كنت أمر بالصدفة أمام مقهى “معروف” وأجدك أحيانًا جالسًا فوق رصيفه المقابل .. دائمًا وحدك، ودائمًا يكون هناك كرسي آخر غير الذي تجلس عليه، تضعه أمامك لتسند ذراعيك إلى ظهره .. لم أعرف هل كان ثمة أصدقاء لك يجلسون في المقهى حينها وتعوّدت أن تنعزل عنهم لبعض الوقت، أم أنك كنت بمفردك في كل مرة .. دائمًا تكون متجهمًا أيضًا، لكنه ليس نوعية التجهم التي تشيع الرهبة في قلوبنا داخل البيت، وإنما كان تجهم الحزن أكثر منه الغضب .. كنت تبدو شخصًا مختلفًا بتلك الاستكانة النقية التي غالبًا ما تقترن بالتعاسة، وقد أخمدت مؤقتًا الانفعالات التدميرية لروحك الناقمة .. كنت تتسم ببراءة غريبة وأنت جالس فوق ذلك الرصيف، وكان على هويتك كشرير في ذاكرتي الصغيرة أن تجعلني أكتشف عدم تماثلها مع أنماط المسالمة لدى الآخرين .. كأنك كنت ملاكًا استثنائيًا لابد أن تحرق نيرانه العمياء الطريق الفاصل بين المنزل رقم 54 في شارع محمد فريد، ومقهى “معروف” بالسكة الجديدة لكي ينفرد بآلامه في وداعة طفولية لا تشبه الانكسارات الصافية المألوفة لأصحاب القلوب البيضاء، المغلوبين على أمرهم .. كانت عيناك الساهمتين لمقتول، لا لقاتل .. لتائه مقهور تخلى عنه كل شخص وكل شيء وكل حل، لا لمن عليه أن يجعل الجميع يدفعون ثمن عذابه .. لمن ينادي معاتبًا في صمت، ودون أثر داخل ملامحه، على ذلك المصدر الحقيقي الخفي لليتم الملعون به حتى ينقذه قبل فوات الأوان، لا لمن يخوض حربًا لا تهدأ لإثبات أنه لا يوجد في الدنيا من يستطيع إذلاله ولو كان ….ها نفسه .. كانت عيناك تبدوان كأن الحياة غائمة أمام نظرتهما المتجمدة، وكأن شيطانك غير المرئي على وشك الاستيقاظ في أي لحظة من نومه الشكلي فوق الكرسي الآخر الذي تسند ذراعيك إليه.
ذات مرة كنت أمر من أمامك مع أصدقائي ظهرًا وأنت جالس على هذا النحو .. كان تظاهري بعدم الانتباه إليك عفويًا .. كنت أبعد ما تكون عن الشقيق الأكبر الذي ينبغي أن يصافحه أخوه الصغير أو يشير إليه بالسلام على الأقل حين يصادفه خارج البيت .. لكنك فاجئتني بعدما تجاوزتك بخطوة واحدة بندائك لي .. نطقت اسمي وكان هذا نادرًا، ونطقته دون غضب وكان هذا أكثر ندرة .. لم تكن المفاجأة في مناداتك لي بقدر الطريقة التي فعلت بها ذلك .. كان شقيق أكبر ينادي أخاه الصغير .. هكذا فحسب بصوت مجرد من الضغينة .. بدا أيضًا كأن شرود عينيك أثناء جلوسك أمام المقهى هو الذي شكّل تلك النبرة التي ناديتني بها .. نطقت اسمي بخفوت ودود، حزين، خائب الأمل، ومختنق بالحيرة .. تركت أصدقائي وتوجهت إليك وأنت تنهض من فوق الكرسي .. وقفت أمامك ونظرت في وجهك .. نعم، هو أنت، وثمة شيء غريب يجري الآن يستدعي بصورة تلقائية امتنانًا طفوليًا يتوارى في نفسي ممزوجًا بالحذر والترقب .. سألتني بالصوت ذاته ودون أن تتخلص ملامحك من تجهمها عن وجهتي مع أصدقائي .. أجبتك باقتضاب، وبلا إفصاح عن شعوري المباغت بالبهجة لكوننا نتبادل حوارًا طبيعيًا بأنني أسير معهم دون هدف .. كانت الكلمات القليلة محاولة لضمان عدم حدوث خطأ قد يفسد تلك اللحظة غير المتوقعة .. وجدتك تضع يدك في جيبك ثم تخرج خمسة جنيهات وتمدها لي .. أخبرتك بلهجة شاكرة أن معي نقودًا، لكنك وبهزة رأس داعمة طلبت مني أخذها .. وضعت الخمسة جنيهات في جيبي وانسحبت من أمامك بينما عدت أنت إلى الجلوس في صمت متزامن مع ابتعاد نظرتك عن وجهي .. كان ذلك إشارة لنهاية اللقاء العابر .. تحوّل الامتنان في داخلي إلى حسرة .. ليس على المصادفة التي لم يتم استغلالها كما يجب، ولا على عدم إنهائها بالحميمية المطلوبة، بل على حياتنا .. تذكرت وأنا أسير مع أصدقائي كرامتك المهدرة أمام أبيك وأنت تطلب منه خمسة جنيهات كتلك التي أعطيتها لي الآن .. تذكرت إبلاغك له في مشاجرة لاحقة بأنك مزقت خمسة جنيهات كانت في جيبك وأنت تنزل سلالم البيت بعدما رفض أن يعطيها لك .. ربما كانت آخر نقود معك، لكنك كان يجب أن تقدم قربانًا ممزقًا لكرامتك كي تعوّضها عما لحق بها من إهانة أبوية .. كان يجب أن تقدّم لها أبًا ممزقًا، ولكن لم يكن في يدك سوى صورة لسلطته ممثلة في ورقة نقدية منعها عنك .. كأنك أردت انتهاز مروري أمامك في تلك الظهيرة لكي تحميني من الوقوف أمام أبي وطلب نقود منه .. لكي تحمي كرامتي .. لكنني حينما أستعيد ذلك اليوم يلح في ذهني سؤالك الذي كان يبدو وقتئذ روتينيًا أكثر من أي كلمات أخرى .. سؤالك عن وجهتي مع أصدقائي .. كنا نسير دون هدف كما أخبرتك، وها قد وصلت إلى نهاية السير يا أخي .. سؤالك كان بدايته وهو الآن نهايته، ولو لم تكن في قبرك الآن بعد خروجك محتضرًا من بين رفاق مقهى “معروف”، ولو لم أكن وحدي في منتصف الأربعينيات بعدما تخلصت من جميع أصدقائي لما تغيرت حقيقته .. كان وعدًا وليس سؤالًا يا أخي.
جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.