة زائفة كزعم بالأصالة. / إنما هي الحياة مكنونة في شكل كرة. يود المرء لو
يخرج يده / من الكرة، لكن امتدادها، وما يحملها، لن يسمحا بذلك".
نظرة "بارمجيانينو" هي الألواح الزجاجية، والعوارض الخشبية،
والفرو، والقماش في قصيدة "آشبري". النظرة المترنحة بشبقية الحسرة،
بموضوع اللذة المفقود داخل ما يكوّن فضاءً "ديستوبيًا" للجسد. بالشفقة تجاه
الماضي الذي تم تضييعه ـ عمدًا ـ في مفارقات العنف والشروط الغامضة للعجز.
"لا تطلب مني الذهاب إلى هناك مرة أخرى / الأبيض موجع جدًا / نسيانه
أفضل / النهر النائم تحدّث إلى الأرض اليقظة / عندما سحبوا الأسلاك أول مرة / عبر
الحقل / استقر الهواء ببطء / على البحيرات / المرآة الزرقاء ظهرت للضوء / حينئذ
خشى أحد ألا تكون / برك الماء درعًا كافيًا / فتستنفد السماء / الضوء انبثق /
الإيماءة السابحة / في النهاية شفق لن يحرس أوراق الشجر / موت لن يجرب الصراخ /
شواطئ سود / ومن أجل ذلك أرسلت بطاقة بريدية سوداء لن تكل سماعك قط / من أجل ذلك
الأرض تناشد البئر. / الأبيض يسري في أخاديدها / النهر ينزلق تحت أحلامنا / غير أن
الأرض تنساب في صمت أكبر".
العالم أقرب إلى مأساة لغوية عند جون آشبري، لذا فهو يضع "الشعر"
في مواجهة الإرادة المتفاخرة للغة. ذلك أيضًا ما قد يجعلنا "نشعر" بأن
قصائد آشبري تحاول التخفف من ثقل متعدد بينما تمثل / تفضح التشوش الذي يحاول
مداراة نفسه وراء أخلاقيات "انتهاكية". التشوش كحاجز غيبي يفصل بين
الصمت "الخارق" وعقابه اللازم. بين التعاسة وسرها "البدائي"
(الذي لا يقع داخل الكلمات).
"ودائمًا في هاجس ابتلائها بظل اندفاعات الخبيثة التي هُيئت واستُنفدت
بالفعل في خواء من الظلمة، مملكة يعرف أن ليس بوسع الأرض تحمّل عناء اجتنابها إذا
تحيّن للدقائق ولكتبة مقدسين بصيحاتهم الضاحكة، المجيء في مساء التدبر وفي الليل
الذي لا علاجًا، ولا طائر أكثر إلزامية، ولا موضوعًا يتقصد شيطان قلبه، بقادر على
التكهن به حتى لو أضيئت بمثابرة الحقائق التي جاء بها واحدة بعد الأخرى، في تلك
الغرفة الصامتة والمتسارعة ظلمتها".
إن النبرة "العدمية" التي تومض في شعر جون آشبري لا تنبع من
"التلغيز" وإنما من تقمص اللغز نفسه. من التوحد بالشر المبهم
"ماهية الوجود" في صوره المقطّعة والمدوّخة والأشبه بدوامات حادة من
فتات أسطوري لفرديات "إلهية" مجهضة، لم يُسمح إلا لنسخ منها، قاصرة،
معطوبة ووحشية بالمرور إلى الفكاهة الأزلية الجامدة "الحياة والموت" حيث
يرعاها المجاز الاستعبادي ويضمن توالدها وتبددها.