“نعم” الأخيرة تركتيها في البيت، متناثرة بين المطبخ وحجرات النوم. بالنسبة لهم؛ أصبحت في غيابك بلا معنى. ربما يتذكرونها الآن، لكنهم بعد قليل سيضطرون لنسيانها بحثًا عن تعويض.
“نعم” الأخيرة بقيت بدونك. معلقة بين الحوائط انتظارًا لصوتك الذي اختفى من هناك، ومع ذلك لم يظهر في الحجرة البعيدة التي تتمددين على سريرها الآن. حجرة لا تحتاج إلى تنظيف أكثر من طرد الذباب المتهافت عبر النافذة الزجاجية المغلقة. لو كنتِ تستطيعين الوقوف لفعلتِ هذا بنفسك. لم تنطقي بكلمة واحدة، كان ذلك يتطلب مقدرة أكبر مما تملكينه. بدلًا من هذا؛ رحتِ ترسمين الكلمة بعينيك الذابلتين فوق عتبة الباب التي يدهسها الأطباء والممرضات دخولًا وخروجًا بشكل متعاقب. هذه المرة لم تستطيعي إكمال “نعم”. ليس لأن الضعف قد أحكم احتلاله لبصرك، وإنما لأنكِ كنتِ تدركين تمامًا ما الذي يعنيه اكتمالها في هذه اللحظة بالتحديد.
هل كنتِ تظنين أن “نعم” ستجعلك تتفادين هذه الوسادة الصغيرة، الملاءة البيضاء، البطانية الخفيفة ذات الخطوط المتقاطعة؟ هل كنتِ تظنين أنها كافية لحمايتك من أي شيء؟ قلتِ “نعم” كثيرًا جدًا، قلتيها كما لم تتفوهي بأي كلمة أخرى، لكن النهار أتى مظلمًا اليوم كما وعدتك كل النهارات المضيئة السابقة على مدار ستين عامًا.
منذ يومين فقط كنتِ تقفين في الشرفة، تنشرين ملابس زوج وابنين حينما اخترق الألم بطنك للمرة الأولى. الألم الذي أعقبه تقيؤ ثم دوار ووهن ثم استلقاء بلا نوم ثم ألم جديد وتقيؤ جديد ثم أتى الطبيب وأمر بنقلك إلى المستشفى. “انسداد في الأمعاء”؛ هكذا أصبح أول أمس أبعد من يوم ميلادك.
قبل العملية الجراحية كانت كل الأشياء مرتّبة في حجرتك. مرتّبة على نحو مقبض. لم تدركي من قبل إلى أي مدى يمكن أن يكون النظام مرعبًا. أصبحتِ تعرفين ذلك الآن فحسب. مجرد معرفة.
بكيتِ كثيرًا. طوال عمرك بكيتِ كثيرًا عدا هذه اللحظات. كل ما فعله المرض بجسدك لم يجعلك تبكين. حتى عندما أخبروكِ بأنكِ ستخضعين لجراحة غير مضمونة بسبب حالتك الصحية والأمراض المزمنة التي تعانين منها؛ لم يجعلك هذا تبكين. حتى لو أتيحت لكِ رؤية الشحوب الذي تضاعف في وجهك خلال يومين ما كنتِ ستبكين. حتى لو علمتِ بأنكِ ستخرجين من غرفة العمليات إلى القبر ما كنتِ ستبكين.
ما الذي كنتِ تحتاجينه إذن خلال تلك الثواني؟ صمت تام؟ ضجيج أقل؟ ضوء أخف؟ ذاكرة فارغة؟
ثمة دعابة رومانسية شائعة تقول إنهم يصنعون ساعات صغيرة للنساء حتى لا ينتبهن إلى تأخر الوقت. لا أحد سيتذكر أنكِ فقدتِ الساعة الملوّنة التي أهداها لكِ أبوكِ في عيد ميلادك العاشر، وأنكِ بعد ضياعها ـ ودون قدرة على تبرير ذلك ـ لم يعد بوسعك ارتداء ساعة أخرى.