الأربعاء، 8 فبراير 2017

ممدوح رزق: السيرة الذاتية حقيقة من التخيلات والأوهام

حوار: تيسير النجار
يطل عليك من بين سطوره، لا ينفصل عن أبطاله، وإن كان يراقبها من بعد، ويتركها حرة تفعل ما تشاء دون إملاء منه، تنتهك كتاباته كل ما هو مألوف وتأتي بغير المتوقع، مقتنص اللحظات الخبيثة، الأكثر حميمية وإثارة، إنه الكاتب والسيناريست (ممدوح رزق). هو كالمحيط، عميق، مليء بالأسرار، وكل ما تدركه منه ليس إلا جزءً ضئيلاً، بداخلي شغف وأسئلة لا حصر لها، أكتفي مؤقتاً بهذا الكم إذ لا يمكن لحوار واحد أن يحيط بعالمه.
ماهى أحلامك في الكتابة؟
هو حلم واحد لم أفقد الأمل رغم استحالة تحقيقه، وهو أن أصل إلى القلوب العامرة بالإيمان للنقاد المخصيين.
بماذا تتمنى أن تلقب؟
كنت أتمنى أن أُلقّب بـ (إله السينما) أو (أمير الموسيقى الذهنية) مثلاً، ولكن للأسف صداقاتي محدودة للغاية، ولهذا سأظل تعيساً بلا ألقاب.
ما هو سر تركيزك على الحياة الجنسية لأبطالك؟
لأن الواقع لا يلبي إلا أقل القليل من رغباتي الجنسية.
كما قلت أنك لا تعترف بالتابوهات فهذا للكتابة فقط؟ أم في الحياة ؟ وإلى أين سنصل إن لم نجد حدوداً؟
في الكتابة والحياة، وأتمنى أن أمتلك القدرة على عدم الاعتراف بها بعد الموت .. إن لم نجد حدوداً سنصل إلى عالم مطابق تماماً لما نحن فيه الآن.
هل تقرأ لطفلتك ما تكتب؟ ألن تخجل عند قراءتها لك؟
بالطبع ولأنها في الرابعة من عمرها فإنني لا أدخر جهداً في شرح وتفسير ما تعجز عن فهمه من نصوصي.
لأنك تكتب النقد هل تراقب النص عند كتابته بعين الناقد؟
أكتب النص بعين الناقد الذي ينبغي تحويله ـ على الأقل ـ إلى منديل ورقي مملوء بالمخاط.
ماهى رؤيتك للأدب العربي في عصرنا الحالي؟ وهل يوجد نقد يوازن كثرة النصوص والأعمال الأدبية؟
مع استثناءات نادرة هو أدب لطيف ولا يحتاج إلى جهد نقدي أكثر مما هو موجود بالفعل، بل في تصوري أن الحركة النقدية أنشط من اللازم فأدبنا العربي اللطيف لديه من المسالمة ما يغنيه عن النقد.
ألاحظ تأثرك بالأعمال الغربية في نصوصك، بعكس الأدب العربي هل يرجع ذلك إلى مستوى الكتابة العربية؟
بالعكس بل لأثبت من خلال تأثري بالأعمال الغربية أنها بلا قيمة أمام عبقرية الأدب العربي.
ما هى أحب أعمالك لقلبك؟
قصة قصيرة لم أكتبها بعد، ولا أعرف حتى الآن شيئاً عنها.
أخبرنا عن خطواتك قبل كتابة العمل؟
أغلق الباب والشباك ثم أفتح صفحة وورد جديدة.
هل من الممكن أن تكتب سيرتك الذاتية بوضوح دون مواربة تحمل دلالات أخرى؟
بالتأكيد، وستتكفل ذاكرتي ـ كالمعتاد ـ بإعطاء التخيلات والأوهام المستعادة للماضي يقين الحقيقة الواضحة.
هل تعترف بتصنيفات الأدب؟ وماهو الأدب السييء من وجهة نظرك؟
أعترف بجميع تصنيفات الأدب ليست القائمة وحسب، وإنما التي ستُخلق في المستقبل أيضاً .. الأدب السييء من وجهة نظري هو الذي يحاول أن يتحدى أو يشكك في القيم والمعتقدات الدينية والاجتماعية والثقافية .. الأدب الذي يسعى لزعزعة استقرار القواعد والمسلمات المحترمة التي تأسست عليها الكتابة.
كيف ترى عدم وصول أي عمل مصري لجائزة البوكر هذا العام؟
هذا يؤكد أن الروايات المصرية لم ترتقِ لمستوى المحكمين.
هل حصول الكاتب على عدد من الجوائز يؤكد موهبته؟ أم أننا نفتقد من لديه إمكانية التقييم؟
بالطبع الجوائز تأكيد على موهبة الكاتب، وأتصور أن وطننا العربي به أفضل من يمتلكون القدرة على التقييم في العالم.
ما رأيك فيما يقال أن من يعيش حياته وفق ما يريد لا يكتب، الكاتب يعيش حياته على الورق؟
هذا صحيح تماماً، وتلك هي مشكلتي الرئيسية، فهناك دائماً ما يمنعني من التوقف عن أن أعيش حياتي وفق ما أريد كي أبدأ في الكتابة، ولكنني لازلت مصمماً على تحقيق هذا الحلم، وأعرف أنني سأتمكن من ذلك في يوم ما.
موقع (أدب فن) ـ 8 / 3 / 2015

الأحد، 5 فبراير 2017

حكاية مطولة عن تمساح نائم‮: ‬العـود الأبـدي للشــعر‮

كأن إبراهيم البجلاتي قد قرر في ديوانه (حكاية مطولة عن تمساح نائم) الصادر حديثاً عن دار (ميريت) أن يسرد شعرياً حكاية التمساح التي لم يحكها الحكيم (رويان) للملك (يونان) في قصة ألف ليلة وليلة حين أمر الملك بقتله فقال له الحكيم: (أيكون هذا جزائي منك، فتجازيني مجازاة التمساح)، قال الملك: (وما حكاية التمساح)، فقال الحكيم: (لا يمكنني أن أقولها وأنا في هذا الحال فبالله عليك أبقني يبقيك الله).. هي حكاية معروفة بأنها لم تروَ قط، لكن يبدو أنها ظلت كذلك حتي كتب (إبراهيم البجلاتي) هذه السيرة الشعرية لذلك التمساح المتحوّل إلي حيوات متعاقبة بقوة التهديدات والمصادفات المميتة، والاستعادات المتتالية للوجود في تجسيدات مختلفة..عالم مشيّد بالكوابيس العجائبية المتلاحقة، وبالمتاهات الأسطورية التي تبدو كأنها تنتمي لعتمة مسكوت عنها في ألف ليلة وليلة،ويمكن أن يُعد هذا المقطع اختزالاً لها:
(جئت من أماكن كثيرة/ فوق هذه الأرض/ تحت هذه الأرض/ أعود/ إلي أين؟/ أعود/ كما كنت؟/ منبوذا/ صيادا كسولا/رسام أقنعة/ تمساحا/ قطا يأكل الأحلام/ تمساحا صامتا/ رأسا بلا ذيل/ لصا/ طائرا بلا حرية الطيران).
لا تقضي فكرة (العود الأبدي) عند (نيتشه) علي الحرية بل تخلصها من الحاجز الذي كان يحد منها حتي الآن، حاجز ثبات الماضي. فلما كان الماضي هو المستقبل ـ بحسب العود الأبدي ـ فإن النفس حرة فيما خُلق وفيما لم يُخلق. ومن يعرف العود الأبدي يشعر أنه فوق كل استعباد للزمان. إن (الآن) ليس هو اللحظة الهاربة، بل هو التصادم بين المستقبل والماضي. وفي هذا التصادم يستيقظ الآن علي نفسه ويعي ذاته "1".. تتسم هذه الحرية النتشوية للعود الأبدي عند (إبراهيم البجلاتي) في كونها لا تعيّن قطيعة بين الحيوات المتتابعة التي يتم التحوّل إليها، بل يبدو الأمر أقرب إلي الامتزاج والتداخل، كأنه مشهد واحد لدائرة تعيد خلق نفسها بصور متباينة.. يجعل (البجلاتي) أيضاً من تفاصيل كل حياة شروطا جمالية للحياة التي تعقبها..كأن التهديدات والمصادفات أو (ما خُلق وما لم يُخلق) في كل وجود، يصير مكونات تأسيسية للوجود اللاحق، التي تحاول أن تقاوم جحيمها السابق.. هنا ينشأ الصراع الذي لا ينتج تراكما في طريق تعرّف (النفس) علي ذاتها عبر الأجساد المتوالية، وإنما الصراع الذي يواصل بناء الحلم المجازي لهذه النفس.. كأن العود الأبدي لا يسعي إلا لتحقيق هذه الغاية باعتبارها الظل الوحيد الذي يمكن امتلاكه، داخل هذه السيرة الممتدة من التحولات العابرة.. هذا الظل هوالغموض الذي ينبغي أن نتحرك بداخله لنتأمل الأم التي تبكي طفلها، والعاشقة التي تبكي حبيبها المفقود.. أن نبني هوية من الأداءات المتحسرة دون أن نصل.
(وبيد راجفة فتحت فمها الموارب/ وشهقت مثلها شهقة عظيمة/ الجوهرة كانت مرشوقة في حلقها بالفعل/ الجوهرة/ لم تكن غير واحدة من رصاصاتي الطائشة).
هذا ما يحكم الصراع.. الجوهرة التي كان يُفترض أن يُبني من ثمنها أكبر كوخ في الجزيرة، وأن يتعلم الأطفال العرايا الرقص ودق الطبول وأسماء النجوم والمشي بالليل ستكون هي الرصاصة الطائشة.. المستقبل المقتول سلفاً بإرادة الماضي.. تفاصيل الأمس التي تصبح شروط اليوم دون معرفة بأن الخطوة أكثر من مجرد أثر.. الكابوس هو ما يعطي المشهد هذه الطاقة الرمزية..الطبيعة الإيحائية الناصعة، أو ما يمكن اعتباره الحكمة البلاغية المضادة..هذه الكيفية يمكن القياس عليها كل خطوة للتحوّل.. كل وعي لإعادة التقمص، التي تؤكد التكرار عن طريق اللعب بالصور المتغيرة.. كأن هناك جوهرا خفيا يتم تشكيله بواسطة هذا التلاحم بين المرايا،والتي تتواجه في أبدية خاصة.. وجود قهري من حيل التبادل والمحو.
(بعضهم يترك جسده هناك/ ويبيت عندي/ نشرب أنخابا كثيرة/ غالبا كانوا مخابيل في العالم الأول/ ولهم حكايات كثيرة/ حكايات لا تنتهي/ حتي بعد أن نسكر تماما/ ونحطم أكواب الفخار/ أو نجرح بعضنا بالسكاكين/ يظل بعضهم يحكي/ وأنا أسمعهم وأضحك/ وأنا أسمعهم وأبكي).
إذا كان الحلم المجازي هو بديل المعرفة، فإنه سعي جمالي في نفس الوقت لتشريح عدم القدرة علي الحسم أو التوقع بما يمكن أن تتخذه العلاقة مع الآخر.. (إبراهيم البجلاتي) يوسّع هذا الحضور للآخر ليس فقط بجعله أشكالا متعددة للذات، وإنما بجعل هذه الأشكال ممتلئة أيضاً بكافة الأرواح التي لم تتجسد علي نحو مباشر.. تتحدث (جوديث بتلر) في كتابها "الذات تصف نفسها" عن الجرح الذي يشهد علي حقيقة سرعة التأثر، الذي يجعلها (ممنوحة إلي الآخر بطرق لا تستطيع أن تتنبأ بها أو تسيطر عليها تماما) "2"..كأن هناك في هذه السيرة الشعرية ما يدفع بالحلم نحو تجاوز الذات.. أن تكون سيرة لكل (الآخرين)، ولكن بأن يكون (الجرح) هو المركز (المبهم) الذي ينطلق ويعود إليه هذا التجاوز.. هنا يمكننا التفكير في أن عدم القدرة علي الحسم أو التوقع يمكنه أن يتحوّل إلي شكل للتناغم بين الذات ونفسها بواسطة الآخر.. لكن هذا التناغم يتعيّن عليه أن يستمر في إثبات نفسه بواسطة الاستمرار في (العود الأبدي)، والذي سيحافظ أيضا علي انتماء الآخرين للحلم المجازي الذي تكفلت الذات ببنائه.
(طوال الليل لم أقل كلمة واحدة/ وليس لي حكاية مثلهم/ كأنني الوحيد الذي عاش دون أن يقصد).
ما أتصوره دائما هو أن الآخر لابد أن يبدو بالنسبة للذات قادرا علي أن يثبت امتلاكه لحكاية، وأن لديه القدرة علي سردها.. هكذا تفكر الذات التي تظن أنها الوحيدة الملعونة بهذا العجز، حتي لو لم يكن هذا صحيحا بالفعل في وعي الآخر الذي يستوعب فقدانه للحكاية.. لكن ما المقصود بالحكاية؟.. نحن نتحدث عن نسق من البديهيات المرتبة والمنسجمة التي ينبغي أن تصل إلي نتيجة.. هذا النسق يتخذ دائما صيغة فردية، عاطفية ربما، ولكنها لن تصير شيئا في اليقظة بقدر ما ستكون جوهرا للعالم عندما يتم تفتيتها عبر الحيوات المتعاقبة..تجسيدات التمساح النائم التي تأخذ التهديدات والمصادفات من هيمنة(المعني) إلي غواية (الأداء).
(كأني ابتلعت "سفينة الحمقي" وعلي متنها ألف راكب/ كأني ابتلعت البحر/ موجة تشيل وموجة تحط/ بين الجشع والجنون نمت كتمساح حقيقي/ يضرب الكهف بذيله/ يعض مخدات الريش بأنيابه المائلة/ يزحف نحو الكهف الأول/ يأكل قطيع البقر المرسوم علي الحائط/ ويلغ في الدماء).
في كتابه (جماليات العجيب والغريب)، أشار (علي الشدوي) إلي أن (ألف ليلة وليلة) عودتنا علي ألا تروي إلا الحكايات الجديرة بالإنقاذ من الموت، وعلي امتداد حكاياتها العجيبة والغريبة تغمد السيوف وتطوي النطوع، وهذا يعني أن هناك حكايات لم ترو لأنها لم تنقذ حياة أحد، ومن ضمنها حكاية (التمساح) "3".. أتصور أن (إبراهيم البجلاتي) بقدر ما خرج عن ما يشبه مبدأً تم تحديده في هذا الرصد، بقدر ما التزم به..إنه يدرك أن حكاية التمساح النائم لن تنقذه من الموت ومع ذلك أراد أن يجعلها احتمالا لهذا الإنقاذ..الحكاية تجعل من الألم شيئا كونيا، منطويا علي ما هو أكثر مما تدعيه حدوده في الواقع.. تعطي الحكاية الدلائل المؤكدة علي إمكانية ابتلاع السفن والبحار وقطعان البقر..لهذا فالعود الأبدي ليس حركة انتقال خارجي بل هو في المقام الأول ـ ومازلنا نتحدث عن الحلم ـ تبدلات لحظية داخل الجسد.. تحولات تتم طوال الوقت لأرواح مختلفة، وما كان علي الشعر إلا أن يقبض علي تلك التجسيدات غير المرئية..إن الطائر الذي يأكله التمساح بعد أن يخلّص أسنانه من اللحم العالق كما اعتاد البشر علي شرح المقصود بـ (مجازاة التمساح) ليس إلا ـ بحسب ما أخبرنا (إبراهيم البجلاتي) بشكل ضمني ـ ليس إلا نسخة من التمساح نفسه.. كأن كل حياة للذات تعيش علي حياة أخري لها، وكأن هذه الذات لا تحلم وإنما هي الحلم ذاته، الذي يعيد تكوين نفسه في نوم الآخرين..العود الأبدي إذن ليس رحلة مستقلة، منفصلة، ومتباعدة، وإنما هي تلازم بين ميتات مستمرة.. رعب واحد يمر عبر أجساد متباينة، ومؤقتة، بحيث يمكن لأي منا أن ينظر إلي روحه (الشعرية) ـ مثل كل التماسيح الأخري ـ كعلامة تجارية علي قميص.
1
ـ فريدريش نيتشه (1844 ـ 1900) ـ منقذة العلان/ معابر ـ سوريا.
2
ـ الذات تصف نفسها/ جوديث بتلر ـ ترجمة: فلاح رحيم/ دار التنوير 2014 .
3
ـ جماليات العجيب والغريب، مدخل إلي ألف ليلة وليلة/ علي الشدي ـ نادي جدة الأدبي 2004 .
جريدة (أخبار الأدب) 2/4/2017

الأربعاء، 1 فبراير 2017

«كلهم على حق» لباولو سورنتينو ... ثرثرة عدائية

بنبرة ثملة تستحضر الإيقاع المحموم والهازئ لتشارلز بوكوفسكي، ينفجر الهذيان السردي للمخرج الإيطالي الحاصل على أوسكار أحسن فيلم أجنبي 2014 باولو سورنتينو في روايته «كلهم على حق»، التي ترجمها إلى العربية معاوية عبدالمجيد، وصدرت حديثاً عن مكتبة «تنمية» في القاهرة، و «منشورات المتوسط» في ميلانو.
ما من مجال للتمهل أو لكسب معرفة ما بعد تجاوز تلك العتبة التي اختار سورنتينو أن تتمثل في كلمات هنري ميللر: «حين تصعد الروح، يمضي كل شيء في يقين مطلق، حتى لو كنا في خضم الفوضى». كأن الرواية هي سيرة فضائحية متخيلة لليقينيات المطلقة التي صارت إليها الأشياء كافة بعد صعود الأرواح. هنا تتحول المتناقضات والظنون المتصارعة كافة إلى احتمالات مؤكدة وهواجس بديهية، تتبدد في ظلامها الحقيقة الكلية الواحدة، والأصل المتعالي المتفرد.
عبر الخطوات المتبجحة للمطرب «طوني باغودا» بطل روايته؛ يصل باولو سورنتينو بكائنات الفوضى إلى الذروة القصوى من الطيش، فيعيد إلى كل عنصر في الوجود طبيعته كيقين، مهما كانت هشاشته أو تفاهته أو عبثيته المتنافرة مع كل الاعتبارات المنطقية الأخرى. هذه الذروة القصوى قد تكون المعادل اللائق بصعود الأرواح، الذي لا ينجم من الموت فحسب، وإنما من الخواء والضجر في المقام الأول. عن الغياب المهدِد والحاضر، كأنه العدم الذي يسبق فناء الجسد، ولهذا ستتحول الكتابة عند سورنتينو إلى صوغ لعذاب ذاتي من الغوايات المقبضة داخل جحيم الحياة والموت. اندفاعات متلاحقة من المرح المأساوي، يتجرد معه كل شيء مما كان يُعتقد أنه قيمة أو هوية. تبدو الأفكار والمشاعر كافة كأنها في خطرٍ دائم، منذورة للهدم والتلاشي أمام تلك العواصف الحكائية الكثيفة التي تقودها الشهوة والكراهية. في الهذيان؛ الجرائم كافة متاحة، وهذا ما تستثمره الرواية جيداً، كأنها تذكرنا طوال الوقت بالمعنى المقابل لعنوانها؛ «لا أحد على خطأ».
هكذا امتلك باولو سورنتينو حرية اللعب بذلك المونولوغ الاعترافي، والخيالي الهائل لمطرب النوادي الليلية، ومدمن الكوكايين، وعاشق النساء، من طريق الإسراف التهكمي في الاستطراد، والتمادي في الاسترسال خارج سياقات السرد، والاقتحام المفاجئ لعوالم متباعدة، والانتقال غير الممهد بين أزمنة مختلفة، والاستغراق في الشطحات التشبيهية، والتركيبات البلاغية المنفلتة من أطر الحكي. كان سورنتينو يشير إلى إدراكه لهذه الثرثرة العدائية التي يمارسها، كأنه يعطينا تأويلاً مسبقاً بأن هذه الثرثرة تعتبر جانباً جوهرياً من السخرية التي يحطم بها القناعات الجمالية مثلما يحطم قواعد الخلاص.
ليس هناك ما يُسمى الخط الدرامي المتصاعد في «كلهم على حق»؛ بل يجابه أذهاننا متن متصدع، مقسَّم بأرقام بديلة لعناوين الفصول إلى ما يشبه الشذرات الطويلة الحادة، المحكومة بالتفكك مع الاستقلال النسبي لجزيئياتها. هذا التصدع ليس مجرد أثر شكلي للطيش، بل تجسيد لذلك الامتزاج بين الشهوة والكراهية. بصمات متوترة للعنف غير المنضبط، الذي يُصفي العالم من أوهام القوة والتماسك، ومن الهيمنة المدعية للعواطف والأخلاقيات.
إنقاذ الحياة والموت من الأفكار البائسة للحب، والوصول إلى ذلك التعاطف الاستثنائي، الخارج عن كل إحساس وعقيدة وجدوى. كأننا أمام رومانسية كونية مضادة، متخلصة من حماقة الدوافع والمبررات المألوفة والمبتذلة، والتي لا تخضع لحكمة مثالية. يوفر باولو سورنتينو كل اللامبالاة اللازمة لقتل الثقة في الامتلاك، والإنكار الملائم لنزع الحماية عن التوحد والتماثل داخل المعايير المشتركة للتسامح ومراوغة الألم. لقد جعل روايته احتفالاً جنونياً بالتباين، أي الشيء الوحيد الذي ذكر المايسترو ميمو ريبيتو أنه يحتمله في تقديم الكتاب. جعلها تكريماً وتقديساً للاختلاف والتضاد والتناقض، أي كل ما يضمن عدم التشابه، وكل ما يؤكد عدم احتياج الفرد للدفاع عن عذابه الخاص في وعي الآخرين.
في كل مشهد من الرواية يخلق صاحب فيلم «الجمال العظيم» عيوناً لانهائية، نهمة، لا تشبع من تشريح التفاصيل المتراكمة داخل الكادرات السردية، كما أنها تمتد أيضاً داخل لحظات الحكي لتتفحص ذاكرة المشهد، كأنها تسافر في اتجاهات متناثرة عبر عتمة غيبية لتبني جسوراً هزلية بين هذه الذاكرة وأشباح أخرى، قد تبدو غريبة عنها. كأن باولو سورنتينو يمنح كل كادر وفرة من الأماكن والأزمنة التي لا تتوقف عن التكاثر؛ فيجعل المشهد أقرب إلى حلم اليقظة، غواية من الانطباعات المرتجفة، التي تتنازع مع المراوحة الشبقية بين الحضور والغياب. هذا الأداء ليس تعبيراً عن الحق الذي يمتلكه كل من ينتمي إلى كادرات الرواية فحسب، ولكنه كذلك بمثابة إعطاء السخرية أكبر مساحة ممكنة لتفتيت العلاقات، وتحطيم فكرة الذات عن نفسها خصوصاً في أوقات التباهي، والتنظير لقدرتها على حسم العالم. لم تكن كلمات هنري ميللر هي التصدير الوحيد، بل بدأ باولو سورنتينو كل فصلٍ بعبارات من أغانٍ لمطربين إيطاليين، كأنه يحاول العثور على بلاده وفقاً لهذا التواطؤ بين الرواية والأغنيات.
لن تتيح تلك الجُمل لبصائرنا التنقيب في خفاء هذه البلاد كما أرادت «كلهم على حق» أن ترشدنا فقط، وإنما ستعيد الرواية نفسها أيضاً اكتشاف هذه الأغاني بواسطة أجساد العابرين داخل حكاياتها، وهي الغنيمة التداولية التي يمنحها التناص، التي تجعل من التصدير ممراً للتعددية، والتغيّر، وعدم الخضوع للسيطرة، أو ما يُسمى «التعالي النصي» الذي اقترحه جيرار جينيت، وهو كل ما يجعل النص في علاقة ظاهرة أو ضمنية مع نصوص أخرى. لقد أراد سورنتينو منذ الفصل الأول أن يجعلنا أثناء الحفل الغنائي لـ «طوني باجودا» في مسرح «راديو سيتي ميوزيك» أن نتوقع ونتخيل بطريقة ما تلك الكلمات التي أنهى بها «كلهم على حق»: «الشمس غابت. الحلم انتهى. لكنني لم أستيقظ منذئذ. انتظريني لحظة يا بياتريشا. ها أنا قادم إليك».
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 31 يناير/ كانون الثاني 2017

السبت، 28 يناير 2017

سرقة الأساطير من الليل

(منذ سن مبكرة جداً ـ ربما عند عمر الخامسة أو السادسة، علمت أنني عندما سأكبر سيتعين عليّ أن أصبح كاتباً. بين حوالي عمر السابعة عشرة والرابعة والعشرين حاولت التخلي عن هذه الفكرة، لكنني قمت بذلك وأنا واع بأنني أُغضب طبيعتي الحقيقية، وأنني عاجلا أم آجلا سوف أستقر وأكتب كتباً).
جورج أورويل
لماذا أكتب
عمري الآن سبع وثلاثين سنة، وأعتقد أنه وقت ملائم لإدراك نوعية الخبرة التي صارت إليها هواية النظر إلى الخلف .. لقد أصبحت مشاهدة الماضي بالنسبة لي ـ ومنذ وقت بعيد ـ لا تعدو سوى محاولة الخطو داخل مقبرة جماعية، يتكاثر الموتى في ظلامها بتلاحق أعمى، أملا في العثور على عزاءات مستحيلة .. هذا التحريك القاهر للرأس في الاتجاه العكسي يتم بعنف أكثر الإرادات وحشية، والتي تليق بالاستفهام الإذلالي ذي الوجهين الساديين: (ما الذي حدث؟، ما الذي لم يحدث؟) .. هناك ضرورة لا سبيل للتفاوض عندي حول أهميتها الأساسية، الأمر الذي يجعل من سرعة تحققها دليلا غير قابل للشك على حسن الحظ .. أقصد بهذه الضرورة التخلص المبكر من الإيمان ـ الغريزي ـ بأن الكتابة سلاح لتغيير العالم .. لكن التخلي عن الوهم النضالي أو التنويري للكتابة لن يخدش اعتقادك بأنها السبيل المتفرد لأن تصبح أنت هذا العالم الذي لن يمكنك تغييره .. على النقيض؛ ربما يساهم هذا الاستيقاظ في تثبيت هوية أصيلة بكونها التعويذة السحرية التي تمكنك من تبادل ذاتك مع عناصر الوجود في غفلة مثالية، كطفل عنيد يسرق الأساطير من الليل .. أتصور الآن أن هذه الفضيلة الإعجازية التي لا تتعطل للكتابة يمكنها أن تفضي إلى نوع خاص ومختلف من الألم .. إنه اليقين الذي يمكن اكتشافه بعد سنوات طويلة من التطلع إلى نفسك كلص مبهر في حكاية عجائبية ممتدة، بأنك لم تعش حقاً هذه الحياة التي طالما استحضرت صورها الذهنية، معتمداً على أمانة الخيال في إنجاز التوحد بأسرارها .. لم يفقد جسدك ذاكرته ـ لو كان هذا مجدياً بالفعل ـ لصالح الامتلاك الواقعي للأماكن والأزمنة، معزولا عن اللغة .. هذا ما يضمن القوة المتحسرة واليائسة التي أراقب بها الآخرين الآن، الذين ربما لم يومض هاجس (الكتابة) في عقل أي منهم أبداً، ولو كخطأ شاحب .. لكن الندم على تلك المقايضات اللانهائية التي لم تتم، ولن تُعوّض، لا يمكن تبريره إلا بمزيج التباهي والامتنان الكامن في عجزك المستقر عن تصديق كيف يعيش كل هؤلاء البشر دون أن يجلس أي منهم ولو لمرة واحدة على الأقل كي يخلق حياته بالكلمات.
إلى أي شيء يرجع الشعور بالهزيمة؟ .. بماذا يسمى العمق الذي ينتمي إليه جرح خبيث كهذا؟ .. بعكس المتوقع فالقواعد المطلقة للحياة والموت ليست مصدر هذا الألم، وإنما اللغة نفسها .. الطبيعة غير المنقذة للغة تحديداً .. إن نزع (الخلاص الكامل) عن الكتابة يقود إلى مصير حتمي من التناقض: إدراك ماهية الخلود الجمالي، واستيعاب السهولة الفادحة للفناء التي تكمن في هذا الخلود .. حينما تتعرف على غياب القدرة التغييرية للكتابة؛ فإن هذا سيقترن بفهمٍ عفوي لخصائصها، وعلى نحو أدق لكونها أقرب إلى صوغ لأحلام ذاتية بواسطة التقمص .. هذا ما يمكن أن نطلق عليه امتلاك حصانة مؤكدة ضد الموت، وبالكيفية التي تبقيك خاضغا لهذا الموت أكثر مما يستطيع ارتكابه أي شكل آخر من القتل .. ستدرك أن اللغة بقدر ما تتيح لك أن تقبض على العالم، بقدر ما سترسخ لديك ـ كذخيرة ماكرة ـ الحقيقة المضادة، بأنه لم يكن من الممكن أبداً أن تنفّذ هذه الحيل والألاعيب الخارقة في الواقع.
أتخيل نفسي أحياناً بدافع من هذا الألم شخصاً لا يكتب .. واحد من هؤلاء الذين لم يومض هاجس (الكتابة) في عقولهم .. كأنني أحاول أن أكون فعلياً أحد الذين يمكنني صنعهم بالكلمات فحسب .. كأنني حينما أكون هذا الآخر سأتحول بالتالي إلى كل (الآخرين) الذين لم أستطع أن أكونهم إلا فقط عن طريق الخيال .. كأن الكتابة في حد ذاتها هي العائق الوحيد، المتمنع، الذي يذكرني مسبقاً بالنهايات الفاشلة لمحاولاتي .. لكن هذ التخيل هو شيء يخص الكتابة أيضاً حتى لو بدا معادياً لها .. جانب من ممارستها خارج الكلمات، ولهذا سيظل غير مرتبط بفكرة التخلي عنها، وهو ما لم أحاوله مطلقا منذ سبعة وثلاثين عاماً .. كانت الكتابة بالنسبة لي هي (الطبيعة الحقيقية) حينما كانت سلاحاً لتغيير العالم، وحينما أصبحت تعويذة سحرية تمكنني من تبادل ذاتي مع عناصر الوجود في غفلة مثالية، وحينما جعلتني موقنًا بأنني لم أعش حقا الحياة التي طالما استحضرت صورها الذهنية.
ربما تسعى الكتابة لتعيين ما يشبه تعريفاً جوهرياً لها من خلال هزائم اللغة .. أنها لا تعيش داخل الكلمات وإنما في ظلالها الغامضة .. في الارتباك المبهم لنقصانها .. في الصدوع الملغزة داخل كل تقمص .. في الإبهام المحيط بالأماكن والأزمنة التي وضعتها كبدائل لذاتي في الحكايات .. في الفراغات المجهولة بين جسدي اللغوي، وجسدي الأرضي .. في عدم القدرة على الإجابة على الوجهين الساديين للاستفهام الإذلالي: (ما الذي حدث؟، ما الذي لم يحدث؟) .. في انعدام الثقة تجاه أي إجابة محتملة .. ربما تسعى الكتابة طوال الوقت لتأكيد أنها هي التي تستخدمني لإنقاذ نفسها من حيث تصورت في لحظة مبكرة أنها ستتكفل بإنقاذي .. أن الأساطير حقيقة هي التي تسرقني من الليل، وأن في ذلك سعادة استثنائية، مدفوعة الثمن.      
مجموعة محاضرات ألقيتها خلال الورشة السردية التي أقامها مركز
(الفارابي) للأبحاث ـ 2014

الجمعة، 27 يناير 2017

حفل الإرجاء

لم نكن نمتلك (طبقاً) يمرر للتليفزيون القديم بحجرة المعيشة تنويعات نقية من سكس العالم .. كمجنون سينمائي يحاول الاتصال بسكان الكواكب الأخرى قضيت سنوات طويلة، ليلة بعد الأخرى في السعي لاصطياد قنوات الـ (سيجما) القبرصية، والـ (أنتينا) اليونانية، والثانية الإسرائيلية، وكان هذا أقصى خدمة يمكن أن يؤديها (البوستر) لقضيبي .. بالطبع كان نادراً للغاية أن تجتمع عناصر المعجزة: التقاط أي من هذه القنوات مع وضوح الصورة بالتزامن مع عرض فيلم  (uncut).. أغلب السنوات قضيتها ممسكاً بقضيبي أمام شاشة مشوشة تماماً، تتحرك داخلها ظلال مطموسة انتظاراً لظهور إشارات لما يبدو أنه احتمال للحظة التصاق بين شبحين عاريين فأبدأ في الاستمناء .. كان يحدث أحياناً أن تتحسّن الصورة فجأة قبل وصولي إلى النشوة فأكتشف أن ما كنت أظنه مشهداً جنسياً لم يكن سوى منظر لطفل يحفر قبراً في حديقة بيته ليدفن قطته الميتة، أو رجل يقوم بتقطيع جثة امرأة مستخدماً منشار كهربائي، أو عجوز يعزف على البيانو مقطوعة ناعمة لـ (شوبان) فوق تلال هائلة من الأنقاض المحترقة .. كنت حينئذ أنقذ شهوتي من التراجع والانطفاء باستعادة فورية لجسد أم خطيبتي .. أؤمن حتى الآن أن مؤخرتها كانت تبتسم لي كلما نظرت إليها.
في هذه الفترة لم يكن أبي يعرف ماذا يفعل بخرائه .. كان يُخرج الأعاجيب البنية المزعجة، متفاوتة الأحجام من شرجه، ويقلبها بين يديه ليتفحصها باستغراب وغضب ثم يحاول التخلص منها في بيجامته، أو في أغطية الفراش والكراسي والكنبات، أو في ملاءة السرير ومسنده وحوافه، أو في الحوائط، أو يمدها إلى أي منا طالباً منه أن يأخذها ويجد تصريفاً لها.
كانت أمي تواجه صعوبة بالغة في الانتهاء من كتابة مسرحيتها (حفل الإرجاء)، ولم يكن ذلك راجعاً إلا لتهكم أختي من رغبة المؤلفة العجوز في الانتصار لوجهة نظر بطل المسرحية وهو قاص شاب يعتقد أن الكاتب العظيم لا يقدم أبداً تعريفاً واضحاً للحياة:
)الكتّاب العظام لا ينخدعون بهذه الخطيئة؛ فهم يبصرون تماماً الفخ المبهر الذي يطالبهم بهذا .. تلك الرفاهية الخبيثة جدير بها أولئك الذين ما زالوا يتفحصون الخط السيء واللغة الرديئة التي كُتبت بها الدعوة إلى الحفل .. الحياة أحقر من أن توصف، حتى أن هذه العبارة نفسها لا تنطوي مطلقاً على أي ضرورة أكثر من محاولة مفترضة للفوز برهان على السماجة القصوى).
في المقابل كانت أختي تنحاز لتصور البطل الآخر لمسرحية أمي وهو قاص كهل ينافس القاص الشاب على ثقوب طفلة في العاشرة، لم تحسم بعد هل تختار بينهما أم تجعل ثقوبها ممرات مشتركة يتصلان من خلالها  .. كان القاص الكهل لا يجد تعارضاً بين تعريف الحياة وأن تكون كاتباً عظيماً:
)تراكم غامض من الآلام ذات الحتمية العمياء، غير المكلفة بجهد .. إن ما تظنه فهماً لتلك الآلام هو في حقيقته رضوخاً إجبارياً لعذابها الذي لا سبيل لتعطيله .. احترام لخلوده لا يمكن التفاوض معه .. إن قدرك هو البقاء في جوع لتصديق أنك تحارب عدواً يمكن التغلب عليه، أو على الأقل يمكن استيعاب دوافع هزيمتك أمامه .. كأنك تمتلك وجوداً تصونه في الخفاء إرادة عاقلة، مطلقة القدرة، مثالية التدبير والنوايا، ومؤجلة الكشف حتى لو لم يكن العالم سوى نقيض دامغ لذلك التصور .. لقد عرفت منذ زمن طويل أنني مجرد معبر محترق، تمر من خلاله الصدف المتبلدة التي تدعي خضوعها لنظام يتخطى استمرارها المجرد، ولغاية تتجاوز الموت .. الموت نفسه ليس شيئاً حتى يمكنك أن تقاومه، أو تسترضي وحشيته، وتقنعه بخوض استعراض كاذب من عدم التكافؤ أمام الفراغ الأبدي .. الموت هو كل شيء بكافة ما تعنيه الدقة الإعجازية اللازمة للقهر، وذلك لا يعني أكثر من أنك ميت يتظاهر بالصراع ضد تدميره الذاتي، وترعاه حالة من التفاهة اللامبالية أشد وطأة مما قد ينتظره داخل قبر ما .. لقد كان للخيال فضل عظيم في رعاية اليقين بكوني مريضاً ـ مثل أي أحد ـ بوهم امتلاك الحدود التي يمكن توجيه ضربات ما من ورائها، لكن جسدي ليس إلا مكونات مضحكة من الغفلة .. فوضى أزلية معتمة لهزائم، وتوسلات، وآمال طائشة فاقدة الضمير والكرامة .. لاشك عندي في أن الكلمات هي وقود الحقارة ـ حيث لا يوجد ما يستحق الذكر ـ لذا فالكتابة لابد أن تكون توثيقاً ـ يجاهد للإفصاح عن كوابيسه في كل مناسبة ـ لفشل المحاولات المتكررة في الوصول إلى صمت نهائي، لا يثير الشفقة(.
في إحدى الليالي كنت أشاهد التليفزيون فارداً ساقيّ فوق كنبة الأنتريه المجاورة للكرسي الذي أجلس عليه .. كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل، وكانت كفي التي شكلت حضناً أسطوانياً لقضيبي تحت الشورت والكلوت تصعد وتهبط سريعاً بدعم ذهني يحاول إكساب خيالات الشاشة الضبابية ملامح وألوان .. كان تركيزي في هذه الليلة محصوراً في إعطاء ما كنت أظن أنها امرأة عارية تنام تحت رجل ما جسد طفلة العاشرة في المسرحية كما وصفتها أمي .. فجأة فُتح باب حجرة المعيشة ودخل أبي .. تشتيت الانتباه في بداية الاستمناء خاصة لو كان ناجماً عن مفاجأة صادمة سيؤدي في الغالب إلى انهيار تدريجي سريع للانتصاب، أما عند حدوثه بعد مرور الوقت فالنتيجة ستكون قذفاً فورياً تعيساً .. وقف أبي أمامي، ونظر في عينيّ دون أن ينزل بصره نحو يدي التي كانت لاتزال تحت الشورت والكلوت بينما الدفقات الساخنة للمني تتابع بارتباك مقتضب حسرةً على استمناء مبتور، لم يُختم بنهاية لائقة .. أخرج أبي من جيب بيجامته كرة متوسطة الحجم من الخراء، ثم ألقاها أمامي على الأرض بنفاذ صبر كشيء فشل في تشغيله .. صوته المهموم كان خافتاً بوعي للحرص على عدم إيقاظ أمي النائمة داخل حجرتها في نهاية الصالة، وأختي النائمة داخل غرفة مجاورة تشارك حجرة المعيشة في نفس البلكونة: (شوف هتعمل فيها إيه) .. كانت هناك أيضاً جدية في نبرته الواطئة كأنه يخبرني بعدم امتلاكي لعذر يبرر عدم الاستخدام الجيد للخراء بعد أن تكفل بتحويله إلى كرة .. أخرجت كفي المبتلة، ودون اهتمام بتجفيفها قمت لأربت على كتف أبي محاولاً تخفيف ضيقه، ثم أجلسته على الكرسي .. أمسكت بكرة الخراء، وقربتها منه: (عارف تعمل فيها إيه .. تاكلها) .. حدّق في عينيّ بدهشة لم تفقده هدوءه دون أن يتكلم .. (هي مش بتاعتك .. خلاص .. كُلها) .. قربتها أكثر حتى كادت تلامس شفتيه فزادت حدة الاستغراب في نظرته، ومع ذلك كشف فمه عن ثغرة صغيرة .. (شاطر .. افتح بقك كمان) .. تحولت عيناه من وجهي إلى كرة الخراء للحظات قليلة كأنه يُخضعها لتشريح أخير ثم مد رأسه وقضم قطعة ضئيلة مزينة بسائلي المنوي، وبدأ يمضغها بطقم الأسنان الأمامي .. ابتسمت لأشجعه على قضم المزيد في حين ظهرت على ملامحه عدم الاستساغة لطعم الخراء، لكن تعوّده على أدوية رديئة الطعم جعلته يقضم قطعة أخرى، كأنه يعتبر أن ما يبتلعه الآن جرعة أخرى تشبه السوائل الكريهة التي تجبره أمي على تناولها بالملعقة في مواعيد يومية ثابتة .. رأيت أن الاعتماد على ما علق بأصابعي من سائل منوي ليس كافياً لذا أدخلت يدي الأخرى تحت الشورت والكلوت لأجلب المزيد كي أغطي به الكرة البنية التي نقص حجمها .. ظل الضيق ينمو في ملامحه حتى تجمّدت على وضع الاستياء البالغ بعد خمس قضمات أنهى بها أبي وليمة الخراء والمني الصغيرة .. ربت على كتفيه ثم أنهضته وأمسكت بذراعه لأخرج به من حجرة المعيشة وأعبر به ظلام الصالة نحو غرفته التي تنام أمي في سريرها.
في اليوم التالي أنهت أمي مسرحيتها بعد نقاش سري مع أختي استغرق فترة استحمامهما معاً .. أسرعت إلى الشاشة والأزرار بجسد لا تزال قطرات وفيرة من ماء الدُش عالقة به كأنها توصلت إلى الحل السحري:
)الكتّاب العظام قد يحتاجون ـ كما ترى ـ لوصف الحياة حتى من حين لآخر عندما يأكل الغضب قلوبهم، وتذيب مرارة الضجر أرواحهم من قضاء الحفل ـ الذي دائماً ما ينتهي مبكراً ـ في خلق الرموز .. إنهم يحتاجون نفس الهدية الثمينة التي يمكن أن تعثر عليها فجأة عانس ما ظلت تراقب شقيقها الأصغر لليالٍ طويلة، سنة بعد الأخرى من فتحات شيش البلكونة وهو يستمني أمام شاشة مشوشة تماماً، تتحرك داخلها ظلال مطموسة، حتى تحقق حلمها ذات يوم ورأته يطعم أباها كرة من الخراء والمني).

الثلاثاء، 24 يناير 2017

الثورة والخيال ما بعد الحداثي

يمكنك أن تقوم بالثورة، ولكن عليك ألا تنسى إطلاق النار على نفسك كل صباح  ...
(أما كيف لـ "رورتي" و"ليوتار" تفسير تجمع شعوب أوروبا الشرقية لإسقاط حكامها فهو متروك لتخمينات أي إنسان) ...
بهذه الجملة المتحدية اختتم المناضل الاشتراكي (أليكس كالينيكوس) مقاله (ما بعد الحداثة) الذي ترجمه (بشير السباعي) منذ أكثر من عشرين سنة .. كان من الواضح أن هذه الكلمات جاءت ردا على أفكارهما عن "تغيير العالم" والتي ناقشها (كالينيكوس) في المقال .. (جان ليوتار) وهو المفكر الذي يعتبر رائدا لحركة ما بعد الحداثة في فرنسا حينما أعلن عن إفلاس جميع (المرويات الكبرى) أكد على أنه لم يعد بوسعنا الإيمان بأية نظرية شاملة تسمح لنا بتفسير العالم وتغييره في آن واحد .. أيضا (ريتشارد رورتي) الفيلسوف الأمريكي تحدث عن أنه يتوجب علينا الكف عن الانشغال بمعرفة العالم وتغييره والتركيز بدلا من ذلك على تنمية علاقات شخصية؛ فمن الوجوه المحورية لما بعد الحداثة إنكار أن من المرغوب فيه أو حتى من الممكن بعد الانخراط بشكل جماعي في تغيير العالم .. كان ثمة ارتباط إذن بين (الثورة)، و(تغيير العالم)، وكان هناك من يؤمن بجدوى هذا الارتباط في مقابل من كان يعتبره مجرد (كيتش) حداثي .
في 2011 لا تختلف صورة العالم العربي من الخارج كثيرا عن فيلم سينمائي يخرج فيه الموتى الأحياء من قبورهم تباعا للانتقام من قتلتهم .. لكنه ليس فيلما مرعبا .. إنه مزيج من الرومانسية الجارفة والكارتون المبهر .. مدن مسحورة تتخلص فجأة من لعنتها، وتستيقظ من نوم طويل كما يحدث في الحكايات الخيالية .. هل هناك في هذه المعجزات المتعاقبة ما يمثل تحديا لما بعد الحداثة؟.
ربما تعني الثورة ـ من ضمن ما تعني ـ أن هناك اتفاقا وفهما مشتركا لحقيقة ما .. حقيقة ترعى دوافع وكيفية حدوث الثورة، وبالضرورة حقيقة الواقع الجديد الذي تسعى لتشييده .. هذه الحقيقة تحتاج لعقل كلي يمثل اندماجا لعقول كثيرة يجمعها يقين واحد وهدف واحد أيضا .. نجاح الثورة في تحقيق هذا الهدف سيبدو فورا أنه انتصار للحقيقة وللعقل وهما ـ طبقا لما بعد الحداثة ـ ليسا غير وهمين .. هل علينا أن نتذكر "فوكو" حينما قال أن إرادة المعرفة هي مجرد شكل واحد من أشكال إرادة السلطة؟، وأيضا حينما اعتبر أن الذات الإنسانية الفردية كتلة من الدوافع والرغبات التي تصوغها علاقات السلطة السائدة داخل المجتمع؟.
الثورات العربية، والمصرية كنموذج تعيد إلينا الجدل المتوفر بقوة في السؤال القديم: هل كانت ما بعد الحداثة استمرارا معدّلا أو محوّرا للحداثة أم قطيعة معها؟ .. لكنها لن تكتفي بذلك فحسب بل ربما بشكل أقوى ستدعم امتدادات هذا السؤال بتساؤلات أخرى: هذا التنافر أو التعارض الذي يبدو واضحا عند الكثيرين بين فلسفة ما بعد الحداثة وفكرة قيام ثورة شعبية هل يرجع إلى رفض ما بعد الحداثة لوجود الثورة من أساسها أم رفض الإيمان بأنها فعل تغيير للعالم ؟ .. هل استخدام فيسبوك وتويتر والموبايل وهي أدوات ما بعد حداثية بامتياز تحمل كافة إمكانيات خلخلة المركز وتفكيك البنية؛ هل استخدامها كأسلحة رئيسية في الثورات دليل على عدم صمود التشاؤم الشهير لما بعد الحداثة في مواجهة خلود التفاؤل الحداثي الذي صاحب مشروع التنوير وعمل عليه (هيجل) و(ماركس)، وارتبط بتفسير مسار التطور التاريخي؟  .. هل ما بعد الحداثة تحريض على عدم الحركة المؤطرة باليقين وبحيازة عناصر الفهم والثقة في المصير، أم تحريض على تأمل الشروط المتعالية والصراعات الملغزة المختبئة وراء الحركة واقتفاء أثر كل محاولة لتأصيل غايات ميتافيزيقية وكشف أمراض علاقات التواصل التي تسعى لتشكيل قواعد للأمان في حماية سلطة ما؟.
قد يكون ما أخذته ما بعد الحداثة على عاتقها في هذا الصدد أن تستحضر المتمنع في الثورة بآلية متجردة من الرونق المألوف .. من عوامل الرضى الذهني المعنية بالحفاظ على وحدة القطيع ونظامه لحظة الرغبة في الوصول إلى ما يُعجز عن الاهتداء إليه .. هي تنقب عن سبل منزوعة اللذة لتوفير شعور أكثر إخلاصا بما هو محصن، ولا يمكن التعبير عنه في الثورة بعيدا عن التناغم الشكلي المبتذل الكامن في طرق مهادنة غيابه الحداثية عبر النشوة والمواساة.
الثورة عارية .. الثورة بلا جسد .. نعم هي أيضا بلا روح ...
ربما تتجاوز ما بعد الحداثة ثنائية الرفض والقبول للثورة نحو التعامل معها كـ (لعبة لغوية) لا تحتكر المعنى بقدر ما تضمر اقتراحات وانحيازات ملتبسة ومراوغة .. أداء هادم يضلل الحكمة ويتفادى الخضوع لقواعد وأنماط مقدسة منسجما مع التفتيت المستمر للأنساق الذي يمنع الاحتمالات وتقاطعاتها المنهجية من تكوين هويات مستقرة .. هذه المفارقة والانفصال عن ما يدعي التأكيد والثبات المعرفي يتسق مع غياب (اللغة العليا) أو (الميتالغة) في مقابل ثلاث من (الميتاحكايات) ميّز بينها (ليوتار) كما أشار د . أحمد أبو زيد في مقاله: البحث عن (ما بعد الحداثة) وهي: العلم الوضعي، والهرمينوطيقا، والصراع الطبقي .. هذه القضايا والنظريات الشمولية التي فقدت مصداقيتها، وعلى هذا لم تعد هناك (حكاية عليا) مسبقة، أو صيغة خطاب تعلو فوق غيرها من الصيغ، أو شكل واحد للمعرفة يمكن اعتباره أساسا لبقية أشكال المعرفة الأخرى .. عدم وجود (ميتالغة) يعني غياب الخلفية التي تضم كل أشكال العبارات والتعبيرات، وهذا ما أعتقد أنه ينبغي تطبيقه على (الثورة) أثناء مقاربتها من منظور ما بعد حداثي بدءا من تغييب أي شروط مقررة سلفا عن ما يمكن أن تقود إليه الكلمة، وليس انتهاءا بتتبع المضمامين التي يمكن أن تتضح من استخداماتها وتوظيفاتها المتعددة، والتي لا ينبغي أن تتآلف مع اتجاه واحد متعسف من التفكير.
نحن إزاء موقف لا يسعى لتشريح الثورة على أسس الماضي المتخم بالمذاهب والأفكار الكبرى، وما رسخته من علاقات وسلوكيات بل وفقا لاختفاءها .. مظهر من مظاهر التحرر من أنقاض المعتقدات يتخلى عن الانصياع للأحكام التي أرادت تثبيت نفسها كقانون مطلق؛ فالقصص التاريخية التي ارتبط بها ما هو (صادق)، و(عادل) لم تعد تملك مشروعيتها السابقة، ومن هنا تنبذ (الثورة) في وضعيتها ما بعد الحداثية ما يمكن أن يلحق بها من أذى التقيد بأصنام المعايير الفكرية التي سادت مجتمعات الحداثة.
تخطي المسلمات الحضارية يضع تلقائيا مفهوم (الثورة) في نطاق المساءلة والمحاكمة وليس الانتماء رغم اعتراف الـ (مابعد حداثيين) بأن مبادئ فلسفة التنويرٍ هي التي ساعدت على قيام الثورة الديمقراطية في فرنسا وأمريكا وزوال عهد الإقطاع وقيام النظام الاجتماعي الذي يؤمن بالعدل والمساواة، ولكنهم في نفس الوقت يدركون تماما أن التجارب والخبرات الإنسانية وكذلك الاتجاهات الثقافية قد وصلت إلى مرحلة من التعقد والتعددية ما يستدعي الحاجة إلى العثور على ما يتجاوز المقولات، وما تحمله من إرادات وما تنتجه من تأثيرات .. الحاجة إلى التقاط الإشارات والإيماءات التي تعطي لهذه المقولات سياقها الرمزي، وبالتالي تنزع عنها الحماية من انتهاك الرهان الدلالي لها وتبقيها داخل الفضاء المتسع دوما للتحولات.
على الثورة ـ ككل الأشياء ـ ألا تخدم أحدا ...
تحاول ما بعد الحداثة ربط الثورة بالخيال الحر أو تحديدا بما يسمى: (تأويل اللانهاية) بالتعبير الفرويدي، وهو انفلات من قانون المفهوم وإعادة التذكر والتنبوء .. تجاوز للميتافيزيقا وتجاوز لكافة محاولات تجاوزها السابقة، والتي لم تخرج بعيدا عن أرضها .. ذوبان الذات في ما ينبغي تأويله إلى ما لا نهاية ، وهذا ما يجعل (الثورة) خاضعة دوما للتساؤل .. يجعلها متاحة للتفكير ليس في أحداثها ولا معانيها فحسب بل وفي ما هو محتجب عنا منها سواء كان لحكم سابق أو لتصور مستقبلي .. تسعى (ما بعد الحداثة) هنا لتفادي خدعة البحث عن الأصل الماضوي في الثورة باعتبارها نتيجة مباشرة له ومتبرأة مما عداه حيث يعد هذا مجرد تكرار لما هو سابق .. (ليوتار) في مقاله (إعادة كتابة الحداثة) والذي ترجمه: (رضوان شقرون) و(منير حجوجي) يعطي نموذجين لهذه الخدعة قائلا :
(لقد اعتقد "ماركس" أنه قام بكشف وفضح الجريمة الأصلية  في أصل شر الحداثة "يتعلق الأمر باستغلال العمال" واعتقد كذلك كمحقق شرطة أنه بالتعرية عن الواقع سيمكن البشرية من الخروج من طاعونها الكبير .. إننا نعرف اليوم أن ثورة أكتوبر تحت غطاء الماركسية وفي العمق كل ثورة أخرى لم تقم ولن تقوم إلا بإعادة فتح الجرح ذاته: يمكن للتعيين وللتشخيص أن يتغيرا ولكن المرض نفسه يعاود الظهور داخل إعادة الكتابة هذه. . لقد اعتقد الماركسيون أنهم قضوا على اغتراب البشر، ولكنهم لم يقوموا إلا بتحويل هذا الاغتراب من مكانه.
نقترح الآن التوجه نحو الفلسفة: لقد حاول "نيتشه" تحرير الفكر وطريقة التفكير من قبضة ما سماه الميتافيزيقا، أي ذلك المبدأ الذي يشير منذ أفلاطون وحتى شوبنهاور إلى القضية الأساسية الوحيدة بالنسبة للبشر المتمثلة في الكشف عن الأساس الذي يمكنهم من التحدث بشكل ملائم مع الحقيقة، ومن الفعل وفقا للخير والعدل .. إن الطرح الأساسي عند "نيتشه" هو الاستحالة الجذرية لأي "وفقا لـ" نظرا لاستحالة المبدأ الأول أو الأصلي، تماما كما طرحت ذاتها فكرة الخير عند "أفلاطون" أو مبدأ العلة الكافية عند "لايبنز" .. إن كل خطاب بالنسبة لنيتشه بما في ذلك خطاب العلم أو الفلسفة يجب أن ينظر إليه كمنظور، ولكن "نيتشه" يسرع بدوره إلى تعيين ما يؤسس المنظورات ذاتها في ما يسميه إرادة القوة .. تعيد فلسفته بذلك إنتاج الطرح الميتافيزيقي وتحقق أكثر من ذلك وبشكل دوغمائي ومتكرر جوهر الميتافيزيقا لأن ميتافيزيقا الإرادة التي ينهي بها فلسفته هي ذاتها التي تحويها الأنظمة الفلسفية للغرب الحديث، وهو ما يوضحه هايدجر).
يذكرنا (ليوتار) في نفس المقال بقاعدة (الانتباه العائم المتساوي) التي ألح (فرويد) على أي محلل أن يحترمها: ضرورة إعطاء نفس الأهمية لكل ما ينتجه المريض من كلام حتى وإن بدا تافها أو دون قيمة .. تقول القاعدة ما مجمله: لا يجب إصدار حكم مسبق، يجب تعليق الحكم وجمع المعلومات وإعطاء الأهمية ذاتها لكل ما يأتي من المريض دون التدخل فيه .. من جهته، على المريض أن يحترم وضعا مماثلا: عليه أن يترك كلامه طليقا وأن يترك للأفكار والصور والمشاهد والأسماء والجمل تأخذ مجراها كما تنتج على لسانه وعلى جسده، (في فوضاها) دون أن يخضعها لاختيار أو قمع.
هذا التذكير يقيم علاقة بين (تأويل اللانهاية)، والإحساس والإنصات له بتعبير (ليوتار)، ولو طبقنا هذا على الثورة لحولناها إلى شذرات من جمل وكلمات ومقاطع تكوّن وحدات غير منطقية لمشاهد لا تأخذ في عين الاعتبار البحث عن قيمة .. طريقة / تقنية لا تقدم معرفة بل تستبدل التعريف بحضور الماضي كفاعل لا يطرح ركائزا قديمة وإنما يوفر للحاضر موضوع الفكر إحساسه الجديد.
يقول (كانط): (إن الخيال يعطي للعقل مجالا للتفكير أكثر مما يمنحه العمل المفهومي للفهم) .. الثورة إذن عليها أن تكون منفتحة للخيال وللتداعي الحر ولكل ما هو معلوم، ولكل ما نجهله .. أن يصير الزمن الشخصي هو زمن الجميع في نفس الوقت .. الثورة لا يكشف عنها ولا تُمثل وإنما  يُكشف عن عناصر لها تُوثق وفقا لآلية غير محاصرة بالحجج والبراهين .. إنها اللامنفعة مابعد الحداثية التي لا تقدم حقيقة بل تشتبك مع واقع يقع دائما خارج دائرة الفهم.
إبريل 2011
 photo: 28th of January 2011. Taken by Islam El Azzazi.

السبت، 21 يناير 2017

اختصارات حول الفانتازيا

لا يؤسس كل تحديد فانتازي لحتمية ما يُسمى بالواقع وحسب فهو فضلاً عن تعيين المنطق الذي تخضع إليه قوانينه، والحدود التي تنتهي عندها سلطته، وطبيعة الانتهاكات المقوّضة لمسلماته يخلق كذلك ركائزاً بديهية لتاريخه .. هو شكل من أشكال إنتاج الحقيقة إذ يؤدي تمييز حقل الفانتازيا إلى عزله عن نظام من الإدراكات الحاسمة لعناصر الوجود: الشروط التكوينية، والأنماط المستقرة والمتغيرة لصراعاتها، وأيضاً الجذور الثابتة في الماضي التي تضمن للتصنيف والبرهنة الحماية من الشك .. فلنتأمل مثلاً القوة الجازمة لتعريف مصطلح (الفانتازيا)   (Fantasy)في معجم المصطلحات الأدبية المعاصر: (عملية تشكيل تخيلات، لا تملك وجوداً فعلياً، ويستحيل تحقيقها) " 1" ، أو لتعريف مصطلح (الفانتازيا الأدبية) في نفس المعجم: (عمل أدبي يتحرر من منطق الواقع والحقيقة في سرده، مبالغاً في افتتان خيال القراء)"2"  .. لنتأمل كذلك توصيف (ميلين كلاين) للفانتازيا في كتاب (أدب الفانتازيا مدخل إلى الواقع) لـ (تي . ي . ابتر) بأنها (القوة الدافعة وراء استبطان الواقع)"3" .. الواقع هنا قد يكون يقيناً ظاهراتياً (حقيقة فينومينولجية) أي يتمركز في بنية حسية تتوفر لتجاربها معطيات مباشرة، وبالضرورة قادرة على أن تخلق خطاباً يمكنه الإجابة عن التساؤلات المطروحة حول ماهيته .. تُعد إذن (الفانتازيا) ارتكاباً مضاداً للمضمون العقلي المثالي للظواهر، فهي كسر لهيمنة العلاقات الممكنة بين الأمور المعقولة.
(ويبدو أن الظواهرية تؤكد بأن إدراكنا للعالم هو إدراك لمعطيات حسية وحسب فالحديث عن الأشياء ليس إلا حديثا عن معطيات حسية عن هذا الشيء نفسه وهكذا تتكون الأطروحة الظواهرية على الشكل التالي : الأشياء الطبيعية ليست سوى بُنى منطقية من المعطيات الحسية إذاً “إن الأشياء إمكانات دائمة للإحساس” كما يقول مِل.
قد يتم توجيه انتقاد إلى المقول السابق “إن الأشياء إمكانات دائمة للإحساس” هو أن الفكرة ذاتها عن الشيء تتضمن أن وجوده ممكن من دون إدراك وبناء على ذلك لا يصح القول إن كل حديث عن أشياء مستقلة عن الحس يمكن اختزاله إلى حديث عن خبرة معتمدة على الحس. ويجيب المفكرون الظواهريون على هذا الاعتراض بأن الأشياء، في رأيهم، يمكن أن توجد غير مدرَكة، وكل الذي يؤكدونه هو جملة فرضية، وهي أنك إذا قلت ’’س’’ موجودة فكأنك قلت إن المعطيات الحسية المناسبة، في ظل الظروف الصحيحة، سوف تحصل. وفي رأيهم فكرة الشيء الذي لا ينتج معطيات حسية أبداً هي فكرة بلا معنى)"4".
بالربط بين (الأشياء الطبيعية) و(البُنى المنطقية) و(الظروف الصحيحة) و(المعنى) سنحصل على العديد من الاعتقادات المتلازمة أهمها تموضع العالم داخل نطاق ذهني مستوعب، وبالتالي فـ (الحدوث) القابل للتبرير هو الخاضع لقرارات ذلك النطاق كما أن تجاوزه (الخيال العجائبي) يعني الخروج مما يمكن أن نُطلق عليه المنطقة الأصلية، أو متن الوجود، أو ما يُسمى بـ (الواقع).
إن تفكيك التصور عن ثنائية (الواقع/ الخيال) وإذابة النقائض المحتملة بينهما سيقودنا نحو اكتشافات متلازمة أيضاً: انزياح الوجود عن ما يُعتقد أنه مركز له، وبالتالي فأي (حدوث) لا يشترط الخضوع لنسق سابق كي يمكن تبريره، ولذلك سيتحول التجاوز إلى ممارسة منطقية غير مصنفة كخروج عن أساس ما ـ حيث لا يوجد أساس بداهةً ـ ولن يُفرض انتماءها إلى هامش إذ أن المتن صار ملغياً، وأصبح العالم امتداداً منزوع الفواصل ـ أكبر من مجرد واقع وخيال ـ لا يحظى فيه نوع معين من الظواهر بقيمة مثالية أو أفضلية قياسية أو مكانة معيارية تتخطى نوعاً آخراً من الظواهر .. حينئذ لن يكون بوسعنا تمييز الفانتازيا بل لن نكون في حاجة إلى ذلك.
إذا كان الوعي بالغرابة في مقابل المألوف يمثل استجابة تلقائية لا يمكن تفاديها فعلى تلك الاستجابة أن تكون بداية التعارف وليس نهايته .. أتحدث عن مهمة النقد في الخروج بالعجائبي من الرواية إلى الوجود، أي تعيين غير الممكن ـ بحسب الظن السائد ـ في قلب الممكن المفهوم وليس مجرد الاكتفاء بلذة الوقوف عند ما تم الاعتياد على تسميته بـ (العوالم الموازية) .. أفكاري هنا لا تقصد المقارنة أو الاستبدال أو الإحالة إذ لا يزال كل ذلك خاضعاً لسلطة التنميط والفرز، وإنما أقصد إعطاء الفانتازي ثقل الحتمية، وإلزام المنطق، وسطوة القانون؛ فالغرائبية ـ وهو ما يفترض في تصوري أن يتكفل به جهد جوهري في عمل الناقد ـ يجب الكشف عن كونها ليست انصرافاً عن الواقع بل هدم لما يُعتقد أنها حدود له تحافظ على بقائه كمجرد (واقع) .. إن أشكال السرد الروائي التي تُقدم انحرافات طاغية عن ذاكرة متخمة بأساليب تقليدية وموضوعات مستهلكة ينبغي أن يكون لها نفس السلطة التي تتمتع بها (أشياء الواقع) حينما كان مجرد واقع ولكنه لم يعد كذلك بعدما صار وجوداً مفتوحاً، لا نهائياً، أكثر مراوغة وتوحشاً من أن تحكمه ثنائيات متعارضة .. الخبرة العجائبية إذن لا تؤثر أو تساهم في إنتاج الحقيقة وحسب وإنما تخلق التاريخ أيضاً، فاللحظة الحاضرة شارك في قرار (حدوثها) وفي الكيفية التي حصلت بها أساطير وحكايات شعبية وقصص خيالية، فردية وجماعية مختلفة .. بشكل أكثر تحديداً يمكن القول أنه لا يمكن إرجاع الزمن إلى ذاكرة دون الأخرى أو منح القدرة لتجارب على حساب تجارب مغايرة .. يقول (خوليو كورتاثر): (الفانتازي والملغز ليسا فقط الخيالات العظيمة في السينما والأدب والقصص والروايات. بل حاضر فينا أنفسنا، في تكويننا النفسي، ولا يستطيع العلم ولا الفلسفة أن يقدما لنا إلا تفسيرات بدائية وأولية)"5" .. على النقد أن يتفحص دائماً دور الفانتازيا في تشكيل أجسادنا إذ لم تعد هي الأخرى مجرد (فانتازيا) بعدما فقد ما يُسمى بالواقع أبوابه المغلقة. 
بالعودة إلى فقرة سابقة فالعالم حينما يصبح امتداداً منزوع الفواصل ـ أكبر من مجرد واقع وخيال ـ سيتحول حينئذ إلى نص هائل أي يمتلك الخطاب الذي ينظم الأحداث قوة الأحداث نفسها، ويكون للسرد سيطرة اللاسرد ذاتها"6" .. طموح الناقد تجاه ذلك الوجود المفتوح، اللانهائي حسبما أرى هو اللعب بما يمكن اعتباره كافة الاحتمالات المتساوية للرموز .. تشريح المعاني في ضوء المراوغة والتوحش .. الحرص على حرمان اللغة من أي مرجع حيث لا يوجد ما يضمن عدم تمظهر الكينونة في أي صورة أخرى، ولا يوجد ما يقدر على تعطيل عمل الفكر سواء في محاولات التصنيف أو الإيجاد .. أتذكر الآن المقارنة التي عقدتها في قراءتي لـ (نهاية السيد واي) لـ (سكارليت توماس) بين دعابة الفانتازيا في الرواية، وكتاب (مدخل إلى التفكيك) لـ (ميشيل رايان): (مع كل خطوة داخل (الظاهر) أو (الحسي) يسقط رسوخ ما مصحوباً بارتداد للنقطة الأولى .. قدم في يقين، والقدم  الأخرى في أنقاضه .. البقاء للعمى إذن كسلطة مهيمنة على كل نسق فكر أو سياق استنتاج محدد ـ لاحظ أن الذهن لم يعد إذن كياناً مغلقاً، والذكريات توقفت عن أن تكون حصناً سرياً ـ وهو ما تُحركه غريزة (العودة الدائمة للاكتشاف) تحت إلحاح أطر التفسير المنهكة)"7".
أريد الآن أن أطرح تطبيقاً شخصياً: في روايتي (خلق الموتى)"8" يتعلم أبي بعد أن تجاوز السبعين القرصنة الإلكترونية ثم يقوم بالاستيلاء على أحد المنتديات على الانترنت ليروي من خلاله في فصول متتابعة حكايات عن ماضيه ـ لا يهم الآن صدقها أو كذبها ـ مستخدماً توقيع (احتمال مستبعد) .. هذا ما يمكن أن يبدو غريباً .. لكنه الآن بعد (حدوثه الروائي) صار ممكناً، ولم يعد محاصراً داخل (العجائبي) إذ أصبح (المألوف) لا وجود له بل أصبح هناك عالم لا يمكن أن تُجزم معه أن لتحول أبي إلى (هاكر) لقبه (احتمال مستبعد) سلطة على جسدي أضعف من سلطة أي فعل آخر قام به أبي داخل ما سيتم تسميته في المقابل بـ (الواقع) .. فلنلاحظ تعمدي استخدام كلمة (أبي) ليس لأنني أتقمص الآن شخصية الراوي في (خلق الموتى)، ولكن لأنني لازلت أفكر في ذلك العالم منزوع الفواصل ـ أكبر من مجرد واقع وخيال ـ الذي يمكن للرواية ونقدها تحويله إلى نص هائل .. نص ينتقم من الموت اللازمني الطافح من تلك العبارة: (هذا مجرد خيال)، ويحرص كل الحرص على أن يضمن خلود التشوش الذي يستمتع به كل المشغولين بالموثوقية"9".
*شهادة خاصة بالمائدة المستديرة التي عُقدت تحت عنوان (الرواية والفانتازيا) بملتقى القاهرة للرواية العربية 2015
الهوامش
1ـ معجم المصطلحات الأدبية المعاصر، سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني / بيروت، سوسبرس الدار البيضاء، ط1، 1985: 170.
2ـ المصدر نفسه: 170.
3ـ أدب الفانتازيا مدخل إلى الواقع، ت . ي . ابتر، ترجمة صبار سعدون السعدون، دار المأمون، بغداد 1989: 236.
4ـ الفينومينولوجية ونظرية المعرفة ـ فراس سراقبي / الأوان 14 نوفمبر 2009.
5ـ الشعور بما هو فانتازي ـ خوليو كورتاثر، ترجمة أحمد عبد اللطيف / أخبار الأدب 18 أكتوبر 2014.
6ـ كتب (جوناثان كلر) في دراسته (القصة والخطاب في تحليل السرد) ترجمة خيري دومة بموقع (أنفاس نت) في 22 نوفمبر 2014: (على المرء لكي يجعل من السرد موضوعًا للدراسة، أن يميز بين السرد واللاسرد، وهذا يتضمن بالضرورة أن السرد ينقل متوالية من الأحداث. وإذا كان السرد يُعرَف بأنه تمثيل لسلسلة من الأحداث، فإن على من يقوم بالتحليل أن يدرك هذه الأحداث، وأنها تقوم بوظيفتها وكأنها أمر لا علاقة له بالخطاب أو بالنص المدروس، كأنها شيء له وجود سابق على عملية التمثيل السردي، ومستقل عنها، وأن عملية السرد قامت بعد ذلك بنقلها).
7ـ دعابة التفكيك أو العلاقة بين نهاية السيد واي واللمبي 8 جيجا ـ ممدوح رزق / دروب 8 نوفمبر 2014.
8ـ رواية خلق الموتى ـ ممدوح رزق / سلسلة إبداع الحرية 2012.
9ـ كتب (تيم باركس) في (بحث في الموثوقية) المنشور بـ (نيويورك ريفيو أوف بوكس) وترجمته أماني لازار بمدونة (الأماني) في 16 فبراير 2015: (بهذه الطريقة أفسر الموثوقية: مهما كانت وسائل الكاتب العديدة التي يعيد تأليف مادته من خلالها، فهي مميزة باعتبارها مادته. قد نقول إنه منصاع/ة للحاجة، أو لمصدر الإلهام، حتى عندما يشرع في عمل من نوع مختلف. بتناولنا لكاتب جديد، قد يكون من الصعب أن نحدد فيما إذا كان العمل موثوقاً أو لا. في هذه الحالة، من الأفضل أن نستمتع بالتشوش الناجم عن عدم معرفتنا الأكيدة بمدى جدية كاتبنا، بوزن الحجج في كلا الجانبين).


الأربعاء، 18 يناير 2017

مختارات «هايكو الحرب» ... فراشة حطَّت على جثث

في كتابه «هايكو الحرب» الصادر حديثاً عن دار «فضاءات» في عمان يقدم آزاد إسكندر ذخيرة مترجمة من قصائد الهايكو لشعراء من جنسيات مختلفة. كتبت الروائية العراقية إنعام كجه جي، افتتاحية للكتاب بعنوان «قصائد ليست عصماء» تناولت خلالها الأصل الياباني لفن الهايكو، واستلهامه للطبيعة، ونزوعه إلى التماهي مع التفاصيل المتبدلة للفصول، من دون ثرثرة أو بلاغة مستهلكة. أشارت كجه جي كذلك إلى انتشار شعر الهايكو في العالم، وإلى ترجماته إلى العربية، سواء من اليابانية أو عبر لغات أخرى، كما عرّفت «هايكو الحرب» بأنه ليس كتاباً عن خراب الأرض بل عن أعطاب الروح.
ويرى المترجم أن هذا الكتاب في أحد وجوهه، هو ثأر شخصي من الحروب ومقترفيها، بعد أن غيَّرت حياته وجرّب النفي مرتين. كتب أيضاً أنه جمع هذه القصائد على مدى عامين، محاولاً أن يضم أقطار الأرض، في حين كان من الطبيعي أن تأتي أكثر القصائد من البلاد التي كان لها نصيب أكبر من ويلات الحروب.
تبدو قصائد الكتاب كأنها قرائن شعرية متباينة على الكينونة الواحدة التي تعطيها الحرب للكائنات والأشياء، فالطيور التي تهرب إلى السماء مع صفارة الإنذار مثلاً في قصيدة ج. كات، كان من بينها ذلك الطير الصغير الذي علَّمه طفل لاجئ الطيران بعد أن سقط من عشه في قصيدة ندى سابادي: «طفل لاجئ/ يعلم الطيران لطير صغير/ سقط من عشه». والطفلان اللذان عثر عليهما ناعومي، وهو يبحث عن قصائد مناهضة للحرب، سيفقد أحدهما يده، وسيحاول عبثاً أن يمسح دموعه بها في قصيدة سيلفا ميزيريت: «يد بتراء/ تحاول عبثاً/ أن تمسح الدموع». أما الجنود الدُمى الذين صفَّهم الصبي لمعركة حاسمة تحت مطر خريفي رتيب في قصيدة ريتشارد رايت فهم الجنود الدمى أنفسهم في قصيدة م. تشيستي، «أسلحة دُمى، جنود دُمى/ دبابات وطائرات وسفن دُمى/ لكن ما من دُمى بهيئة قبور». تمتد هذه الكينونة المشتركة بالضرورة إلى الأداءات المجازية للموجودات، أو العلاقات الرمزية بين كوابيسها.
يمكننا تصور أن الذكرى التي علق بها اللاجئ في قصيدة أندريا تشيكون هي ما كانت تتحدث به مارلينا رينزين إلى الشجرة عبر النافذة عن المطر وعن الحرب، وهي أيضاً ما كان يفكر فيه بيلي ويلسون وهو يضع شمعة مضاءة على كل نافذة مع قرع الطبول، قبل أن تتحوَّل الذكرى إلى طائرة ورقية فوق مخيم اللاجئين والأطفال المُترَبين في قصيدة سيرجي تومي، وإلى الضباب الذي يربط أنقاض جسر في قصيدة نيبوجسا سيمين: «إثر القصف/ أنقاض جسر/ يربطها الضباب». ربما تعني قراءة هذه المجموعة من قصائد الهايكو امتلاك الهوية الجماعية التي يحملها ضحايا الحروب على نحو جمالي. يمكن لكل فرد أن يكون بواسطة الشعر نسخة من المرأة العجوز التي تلعن بقاءها حية، بعد قصف قريتها في قصيدة زيلجكو فوندا، والطفل الذي يركض خلف فراشاته داخل حقل الألغام في قصيدة دوميترود. إيفريم، وأن يكون كذلك الفراشة ذاتها التي حطَّت على جثث في مقبرة جماعية قبل أن يرى جثته بينها في قصيدة سيلفا ميزيريت: «فراشة حطَّت على/ جثث في مقبرة جماعية/ الأرض ما زالت تدور».
يتحول التخييل إلى فعل انتماء لتلك العائلة الكبيرة من المقهورين والموتى، والذين يتبادلون الذكريات عبر الزمن من خلال رسائل مقتضبة، وخزات ولطمات كونية تكفَّل آزاد إسكندر بتجميعها، ليصبح العابر داخل هذا الظلام الأزلي من المفارقات الوحشية، قادراً على تمرير ماضيه إلى أحلامها، ويصير جزءاً من تلك الذاكرة الأبدية. يمثل الهايكو الحضور الشعري الأقرب إلى السكوت. التجسيد اللغوي الأكثر حدة للصرخات المكتومة، والذي قد يعد أقوى أشكال التماثل مع الطبيعة والتقمص لعناصرها. لنجرب على سبيل المثال تأمل قسوة الصمت في قصيدة كارل بالمر، «لا تتذكر/اسم الجندي/ في صورة زفافها». أو الشعور بغُصَّة الحلق في قصيدة بيل باولي، «ابنها ذهب إلى الحرب/ يدان شفيفتان/ في ضوء الشباك»، أو شرود النظرة في قصيدة فيسفينجا ماك ماستر، «نُذُرُ الثلج/ لا أحد ليوقد النار/ قريباً تأتي الذئاب». أو إطراق الرأس في قصيدة جورجا فوكيليتش، «نشرة أخبار المساء/ مقبرة جماعية أخرى/ أحوال الطقس». قصائد «هايكو الحرب» هي المعادل الشعري المضاد لمفردات القتل. الألغام التي يمكن للفقد أن يزرعها في قلب كل مجزرة، وفي تاريخ كل إبادة: الأكياس السوداء التي ترن بداخلها الهواتف النقالة بلا انقطاع في قصيدة ماركوس سولزبرغ، الرجال الذين على عكازات، ويبنون ميتماً جديداً لأطفال بندوب في قصيدة ألان سمرز. الحمامتان على السطح، تعاودان التقبيل بعد وقف إطلاق النار في قصيدة مدحت هينشيتش، كل قصيدة توازي رصاصة بندقية، وقذيفة دبابة، وصاروخ طائرة، في الزمن الضئيل للاندفاع، وفي الأثر الوجودي الذي لا يُمحى.
 جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 17 يناير/ كانون الثاني 2017