أجلس أنا وزوجتي وطفلتي عصرًا حول طاولة في نادي “الحوّار” على النيل تواجه الطريق الواصل بين “طلخا” و”جوجر” .. أتأمل الأشجار والنباتات الكثيفة التي يلاطفها النسيم البارد والممتدة على جانب الطريق، البيوت المنخفضة مغلقة النوافذ والشرفات، المدخنة العالية لمصنع طوب، سيارة تعبر ثم تتبعها أخرى بعد فترة .. لا أحد هناك تحت ضوء الشمس الخفيف الذي يغطي المشهد الصامت مختلطًا بالزرقة الرائقة لسماء ما قبل المغرب .. أرى شيئًا من روح السكينة الثمانينية مجسّدًا أمامي على الضفة الأخرى من النهر .. يتسلل إلى داخلي أثر بالغ الوهن من الشعور الطفولي بالاندماج مع المزيج النقي بين الألفة الشعبية والريفية القديمة وقت العصر الذي كان يحتويني أثناء الوقوف في الشرفة أيام الجُمعات والأجازات منذ أربعين سنة .. حينما كانت تُغلق المحلات والدكاكين، ويقل عدد المارة الذين يعبرون الشارع، وترتفع زقزقة العصافير فوق الشجرة المقابلة للمنزل مع اختفاء الضجيج اليومي المعتاد .. الحميمية الصافية التي كانت تملؤني بنشوة تختلط فيها الألوان حيث المشهد المشمس الذي أسكنه أقرب للانتماء إلى القصص المصوّرة وأفلام الكارتون .. روحي الصغيرة المحلقة تتوحد بالنعومة البدائية الطازجة المستقرة في ذلك الانكماش الشتائي الناصع.
التقطت صورًا كثيرة للطريق .. سجّلت فيديو بحركة بطيئة للكاميرا حتى لا تغيب أي تفصيلة من تكوينه .. أطياف متناغمة تجتاح نفسي وتنفلت فورًا من وعيي .. ظلال وخيالات متناهية الشحوب والتفتت لأفكار وصور وأصوات وروائح وأشياء .. كنت أجلس على تلك الطاولة باعتباري الأشلاء المتناثرة، الجسيمة، الدامية، الصدئة والمحترقة لذلك الطفل .. أسعد بعذاب الملامسة المهترئة من مسافة غاية في البُعد لذلك الإحساس الهزيل المنطفئ والخاطف بإشارة خبيثة تجاه ما لا يمكنني حتى تذكره .. على الطاولة المجاورة كان يجلس رجلان في عُمرك تقريبًا يا مجدي لو كنت ما زلت على قيد الحياة .. ليس عمرك الباطني بالطبع .. كل منهما يرتدي الملبس الرجالي الذي كان يمكن أن ترتديه لو ظلت أنفاسك المفعمة بالسجائر والكحول والمرارة مستيقظة حتى الآن .. في عيني كل منهما نظرة من تكوّن ماضيه بلذة التأرجح المتواصل في المدينة، كأنهما عيناك لو لم تُغلقا مبكرًا للأبد .. كانا يتحدثان بذلك المستوى من الصوت الذي يتيح لك التعرّف على موضوع حوارهما، ولكنه لا يُكسب كلماته وضوحًا تامًا في أذنيك .. كانا يتحدثان عن الأوضاع الاقتصادية الراهنة ولم يكن ذلك مُهمًا بالنسبة لي دون شك .. كنت أحاول تشكيل صوتيهما في ذهني بكلمات بديلة لما ينطقان به .. أحاول أن أجعلهما يتحدثان عن ذلك العصر الثمانيني الشتائي الذي يلوّح لي مضمرًا شر العالم كله عبر ذلك الطريق الممتد أمامي، ولا يمكنني مطلقًا انتزاعه من وعده اللئيم .. كنت أحاول أن أجعل الرجلين على الطاولة المجاورة أنا وأنت يا مجدي .. كأن استرداد الحياة القديمة يتوقف على مدى قدرتي في تحقيق هذا التشكيل الصوتي .. كأن استردادك يتوقف على ذلك .. لكنني كنت عاجزًا عن إيجاد الكلمات الملائمة لهذا الحديث الذي أريد استبدال حوار الرجلين به .. لأنني لا أريد الثمانينيات يا أخي .. أريدها أن تنفذ وعدها وإن كانت كاذبة .. أريد معجزتها التي لم تصرّح بها حتى لو لم تكن إيماءاتها السابقة كافة سوى خداعًا جحيميًا .. إنني أستمتع بقتل الحنين يا مجدي بقدر ما يتمادى في قتلي.
جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.