الأربعاء، 15 مارس 2017

«هفوات صغيرة لمُغيّر العالم». . قريبًا من «بتانة»

تصدر قريبًا، عن دار بتانة، المجموعة القصصية "هفوات صغيرة لمُغيّر العالم" للقاص والروائي والناقد ممدوح رزق، تضم المجموعة 311 قصة قصيرة، وتقع في 94 صفحة، وكتبت على مدار الثلاثة أعوام السابقة.وتعليقًا على عنوان المجموعة المجموعة المثير، قال رزق: "لم استغرق وقتًا في التفكير في كلماته بل تدفق في ذهني بشكل تلقائي بمجرد الاستقرار على  قصص الكتاب، كأنه الوصف المثالي للمجموعة الذي كان حاضرا بداخلي طوال وقت كتابة القصص، ويعبر عن الجوهر التهكمي لها".
ويحمل الغلاف الخلفي للمجموعة هذه السطور من أحدى قصص المجموعة: "لكن البقاء في البيت لن ينقذني من تلك اللحظات النادرة التي أخرج خلالها فأجدني دون انتباه أحاول تبادل دعابة صغيرة مع بائع الجرائد مثلما كنت تفعل مع العامل أمام ماكينة عصير القصب في ظهيرة الثمانينيات. . لن ينقذني من تجهم بائع عصير القصب الذي امتد عبر ثلاثين سنة ليستقر في  وجه بائع الجرائد. . لن ينقذني من الحرج النادم الذي كان يخفض رأسك وأنت تسير مبتعدًا، كأنك تحاول تثبيت إيمانك بأن طعم القصب هو كنزك الوحيد من الدنيا مثل صفحات القصص القصيرة التي أعود بها إلى منزلي.. البقاء في البيت لن ينقذني من احتضارك وموتك يا أبي".
ممدوح رزق كاتب مصري يتنوع إنتاجه الغزير بين القصة، الشعر، الرواية،  المسرح، والنقد. من أعماله المتنوعة والعديدة: "مكان جيد لسلحفاة محنطة" (مجموعة قصصية)، "الفشل في النوم مع السيدة نون" (رواية)، و"عتبات المحو" (دراسة نقدية). كما كتب سيناريوهات لعدة أفلام قصيرة، وترجمت بعض نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.
له تحت الطبع كتاب نقدي بعنوان (هل تؤمن بالأشباح؟)، يقدم من خلاله  قراءة في كلاسيكيات القصة القصيرة.
هناء نصير / جريدة (الدستور) ـ 11 مارس2017

الاثنين، 13 مارس 2017

تشفير غريزة الموت.. التسامي روائيًا

في بداية رواية (ذاكرة عالقة) لـ (حسان أحمد شكاط) الصادرة عن (دار الأوطان) بالجزائر يشاهد الراوي كلبًا ميتًا ملقى على الطريق بعد أن سحقته مركبة مجنونة، وربما مع تعاقب الصفحات لن نفقد الدافع للعودة والتمعن مجددًا في هذا الكلب الميت. الصحفي (هشام الرايس) في مواجهة طيف هلامي مرعب، ينغص عيشته بالظهور والاختفاء فجأة كأن هذا الطيف يواصل تثبيت اليقين لدى الراوي بأنه نسخة من (جريجور سامسا) بطل (كافكا) في رواية (التحوّل)، وأنه ربما قد حان الوقت لكتابة سيرته الذاتية روائيًا مثل (محمد شكري) في (الخبز الحافي) أو أن يكتبها شخص آخر كصديقه (عبد الحفيظ المحواج) مثلا. لن يكون هذا تعويضًا عما اعتبره صديقه فشلا لروايته الأولى فحسب، وإنما محاولة لتحرير الذاكرة العالقة بواسطة الآخر، أي ما يعادل شفاءً مماثلا من المرض الغريب في الطفولة بعد المسح على قبر الولي الصالح (سيدي حمايدة(.
إن ذاكرة الراوي ليست تلك العالقة في الحياة كتهديد وعقاب فيما بين المحو الكامل أو التصالح النهائي بقدر ما هي تلك العالقة في الموت، الذاكرة التي كان ينبغي أن توجد، ولكن لم يُسمح لها بذلك. التي تم قتلها في بدايتها لصالح ذاكرة أخرى، هي التي عاشت وأصبحت الماضي الذي تكوّنت على إثره حياة (هشام الرايس). كأن الراوي هو ذلك الرضيع الذي قتله أبوه (فتحي) العامل في المقهى، والذي اشتغل به (هشام الرايس) بأمر من (أبيه) في عطلة صيفية لكسب مصاريف الدراسة. الرضيع الذي يبكي قاتله بطريقة هستيرية، ويجعله يهوي برأسه على الجدار، ويتجسد في صورة كلب ميت على الطريق كمرآة أصيلة للراوي.
يمثل انتحار (فتحي) قتلا مجازيًا لوالد (هشام الرايس). انتقام عبر وسيط. كأنه حلم يتحقق للراوي كـ (إين) في جسد أب بديل، وهنا يبدو هذا الانتحار كأنه نوع من إعادة ميلاد الرضيع المقتول ليبني ذاكرته التي لم توجد، وبالضرورة تغييب الذاكرة التعذيبية، غير العادلة التي تشكلت أو الماضي العدائي الذي يقود الراوي. أن ينقذ الذاكرة (الحقيقية) المقصية مبكرًا من وضعيتها العالقة في الموت. طريق الوصول إلى الأب المنقذ الغيبي للذاكرة المثالية المقموعة.(أصابني شلل وعلى حين غرة شبت ألسنة من لهب بباب الغرفة. سرعان ماإنتقلت الى كل الزوايا. الجدران والأفرشة وكل الأغراض، تخبطت وصحت وانكمشت على نفسي متقيا ألسنة اللهب التي تكاد تبلغ جسدي النحيل. عاد الهتاف بإسمي. هشام. هشام. لا. لا يافتحي. أنا لا أستحق كل هذا. – لاتحرقني. لا تحرقني. هشام. هشام. هشام. – لم يجئني كلام آخر. عدى الهمس والهتاف بإسمي. أحسست وكأن اللهب يحرق جسدي. تأوهت توجعا وتخبطت كالذبيحة. أيدي خفية سحبتني من رجلاي وإنطلقت بي في سرعة جنونية فإرتطم جسدي بالجدار. وراحت الأيدي تضرب رأسي بعنف، إبتلعتني ألسنة اللهب وطوقتني هالة حمراء. ولم أعد أعي شيئأ مما يدور حولي).
يمكننا مقارنة (فتحي) بوالد الراوي العنيف، مدمن الكحول ثم مدمن المقاهي الذي يموت بسرطان الدم، وفي نفس الوقت يمكن للشيخ (بوزكري) الذين كانوا يدعونه بالمجنون، ويتجول في الشوارع في ساعات الليل المتأخرة ويهتف (أفيقوا يا ناس. أفيقوا قبل فوات الأوان) يمكن له أن يكون الذاكرة ـ التعذيبية التي تنبئ بالذاكرة العالقة في الموت ـ وقد تجسدت مبكرًا، كمصير يدرك ذاته، ويسعى لمراوغة هذا القدر عبر الهتاف التحذيري. الذاكرة التي تنطوي على الحضور البشري (اللغة التي لا يمكن التواصل من خلالها) والتي تقدّم الطفل / الراوي نحوها بعكس المذعورين المبتعدين كي يشاهد نفسه: رضيع محترق. كلب ميت على الطريق. الطفل الذي توزعت ذاته بين العاشق السفاح (يمكن مقارنته بفتحي سواء على مستوى القتل أو الانتحار بالشنق)، وأفراد الأسرة التي قام بإبادتها. إن هذا أشبه بتشفير غريزة الموت في الكتابة، أو التسامي روائيًا عبر توليف سلسلة من القتل والانتحار الأبوي والعائلي ذات الملامح المشتركة، وقبل كل شيء التخلص من الجسد (الذي يمنع عبور الذات إلى المطلق) على نحو يبقي الوعي شاهدًا على ما تم.
موقع (زائد 18) ـ 9 مارس 2017

الأربعاء، 8 مارس 2017

قصص قصيرة جدًا

بيت الصياد
ليس لي بيت بعيد .. يمر العابرون أمامه، ويتطلعون برهبة لنوافذه المظلمة ثم يمضون لينسجوا حكايات كثيرة ومختلفة عني، وعن البيت الصامت المظلم البعيد .. لا يتحدثون بخوف كبير عن الشبح الغامض، الذي لا يظهر أبدا، ويحرق كل من يقترب من بيته .. ليس لي بيت بعيد، أمضي الوقت بداخله، جالسا فوق ركام ما، فرحا بعزلتي، وبقدرتي على الخروج ليلا، متنكرا في هيئة طفل أحيانا، وعجوز أحيانا أخرى، والعودة بضحكات كافية لوقت قادم .. ليس لي بيت بعيد .. عندي قارب قديم، أذهب وأعود به إلى البحر .. أحيانا أستضيف أصدقائي بداخله، وأمازحهم قائلا: (مرحبا بكم في السماء).

الغرق 
كنا نجلس صامتين .. نراقب البحر وهو ينظف فمه الواسع بكثير من الأمواج العالية .. كنا شاردين تماما .. لم أقل لكِ: (انظري إلى هذه الطيور) .. لم تقولي لي: (انظر إلى هذه الطيور) .. فعلناها بلا اتفاق، ورفعنا رأسينا إلى أعلى، وراقبناها وهي تحلق عاليا وتبتعد .. حينما غابت .. أخفضنا رأسينا، بلا اتفاق أيضا، وعدنا ننظر ناحية البحر، الذي كان خاليا، إلا من رأسين يختفيان ببطء، بين الأمواج الكثيرة العالية، التي تنظف فم البحر الواسع.

الحفر 
فوق أرض بعيدة، يقف وحيدا .. يتلفت حوله، ويحفر .. بلا خرائط قديمة، تحدد بالضبط أين وكيف يمكن العثور على الأشياء المهمة .. فقط كلما تلفت حوله، ازداد إيمانا بأنه لابد أن يحفر حتى أصبح منهكا تماما، وصارت حفرته عميقة جدا، دون أشياء مهمة، فقرر بأن هناك أمور إيجابية؛ فحفرته على الأقل تصلح كمخبأ، أو مكان للتأمل في الحياة .. يمكنه أيضا أن يستضيف بداخلها أصدقائه الحفارين، الذين سيأتون من أراض بعيدة أخرى .. يمكنه كذلك أن يكتب سطورا كثيرة عن يومياته فى الحفر، وعن لغز عدم العثور على الأشياء المهمة، رغم الاقتناع بضرورة الحفر ..  لكنه لسبب ما، لن يدوّن شيئا عن الأحجار الصغيرة التي تنمو من حوله.

جلد عالق 
أستطيع أن أجزم الآن، بأن انتظاري الطويل، للانفجار القادم من أعمق نقطة في جسدي، لن يلاقي مصير فقاعة .. كل هذا التمهيد اللازم دون شك، عرفني أن البشر حينما يفشل واحد مثلي في تحويلهم إلى خيالات عابرة، يصبحون جديرين بحسده .. البشر الذين يخرجون إلى الشوارع بلا أسباب للدوار أو الرعشة، ودون فكرة عن مقاومة الإغماء، حتى الوصول إلى بيت ما .. عرفت أن الماضي، لا يحتمل تشبيهه بكائن مؤقت، يمكن لابتسامتك أن تلوح له بالوداع، من نافذة قطار مثلا، بل يمكنك تشبيهه بالقطار نفسه، الذي يجرك تحت عجلاته السريعة، تاركا لك كل الفرص للتعبير عن عمائه بما لا يضر علاقتك الوطيدة بالحواف الهوائية، التي تستند عليها في كل عتمة .. عرفت أن ما أنتظره لن يكون انفجارا تقليديا، بل كل ما سيمكن سماعه، صوت انقطاع خيط، كان رفيعا جدا.

حكايات متواطئة
أصدقائي  يخبرونني بحكاياتهم، ولا يتذكر الواحد منهم، أنه أخبرني بحكايته هذه أكثر من مرة من قبل .. أنا كذلك لا أجعله ينتبه .. أصغي إليه متظاهرا أنها المرة الأولى  .. ربما أفعل نفس الشيء أيضا .. أكرر الحكايات لأصدقائي، دون أن أشعر، وربما يتظاهرون أيضا بأنهم لم يستمعوا إليها من قبل .. نعم، إلى هذه الدرجة نعرف أننا غير مثبّتين جيدا في الحياة، كقشور طلاء صغيرة، تتدلى من سقف عال وشاسع .. نعرف أن أشياءنا يلزم أن نتكلم عنها كثيرا،  كي تلتصق بأي ذاكرة، تساعدها على التخلص من تشبّعها الرهيب بالفناء .. أنا وأصدقائي لا نحتاج للانتباه .. نحن نعرف أننا نكرر حكاياتنا، وأننا نتظاهر كي يسمح كل منا للآخر بالخلود، حتى انتهاء زيارة منزلية مثلا .. نحن متواطئون للغاية كحكاياتنا المكررة، المتواطئة في أن أهم ما فيها، ليس موجودا أبدا.

الاستيقاظ في منزل ما 
ماذا لو أحضرت كرسيا أو سلما، كي أصعد لملامسة هذا الجزء من السقف الذي لم ألمسه أبدا؟ .. أيضا، هذا الركن من الردهة، لم أضع يدي فوقه إطلاقا، وتلك الزاوية من الحائط، لم أتحسسها أبدا .. لما لا أفعل ذلك الآن؟ .. لماذا تأخرت في الجلوس فوق هذه المساحة من الأرضية كل هذه السنوات؟! .. كذلك حافة الدولاب العلوية، لم أمر عليها حتى بإصبعي من قبل، والمسند الخشبي للسرير، رغم أنه صغير بدرجة ما، ومع ذلك لابد أنني لم ألمس جميع أجزائه .. حقيقة، من الذي يسكن هنا؟.

الحياة والموت 
وبعد أن عادت العجوز الى بيتها، جلست صامتة .. بعد أن تلفتت كثيرا حولها بدأت تضحك .. بالطبع؛ فهي لا تعرف لماذا فعلت ذلك .. لماذا خرجت مسرعة من البيت، في هذه الساعة المتأخرة من الليل، لتذهب إلى الصيدلية المجاورة، وتطلب من الطبيب أن يقيس لها ضغط الدم؟ .. لا تدري لماذا ظلت عيناها تتحركان فى قلق بين درجات المؤشر وعيني الطبيب .. بالفعل، هي لا تدرى لماذا فعلت ذلك .. لهذا تضحك .. لكنها ستصمت حينما تنتبه إلى أن الرجل والمرأة، اللذين يسكنان فى البيت المقابل ما يزالا مستيقظين، ويتبادلان الحديث .. العجوز ستقرر الآن، الوقوف قليلا في شرفتها.
جريدة (القصة) ـ العدد الخامس ـ مارس 2017

الثلاثاء، 7 مارس 2017

طريقة آمنة للانتحار (مسرحية قصيرة في فصل واحد)

الشخصيات:
ـ رجل عجوز في منتصف الستينيات تقريبًا.
ـ شاب في منتصف الثلاثينيات تقريبًا.

المكان:
جزء من شارع غير مزدحم.

الوقت:
ظهيرة شتوية

شجرة تعلو رصيفًا على جانب الطريق، يجلس الرجل العجوز تحتها، فوق حافة الرصيف، بجانبه كرسي متحرك فارغ .. العجوز لا يبدو على وجهه أكثر من الشرود بينما يراقب ما حوله في صمت .. يدخل الشاب إلى المسرح، يمر أمام العجوز بخطوات بطيئة نوعًا ما وهو ينظر إليه ثم يعود ليقف بجواره.

الشاب: مساء الخير.
العجوز (بابتسامة خفيفة وهزة رأس مُرحبة): مساء الخير .. أهلا بك.
ـ هل تعرف إن كان يوجد محل لبيع الزهور بالقرب من هنا؟
ـ كلا .. أنا غريب عن هذا الشارع .. فقط أجلس لأستريح قليلا.
ـ هل تريدني أن أساعدك في شيء؟
ـ أشكرك .. أنا بخير .. أنت تعرف، في عمري هذا يزداد التجول في الشوارع صعوبة يومًا بعد آخر.
ـ لقد رأيتك من قبل أكثر من مرة في شوارع مختلفة، تدفع هذا الكرسي الفارغ.
ـ كرسي فارغ؟! .. أنت إذن مثل كل هؤلاء الذين لا يستطيعون رؤيته.
ـ رؤية من؟
ـ إبني الوحيد .. الولد الجميل الذي يجلس أمامك .. إنه لا يسمعنا، كما أنه لا يستطيع أن يتكلم، أو ينهض من مكانه .. من المؤسف أيضًا أنه لا يستطيع أن يمد يده ليصافحك، لكن ها هو يبتسم لك .. لماذا لا تبتسم له أنت أيضًا؟

(ينظر الشاب إلى الكرسي الفارغ، ويبتسم ثم يرفع يده بتحية خاطفة ومرتبكة).

الشاب (كأنما قرر مسايرته لتسلية ممزوجة بالشفقة): أنتما تتنزهان يوميًا إذن؟
العجوز: نعم .. أخرج به كل يوم، نتجول في شوارع المدينة ثم نتوقف قليلا كي ألتقط أنفاسي، وبعد ذلك أعود به إلى البيت .. نحن نعيش وحدنا منذ زمن طويل، وأنت من يعيش معك؟
ـ لا أحد .. لقد مات كل أفراد عائلتي.
ـ لابد أن لديك أصدقاء إذن؟
ـ كان عندي الكثيرين ممن يبدون كذلك، ابتعدت عنهم جميعًا، ومنذ زمن طويل لم أعد أغادر البيت إلا نادرًا.
ـ وإلى أين تذهب في تلك المرات النادرة؟
ـ أتجول وحدي، أشتري جريدة أو كتابًا، أجلس أحيانًا في مقهى لأراقب العابرين ثم أعود سريعًا.
ـ أنا أيضًا لم أقابل أحدًا منذ فترة بعيدة، المرة الأخيرة كانت منذ عدة شهور حينما حاولت إيقاظ هذا الولد في الصباح فلم يستيقظ .. ناديت واحدًا من الجيران فجاء ليساعدني في إيقاظه، لكنه فشل مثلي .. بعد قليل وجدت أشخاصًا لا أعرفهم يحملون جسدًا صغيرًا، ويخرجون به من البيت إلى مكان ما .. لم أكن أدري شيئًا عما يحدث، ولم أفهم ما الذي كان يعتقده هؤلاء الغرباء، لكنني  حقيقة، لم أهتم بسؤالهم .. كل ما كان يعنيني هو انتظار إبني  حتى يستيقظ، ولهذا ظللت جالسًا بجواره فوق السرير .. كنت أعرف أن هذا الولد الماكر يحلم حلمًا جميلا، وأنه يرفض مغادرته .. ربما كان يرى نفسه طائرًا يحلق في السماء، ويرقص بين النجوم .. لم أستطع التأكد منه حينما استيقظ، وإن أعطتني ملامحه السعيدة إنطباعًا قويًا بذلك وأنا أجهز فطوره، وأبدّل ملابسه، وأجلسه فوق كرسيه، ثم أخرج به كما تعوّدنا.
ـ كم يبلغ من العمر؟
ـ إثنا عشر عامًا.
ـ لقد كتبت في مثل عمره قصة قصيرة عن ولد يجلس فوق كرسي متحرك، يحاول الاستجابة لنداء نجمة، لكنه حينما حاول النهوض للطيران إليها سقط على الأرض.
ـ هل مازلت تكتب القصص؟
ـ نعم، وجميعها تحكي نفس الحكاية بطرق مختلفة.
ـ لقد قرأت الكثير من القصص .. أتذكر جيدًا رجل عجوز على الجسر لهمنجواي، أمام القانون لكافكا، الشحاذ أو الكلب الميت لبريخت .. هل قرأتهم؟
ـ نعم قرأتهم جميعًا.
ـ هناك شيء مشترك في هذه الحكايات .. شخص يجلس أو يقف في مكان ما ثم يأتي شخص آخر لا يعرفه كي يتكلم معه .. شخص لديه حاجة قهرية إلى هذا الغريب .. هذه الحاجة دائمًا ما تكون اعترافًا لا يتم.

(صمت)

الشاب: هل لاحظت أنه لم يعبر أحد من هذا الطريق منذ أن بدأنا نتحدث؟
العجوز: نعم، هذا بالتأكيد أمر نادر، فهذه المدينة ينقص هواؤها لحظة بعد أخرى.
ـ لكنها ممتلئة بالكثيرين الذين أتمنى رؤيتهم يتعذبون.
ـ وهل هم لا يتعذبون بالفعل؟
ـ نعم، ومع ذلك طالما أنهم لم يتعذبوا بسببي فإنهم سيظلون أكثر البشر سعادة بالنسبة لي.
ـ لا يبدو لي أنك من النوع الذي يستطيع أن يؤذي أحدًا باستثناء نفسه.
ـ أنت لا تعرف شيئًا عني.     
ـ حسنًا .. هل تريد تعذيبهم أم قتلهم؟
ـ كلا .. لا أريدهم أن يموتوا .. أريدهم أن يظلوا أحياءً.
ـ وماذا لو أفضى العذاب إلى الموت؟
ـ لا أدري .. أعتقد أن الندم سيقتلني حينئذ.
العجوز (بسخرية): يبدو أنني أعرف عنك أكثر مما تتخيل.
الشاب (بسخرية عصبية مضادة): حقًا؟ .. هل تظن أن الخوف من موتهم هو ما يعطلني عن إيذائهم؟
ينهض العجوز ويتحرك حول الشاب: كلا .. لا أظن ذلك، ولكنه على الأقل هاجس لا يفارقك، أما الذي يعطلك بالفعل، أنك لم تعرف بعد كيف تنتقم دون أن يكتشف أحد بصماتك .. أليس كذلك؟
ـ هذا صحيح، ولو أن الأمر أكبر بكثير مما تعتقد .. إنني لا أريد الانتقام من بعض البشر فحسب .. إنني أريد تحويل هذه المدينة إلى ظلام تام لا تضيئه إلا الحكايات الفاضحة.
ـ أنت تحتاج إلى شخص مثلي إذن.
الشاب (بتهكم قلق): مثلك أنت؟
ـ نعم .. شخص قضى عمره يتجوّل في كل الشوارع  .. يحتفظ بالكثير من الأسرار .. من يدري .. ربما يمتلك قصصًا غريبة حدثت في بيوت قديمة .. ربما لديه صور .. أوراق .. أصوات مسجلة .. خرائط .. مخطوطات لا يعرف عنها أحد شيئًا .. شخص يستطيع أن يسافر عبر الزمن كلما نزل إلى قبو صغير في منزله.
الشاب (مقويًا نبرة الاستهزاء): حسنًا .. وما الذي فعلته بكل هذه الثروة العجيبة؟
ـ لا شيء .. أنا مجرد ذاكرة .. ماض محايد، يخلو تمامًا من العداوات كما يخلو من التطلعات .. أنا لا أريد شيئًا من هذه المدينة، ولا يرجع هذا لكوني أصبحت عجوزًا بل صدقني؛ لقد كنت هكذا دائمًا طوال حياتي .. أجمع أرواح العالم، وأنا في عزلة تامة عنه.
ـ ربما أنت لا تعرف إذن ما الذي يعنيه أن تقضي حياتك مسجونًا داخل الحواف المائعة، عاجزًا عن أن تكون متورطًا كما يجب، أو منفصلا كما يجب .. ربما أنت لا تعرف ما الذي يعنيه أن يكون مفترق الطرق تعريفًا بائسًا لعمر ينتهي كلحظة خاطفة دون أن يكترث أحد بذلك .. نعم .. هذه المدينة ممتلئة بالكثيرين الذين أتمنى تعذيبهم .. أريد أن أحوّل كافة الأشياء الماسخة التي صنعت وجودي إلى كوابيس تملأ لياليهم .. ربما أنت لا تعرف ما الذي يعنيه أن تسكن عتبات ضبابية يمر فوقها الشامتون.
ـ لمن كنت تريد شراء الزهور إذن؟
ـ الزهور؟
ـ ألم تسألني منذ قليل إذا ما كان هناك محل لبيع الزهور في هذا الشارع؟
ـ نعم .. كنت أريد شراء الزهور لنفسي .. كنت سأضعها فوق طاولتي المنزلية التي أجلس أمامها في الظلام كل ليلة .. ربما كنت أعطيت وردة لإبنك.
ـ إبني .. أي إبن؟
ـ هذا الولد الجميل الجالس فوق الكرسي.
ـ عزيزي الشاب الطيب؛ لا أحد يجلس فوق هذا الكرسي .. لقد مات إبني منذ عدة شهور، ومنذ ذلك اليوم أخرج كل ظهيرة لأدفع هذا الكرسي الفارغ إلى الشوارع كما اعتدت أن أفعل، كأنه لا يزال حيًا .. كأن روحه لا تزال جالسة فوق هذا الكرسي؛ تراقب الناس، وتأكل الآيس الكريم، وتبتسم للقطط التي تأتي لتجلس بجانبه .. أصبح الخروج بهذا الكرسي الفارغ هو السلوى المتبقية لحياتي .. العزاء الوحيد بعد فقده .. أصبح الخروج بهذا الكرسي الفارغ هو الطريقة الوحيدة التي تساعدني على استرداده من الموت.
ـ حسنًا .. ماذا عن الأسرار والحكايات الغريبة التي لديك، ألن تطلعني عليها، أو على الأقل على بعضٍ منها؟
ـ ماذا ستفعل بها؟
ـ أنت تعرف .. سأستعملها في تعذيب أعدائي بالطبع .. سأصنع مزيجًا بين هذه الغنيمة والقصص التي أعرفها عنهم .. جروحهم المخزية التي أحتفظ بها في ذاكرتي .. سأخلق لكل واحد وواحدة حياة جديدة تتناقلها الألسنة في هذه المدينة، ثم تتطور عبر الزمن دون أن تخبو.
ـ هل أنت واثق من أنك ستستطيع أن تفعل هذا؟
ـ بالتأكيد.
ـ ألن تظل تكتب فقط ما تتمناه ولا تقدر على تحقيقه؟ .. ألن تتزايد الأوراق التي تدوّن فيها أحلامك التي لن تتجسد أبدًا في الواقع؟ .. ألن تواصل حكاياتك اختباءها بعيدًا عن عيون الشامتين؟.
الشاب (بغضب): لا أعلم ما الذي يدفعك لمثل هذه التساؤلات الأشبه بتوقعات سخيفة.
ـ ألم أخبرك بأنني أعرف عنك أكثر مما تتخيل.
ـ حسنًا .. سأفترض أن توقعاتك صائبة تمامًا، وأنني سأظل عاجزًا عن تحقيق أمنياتي، وعن تجسيد أحلامي، وأن حكاياتي الانتقامية ستظل مختبأة بعيدًا عن الذين أود تعذيبهم .. سأفترض أن لديك كل الحق في ظنوك، ومع ذلك أنت أيضًا لا تبدو لي كشخص يمتلك أسرارًا أو قصصًا غريبة.
العجوز (بسخرية): وكيف يبدو من يستطيع السفر عبر الزمن في تصورك؟
ـ لا أدري، ولكن كل ما أعرفه أنه لن يكون في عينيه مثلك هذه الغفلة المعتادة التي تسكن عيون الجميع.
العجوز (يضحك): حسنًا .. أنت تلعب جيدًا، ولهذا سأعطيك مكافأة صغيرة .. سر واحد فقط سأخبرك به .. ما رأيك؟
الشاب (مبتسمًا كأنما حقق انتصارًا خبيثًا): وهل من الممكن أن أرفض؟
ـ لقد مات إبني مقتولا.
الشاب (محاولا السيطرة على صدمته): ومن الذي قتله؟
ـ أنا.
(يظل الشاب صامتًا، بصدمة كاملة، دون سيطرة)
العجوز (بألم كأنه على وشك البكاء): نعم .. لقد ظل يعاني فوق هذا الكرسي لسنوات طويلة منذ أن كان في الثانية عشر من عمره حتى أصبح شابًا في الثالثة والعشرين، وكنت أدرك تمامًا أنه لو أصبح عمره مائة عام فإنه لن يغادر هذا الكرسي، وأن معاناته هذه لن تساوي شيئًا أمام ما سيلاقيه وحده بعد موتي .. لذا قررت أن أنهي حياة هذا الولد المسكين قبل أن يجد نفسه وحيدًا .. قتلته دون ندم، وبطريقة لم يكن من الممكن أبدًا أن يكتشفها أحد.
ـ وما هي؟
العجوز (بابتسامة تزيح الألم من ملامحه تدريجيًا): هل تعتقد فعلا بأنني سأخبرك؟
ـ ولم لا؟ .. هل تخاف مني؟
ـ أنت تعرف جيدًا من منا يشعر بالخوف تجاه الآخر، ولكن يكفي أن أخبرك بأن واحدة من الحكايات الغريبة التي أمتلكها هي التي ألهمتني طريقة قتله.

(صمت)

الشاب: ما رأيك لو أخبرتني فقط ببداية هذه القصة؛ فربما أستطيع أن أستنتج وحدي بقية تفاصيلها حتى نهايتها.
العجوز: حسنًا .. كان هناك في هذه المدينة جماعة من البشر، يعيشون في بيت قديم، ينسى كل واحد منهم في صباح كل يوم أي صلة تربطه بالآخرين، وما الذي جاء به كي يعيش معهم في هذا المكان.
ـ نعم .. وهذا ما كان يحتم عليهم أن يتعرفوا على بعضهم من جديد كل صباح.
ـ بالضبط.
ـ ولكن التعارف كان يتم كل يوم بطريقة أسوء من اليوم السابق.
ـ أكمل.
ـ حتى بدأوا يختفون من البيت واحدًا وراء الآخر.
ـ هذا صحيح.
ـ وفي النهاية تبقى شخص واحد فقط.
ـ نعم.
ـ هذا الشخص لم يعد ينسى، وإنما على العكس تضاعفت ذاكرته فجأة كأنما أصبح ماضيه يحمل حياة كل واحد من الذين كانوا يعيشون معه.
ـ بالفعل.
ـ ثم قضى أيام وشهور وسنوات وحدته في محاولة استعادتهم.
ـ أكمل.
ـ ظل يكتب، ويخلق قصصهم من جديد، حتى اكتشف تدريجيًا الطريقة التي قتلهم وأخفاهم بها دون أن يشعر.
ـ وهذه الطريقة هي؟
الشاب (ينظر في عيني العجوز كأنما يفيق من غيبوبة بتنفس ثقيل): أنت كاذب.
ـ لكنني كان يجب أن أفعل هذا.           
ـ حسنًا .. أنت ...
ـ نعم .. أنا لم يكن عندي ولد في يوم من الأيام.
ـ لماذا ...
ـ لأنك طوال الوقت تنتحر بطريقة آمنة.
ـ لكنني ...
ـ أنت كاذب أيضًا.
الشاب (باستسلام مقبض): نعم .. أنا لم أكن أبحث عن محل لبيع الزهور.
العجوز (بابتسامة منتصرة وهو يشير إلى الكرسي): ماذا تنتظر إذن؟

يجلس الشاب فوق الكرسي .. يدفعه العجوز إلى خارج المسرح.

(ظلام)
صحيفة (المثقف) ـ 6 / 3 / 2017
الصورة لـ Joel Peter Witkin

الأحد، 5 مارس 2017

حافة الكوثر‮:‬البوح الذاتي في عناية التهديد‮!‬

إذا كان التهديد كسلطة قدرية هو ما سيحرضنا علي عدم إعطاء الثقة الكاملة فيما هو واقعي أو تخيلي في رواية (حافة الكوثر) لعلي عطا، الصادرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية؛ فإنه سيحرضنا بالضرورة علي عدم إعطاء هذه الثقة في تفاصيل جحيمنا الشخصي، الجدير بأن يوصف بأنه يقع علي (حافة الكوثر). ربما هذا هو التعريف الأساسي للتهديد، أو حكمته الجوهرية؛ ليس أن يخضع الوهم والحقيقة كلا منهما للآخر، أو أن ينطوي كلاهما علي الآخر، فيصيرا كينونة واحدة بحيث لا يمكن التمييز بينهما، ولكن قبل أي شيء ألا يكون هناك استقلال حاسم لأي منهما في الأصل، يجعله مضادًا للآخر.
(هذا ما فكرت فيه وأنا أتأمل حالي مع الاكتئاب، فيما كان مدير "الكوثر" يتحدث في برنامج إذاعي، وكنت أسمعه بتركيز شديد وأنا أقود السيارة في طريقي للشغل: "الاكتئاب يا جماعة لا يعني الحزن الظاهر بالضرورة، فقد تجد صاحبك يشاركك الضحك والمرح، وفي اليوم التالي، يردك نبأ أن الاكتئاب دفعه إلي الموت منتحرًا").
> > >
يحضر التهديد بوصفه تغييبًا جذريًا لما يُسمي بالواقع والخيال، اختفاءً للانقطاعات بين الأزمنة، وهو ما يحوّلها إلي ذاكرة مفتوحة لظلام غير قابل للتحديد. من هنا يتم النظر إلي الحياة باعتبارها انتماءً مؤقتًا إلي حافة لا يمكن تسيمتها إلا بهذه الكلمة التي تبدو تهكمية لو توقفنا أمام دلالتها اللغوية: نهر في الجنة .. الخير الكثير في الدنيا والآخرة .. الشراب العذب.
يتجسد هذا التغييب للفصل بين الحقيقة والوهم في محو الفرق بين المقيمين داخل مصحة (الكوثر) للأمراض النفسية والعصبية حيث يعالج (حسين) بطل الرواية من الاكتئاب، والذين يعيشون خارجها؛ فنزلاء المصحة هم نسخ من الآخرين الذين لم يأت دورهم بعد للمرور نحو (الكوثر)، أو كأن الموجودين خارجها هم سكان هذه المصحة بالفعل، لو تكفلت أذهاننا بهدم الجدران العازلة التي تُزيف هذا التباعد، وتقمع حقيقة (الكوثر) كطبيعة مهيمنة، غير محكومة بحدود مكانية.
(أنا غريب هنا، وأصبحت غريبًا هناك. فقدت وطني للأبد. أبي مدفون في المنصورة في المقبرة نفسها التي دُفنت فيها جدتي لأمي، وهي مقبرة صدقة، أوصت أمي بأن تُدفن فيها هي الأخري، ونفذنا الوصية. لعائلة أمي مقابر في القرية التي ولدت فيها، ولعائلة أبي مقبرة في باب النصر، بالقاهرة. أما أنا فتنتظرني مقبرة شيّدتها علي طريق الواحات بالقرب من مدينة السادس من أكتوبر).
> > >
تكشف الرواية عن غرضين مختلفين لعنوانها، لكنهما ينسجمان داخل إطارها العام القائم علي سلطة التهديد: الأول يدفعك لعدم الثقة بأنك تعيش حقًا علي (حافة الكوثر) بل أنك تعيش داخلها حقيقة، وبطريقة ستساعدك هذه السيرة الممزقة لصحفي (وكالة أنباء المحروسة) علي إدراكها. الغرض الآخر هو أنك بالفعل تعيش علي (حافة الكوثر) كمكان له حيز ملموس، ولكنك في الواقع تنتمي إلي هذا الفضاء المغلق، ولهذا عليك ألا تطمئن لوجودك في الخارج، حيث يمكنك في أي لحظة أن تجد نفسك شريكًا للشاعر الذي يفتش عمن يحدثه عما أنجزه في تطوير الشعرية العربية، والشخص الذي لا يكف عن السؤال (هل التدخين ينقض الوضوء؟)، ولإبن ضابط الشرطة الذي مات أبوه وهو في الرابعة من عمره، والصيدلي الذي قتل ابنة شقيقته، ورئيس المحكمة الذي يردد: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وهنحكم بشرع الله"، وعميد كلية الهندسة الذي علي استعداد لتولي منصب رئيس الوزراء بصلاحيات تفوق رئيس الجمهورية ليُبقي علي القاهرة كعاصمة.
تبدو الحياة التي يعيد سردها (حسين) لصديقه (طاهر) من خلال الرسائل كأنها استعراض متحسّر لتاريخ الدوافع المتراكمة لعدم الثقة، حصيلة التهديدات المتعاقبة التي بدأت منذ طفولته في بيت قريب من (المحطة الفرنساوي)، مرورًا بسفر أمه بعد ولادته بأيام قليلة من المنصورة إلي القاهرة وهي تحمله علي يدها بحثًا عن أبيه المختفي، وذهابه مع أبيه إلي الباطنية،واستشهاد خاله في حرب 73، وموت عمه النشال في ريعان الشباب، وموت أبيه ودفنه في مقبرة لا يمتلكها، وموت الأسطي الشاب صعقًا في ورشة العلب الخشبية بعدما ناوله (كصبي يعمل تحت يده) أحد مربعات الخشب، وموت أمه بعد دقائق من عودتها من صرف المعاش، ونجاته من الغرق في نيل جزيرة الورد، وحتي وجوده كزوج عالق بين زوجتين، وأب لإبنة مطلقة، وجد لحفيدة مصابة بالسرطان، وشاهد علي ضياع أحلام ثورة 25 يناير .. سفر .. تنقل .. ملامسة الموت .. تناثر الروح داخل أجساد أخري .. فقدان متواصل .. جروح تنمو كعلامات احتضار .. ضياع الأمنيات لصالح يأس عام.
(وقد تشكل الكتابة هنا حلًا، لكن الكتابة في حد ذاتها عملية شاقة وعسيرة، فقط تذكّر هنا قول صديقنا إبراهيم أصلان: إنني أكتب بجسمي كله، ومع ذلك، لابد من إقامة أكثر من ركيزة للتوازن في عالم لا يني يتأرجح بحدة أحيانًا).
تمثل الشذرات والاقتباسات: (حلمي سالم)، (إيزابيل الليندي)، (بابلو نيرودا) سعيًا لمجابهة التهديد بتشييد عالم من التوترات المضادة تماثل بشكل عدائي خبرة الفقد المتجذرة في حياة (حسين). نوع من المسايرة المعاكسة بتكوين بناء سردي متصدع يعادل التفتت الذاتي بحثًا عن صفقة ما بين العالمين، تبادل مبهم له سمة الصراع بين المعطيات التي يمتلكها كل منهما؛ إذ يمكن للحياة التي أُعيد بعثها سرديًا أن تتحوّل إلي وجود مختلف يمكن للقدر بشكل ما التسامح مع بقائه. (علي عطا) يمرر في كل كلمة، وعبر كافة الفراغات هذا الرهان علي إمكانية الوصول إلي حسم نهائي بواسطة الكتابة لهذه المجابهة، وفي نفس اللحظة يستعيد هذا الرهان ثانية كأنه يذكرنا بأن حكاياته لا تزال منذورة لانعدام الثقة. هنا يمكن تعيين البوح كأكثر المناطق اقترابًا من الأمان، وفي الوقت ذاته أكثرها إستيعابًا بأنها الأقرب لحافة التهديد الفعلي الحاضر والراسخ دون اختلال. أن لها بُعدا منقذا علي مستوي افتراضي، متخيل، كظن جمالي يمتلك مبررات خاصة لعدم الرضوخ إلي الواقع، وأيضًا هو أكثر الأساليب ملاءمة للتعرّف علي وحشية هذا الواقع بمستوياته المتعددة.
(الجنون لا أحبذه لأن شيئًا آخر في أعماقي يدفعني إلي أن أعيش آخر لحظاتي في الحياة واعيًا بما يحدث. أما الانتحار فيبدو أنني لست علي شاكلة أولئك الناس الذين يفضلون الذهاب من قبل إنجاز المهمة. فكما الخذلان أمر بشع، فكذلك التوقف عند منتصف الطريق. علي أن كل هذا الشد والجذب يُولّد متعة ما).
> > >
يستخدم (علي عطا) بطل روايته في اقتحام شخصيات أخري عاشت نفس التهديد بصور أخري مثل (سعاد حسني)، (صلاح جاهين) ليس فقط كشكل من أشكال الدعم، أو للعثور علي خلاص ما من خلال فهم أو معرفة ينتزعها التأمل في الحيوات الأخري، وإنما كمحاولة للعثور علي ما لم تتمكن تلك الشخصيات من اكتشافه حينما كانت تعيش هذا القدر دون قدرة علي التحرر من سطوته قبل الموت.
(في اللحظة ذاتها، بدت لي سعاد حسني في تمام ألقها، وهي تشارك صلاح جاهين الغناء في الكوثر ... "بانو بانو، علي أصلكو بانو"، فضحكت، يا صديقي، كمن وجد أخيرًا تفسيرًا سهل المنال للغز مُحير، فيما كان يمر بجانبي أتوبيس عام يعلن علي جانبيه عن توافر "أحدث جهاز تعويضي للرجال"، لدي مستورد يدعي المهندس أبو طاقية!).
كأن (علي عطا) سيتكفل بإنقاذهم ـ رغم موتهم ـ لو تمكن من إنقاذ بطله عبر توسيع نطاق البحث عن الأدلة ليمتد من حياته إلي ما بعد حدود الآخرين بوصفها(حواف)أو ممرات وليست حواجز مانعة. يضيء السرد هذا التشابه والتلاحم بين القصص المختلفة للآخرين باعتبارهم ذاتا واحدة متعددة التفاصيل، كأنه يحقق كلمات (نيكوس كازانتزاكيس) التي اختارها كتصدير للرواية: (إنها لمعجزة إذن هذه الحياة، كيف تمتزج بها أرواحنا عندما نغوص داخلنا ونعود إلي جذورنا ونصبح شيئًا واحدًا).
جريدة (أخبار الأدب) ـ 3/4/2017