يتخطى الكاتب المصري حاجزى الزمان والمكان، مستعينا بفن "الكولاج"، ليشكل فى النهاية رؤية. فرغم التباعد –الظاهرى- ورغم أن قصته "فيسبوك" لا تعتمد (الحكاية) المتصاعدة، إلا أنها فى النهاية تعبر عن رؤية للحياة العصرية، تقوم على المواجهة، بين الماضى والحاضر، فى إدانة لتشوهات الحاضر، الذى عبث به الإنسان.
ممدوح رزق
مثلما يأخذ أحيانًا شخص في الحلم دور شخص آخر فجأة؛ يطلق (حنفي الأبهة) النار على (خيري) فتشكل ملامحه على الفور وجه (سلفادور دالي) .. ينتهي الكيتش الأدائي لـ (مجدي وهبة) بتحول مباغت إلى أيقونة سيريالية عند تمثيل الموت .. ليست الأيقونة كما هي فحسب بل أضافت إليها اللحظة غير المتوقعة ما كان ينقصها أيضًا: طلقة في الرقبة ودماء تتدفق من الفم
* * *
في اللقاء الثاني على الماسنجر مع قاصة عربية كنت أحاول بارتباك التوصل إلى الحيل اللغوية القادرة على توجيه الحوار بيننا عن القصة القصيرة إلى مسار ينتهي بجنس عبر الكام؛ حيث لم يكن باستطاعتي وفقًا لمعرفتي بنفسي، وتحت الثقل المحموم لشهوتي تجاهها تصديق أنه بالإمكان تحقيق معجزة تحطم سلطة الجغرافيا وتجمعنا أنا وهي في سرير واحد .. كنا نتحدث عن تقنية ما وراء القص عندما سألتني فجأة: معاك رصيد في الموبايل؟ أجبتها: أيوه .. ليه؟ كتبت القاصة العربية دون أن تخطئ في حرف واحد: عذرًا لأني مش معايا رصيد .. ممكن تبعث رسالة للرقم ده في مصر وتقول له أن حبيبتك تنتظرك على الماسنجر، وإنك لو ما دخلت الشات الآن فإنها لن تأتي لزيارتك الأسبوع القادم كما وعدتك؟
* * *
لكي يثبت اهتمامه العميق واقتناعه التام يستمر صديقي في هز رأسه رافعًا حاجبيه وأنا أتكلم .. مع صلعه النصفي والغفلة التي تثقل عينيه وملامحه وتجعله أغلب الوقت يبدو كأنما استيقظ توًا من النوم أشعر بالامتنان للقدر الذي أعاد إنتاج وجه (اسماعيل ياسين) في حالته ما بعد الحداثية .. يجلس صديقي في المقهى وينظر لأسفل باستكانة كأن تاريخ العالم كله مر على التصاقه بقاع حفرة منسية داخل فيلم رديء، ومن حين لآخر ينبغي على انفعالاته التظاهر بأن هناك أمرًا ما داخل حفرته أو خارجها يتجاوز حد تمضية الوقت، ويستحق الشغف أو على الأقل يستدعي الانتباه .. المشهد الذي لم تره أبدًا لاسماعيل ياسين .. اللحظة التي لا يريد فيها أن يكون عاديًا أو حكيمًا أو مضحكًا، ولا يريد كذلك أن يخبر أحدًا بطريقة ما أن وراء ضحكاته تعاسة هائلة .. النقطة التي تقع خارج الزمن، ويريد أن يعطي عندها إشارة غير ملحوظة ربما بأنه يتمنى فقط أن يتبخر دون أن يموت
. * * *
منذ سنوات كثيرة قرأت في مجموعة قصصية لكاتب لا أتذكر اسمه الآن قصة قصيرة يوجّه القاص في سطورها الأولى خطابًا مباشرًا للقارئ عن أنه سيترك صفحات فارغة من أجله كي يكتب فيها أي شيء يريد أن يوثقه عن حياته .. بعد ثلاث أو أربع صفحات فارغة فعلًا عاد القاص ليؤكد على القارئ بأنهما الآن أصبحا صديقين دون حاجة لأي لقاء مباشر، وأن كلًا منهما بهذه الطريقة ضمن وجود أحد ما سيظل يتذكره، ولن ينقطع أبدًا عن زيارة قبره بعد الموت حتى لو لم يفعل ذلك حقًا. في الصفحات الفارغة كتبت أن هذا القاص مخادع ويفترض بقرائه السذاجة، لأنه ببساطة لم يكتب عن الكيفية التي ستجعله يطّلع على ما سيكتبه أي قارئ عن نفسه في المساحة التي خصصها له حتى يتحقق التوازن العادل للصداقة عبر الكتابة بينهما، وللذكرى التي ستظل حية داخل كل منهما بعد الموت .. لم يطلب مثلًا إعادة إرسال نسخة المجموعة القصصية إليه على عنوان ما حتى يقرأ هو الآخر ما كتبه القارئ عن حياته مما يؤكد أن الأمر لا يعنيه مطلقًا .. كتبت أن هذا القاص إما أنه لم يجد شيئًا يكتبه، أو أنه يسعى لتثبيت ذاته ككاتب في وعي القارئ بطريقة مبتكرة تعتمد على استغلال لافتات عاطفية مبتذلة كـ (الصداقة دون لقاء) و(الذكرى التي لا تموت) و(المداومة على زيارة قبر صاحب لم أره أبدًا)، وبواسطة مشاركة شكلية من شخص لا أهمية لسطوره سوى أنها ستضمن الحفاظ على الكاتب ومجموعته القصصية في ذاكرته فحسب. لا أعرف ما هو الدافع الكوني الذي جعلني أتذكر هذه القصة وما دوّنته عن كاتبها في الصفحات الفارغة حينما طلبت مني القاصة العربية إرسال الرسالة لحبيبها.
* * *
يقول (نجيب الريحاني) إن ناظر الوقف حرامي حمار، لكن من استنكر هذه الصفة بثورة مكتومة ليس (عباس فارس) بل الحمار نفسه .. من الذي اكتشف ملامح الحمار المختبئة داخل وجه (عباس فارس)؟ .. نجيب الريحاني أم ابراهيم حلمي مخرج (أبو حلموس) أم عباس فارس نفسه أم أحد آخر؟ .. كيف تم هذا الاكتشاف ؟ .. لم يقتصر الأمر على انفعال الملامح فقط بل كان الصوت كذلك داعمًا حاسمًا في الكشف عن الحمار الغاضب .. هل يمكن تصديق وجود احتمال ولو ضئيل بأن الأمر كان مجرد صدفة ؟ .. بالتغاضي عن الرسالة أو القيمة الأخلاقية المحتملة المراد تمريرها عن (غباء الشر) مقابل (ذكاء الخير) الذي ينتصر في النهاية مخلصًا صاحبه من الشقاء الذي عانى منه طوال الفيلم!، وبالتركيز على أن لقطة ظهور (الحمار) كانت خاطفة للغاية؛ سيكون من الوارد التفكير في تفسيرات عديدة لذلك أهمها في تصوري هو: خطأ خاص بالمونتاج، خلل في نسخة الفيلم بفعل الزمن، الاستجابة لرغبة (عباس فارس) في عدم التوقف طويلًا عند هذا الاكتشاف
. * * *
كان يمكنني بمنتهى البساطة إخبارها بأنني أرسلت الرسالة دون أن أرسلها، متحصنًا بأي تبرير منطقي يمكنه أن يفسر فيما بعد عدم وصولها لحبيبها .. لكنني بمنتهى الطاعة والإحساس بالواجب وبحرص تام على الالتزام الحرفي كتبت الرسالة فورًا وأرسلتها .. كان الامتثال التلقائي لطلب القاصة العربية بمثابة توجيه شكر وتقدير للغيب الذي قرر حمايتي من الاستمرار في السعي إليها دون أن يحملني مسؤولية التراجع أو يشعل بداخلي جروح الحسرة والخزي الناجمة عن الهروب بتحريض من الخوف .. أنقذني من الشعور التقليدي بالعجز والفشل الذي كنت على يقين بأن آلامه المعتادة تتجهز لتعذيبي من جديد في جميع الأحوال سواء طال الوقت دون أن أصل لجسد القاصة العربية ـ كما حدث مع جميع من حاولت الوصول إلى أجسادهن ـ أو حينما تأتي لأول مرة اللحظة الوحشية التي سيواجه عري كل منا الآخر وينجح اضطرابي الخجول ببراعة فريدة في تدمير العالم .. كتبت الرسالة كأنني أتحسس بفرح جدران الكوخ الصغير الذي أنكمش متواريًا بداخله، غير مصدق أنني لازلت محتفظًا به بعد أن كنت على وشك خسارته .. كمن يخفي باعتزاز خبيث مكسبًا غير متعمّد؛ أخبرت القاصة العربية بحماس واثق أنني أرسلت الرسالة، ولم أخبرها أنني سأشاهد الليلة فيلما لنجمة البورنو Jaylene Rio لأنها تشبهها كثيرًا، وأنني سأكتم صوت الفيلم لأستمع إلى (كونشرتو براندنبورغ) لـ (باخ) أثناء الفرجة والاستمناء .. لم أخبرها أنني سأكون سعيدًا جدًا
. * * *
عرفت في طفولتي أن للسيارات وجوه بشرية .. ملامح تعطي نفس الانطباعات التي تتركها لديك ملامح الناس .. منذ ذلك الوقت أصبحت أنواع السيارات بالنسبة لي طيبة أو شريرة أو كوميدية أو ثقيلة الدم أو خبيثة أو مغفلة أو غير مبالية أو غامضة أو خجولة أو متطفلة أو غاضبة أو طفولية .. كنت أتأمل السيارات الواقفة في الشارع وقتا طويلًا وأتخيل حكاية ما تحدث بينها، مُحدِدًا لكل سيارة الدور الذي يتناسب مع طبيعة وجهها .. لماذا كانت (الفولكس) تأخذ دائمًا شخصية العجوز الحنونة؟ .. اكتشفت أنها تشبه جدتي كثيرًا: تهدل الوجنتين .. العينان المستسلمتان بوهن، واللتان لا تضمران أكثر من الرغبة في الأمان والبقاء وسط ألفة العائلة والذكريات .. الارتخاء الأمومي الناعم للجلد أسفل الذقن .. صغر الحجم .. التمسك بالانزواء (على الكنبة أو السرير بالنسبة لجدتي، وفي ركن ضئيل بالشارع بالنسبة لـ (الفولكس) .. كانت جدتي تعيش وحيدة في بيتها القديم المتهالك، حتى وهي في بيت أي من أبنائها كانت تبدو أنها تعيش وحدها أيضًا .. في الليل وبينما الجميع نائمون؛ كنت أحيانًا أخرج إلى البلكونة وأجد سيارة (فولكس) واقفة وسط البرد والسكون والإضاءة الخافتة .. كنت أشعر بأن لدينا أمنية مشتركة في أن أنزل إليها وأحتضنها أو أربت عليها كي تطمئن أن أحدًا معها، لكنني لم أتمكن أبدًا من تحقيق هذه الأمنية لنفسي أو لـ (الفولكس) أو لأي كائن يشبهها
. * * *
لا يستغرق الـ sign out أكثر من لحظة واحدة .. لكنها كانت كافية لأن أنتبه للمرة الأولى بأن كاتب القصة لم يذكر شيئًا عن نفسه .. كل ما فعله أنه ترك صفحات فارغة دون أن يترك أي أثر لملامحه .. أنا الذي كنت أريده أن يراني بأي شكل، واعتبرت عدم رغبته في ذلك إهانة تتطلب الانتقام ولو بكلمات لن يقرأها أبدًا .. اعتداء على حقي في الألوهة والذي لن أحصل عليه إلا بتثبيت ملامحي في ملامح أخرى .. لم يكن يريدني أن أرى وجهه، وأيضًا لم يكن يريد أن يرى وجهي .. ربما ليس لأن لدينا نفس الوجه، ولا لأن وجه كل منا لا يختزن الوجوه كافة فحسب بل يحتفظ كذلك بأحلامها وكوابيسها وجميع هواجسها السرية التي لا تدركها عن نفسها .. ربما رفض منح أي فرصة لأن يحاول وجه كل منا الاستيلاء على الآخر .. لم يرغب في أن نتورط في الصراع الأزلي على الطمس المتبادل للملامح واحتلالها .. ربما كان يعرف أن كل الوجوه ليست سوى حالات مزاجية مبهمة لوجه غائب أو مختبئ ، وأن علينا في المقابل أن نكون لا مرئيين، امتدادًا لانهائيًا من الاحتمالات غير المؤكدة .. كأنه كان يريد أن يحرق السماء بوضع وجهينا في خفائها المقدس ليضمن للصداقة والذكرى الخلود فعلًا . لا يستغرق الـ sign out أكثر من لحظة واحدة .. لكنها كانت كافية لأن أتذكر أنني الذي كتبت القصة القصيرة ذات الصفحات الفارغة، ولم أنشرها أبدًا.