الأربعاء، 16 أبريل 2025

الأخضر واليابس: الأصوات والأحجار

لم تكن الأحجار التي ملأت فرجينيا وولف جيوب معطفها بها قبل أن تنزل إلى نهر “أوز” سوى تمثيلًا ملموسًا لتلك “الأصوات داخل رأسها”. الأصوات التي حينما أصبحت وولف عاجزة عن تحريرها، كما كان قتالها الكتابي المتواصل مع الذاكرة، قررت أن تجسّد لحظة استسلامها لأشباح “غرفتها” الغيبية التي تخصها وحدها ولم تطأها مطلقًا، وكأن انتحارها مكيدة ختامية للانتقام من الغرق الذي اكتشفته منذ لحظتها الأولى.

“لقد عدتُ إلى الجنون مرة أخرى. ولا أظنّ أن بإمكاننا النجاة مجددًا من تلك الأوقاتِ السيئة. أنا لن أتعافى هذه المرّة. أصبحت أسمع أصواتًا كثيرة داخل رأسي”.

أعادتني المجموعة الشعرية “الأخضر واليابس” لمنى كريم، الصادرة عن منشورات تكوين إلى استعادة مشهد انتحار فرجينيا وولف، وكيف يمكن تأويل كلمة “الجنون” في رسالتها الأخيرة من خلال تقنية الكتابة التي تميز نصوصها وقصصها القصيرة تحديدًا. أتحدث عن ما وصفته سابقًا بـ “الفوران غير المنضبط من اكتشاف العلامات” الذي ينطلق من المدخل المشهدي للنص، ويبدو ظاهريًا في انفصال عن سياقه، ولكنه يستبطن أواصر كابوسية تنتمي إلى ذلك المشهد الافتتاحي ثم العودة إلى “نقاط ارتكاز” ناجمة عن مدخل النص، كأنها تذكير بـ “اللحظات الواعية” أو “الوعود المنطقية التي تلزم الهذيان للتجسد”. أتحدث عن “الأصوات” قبل أن تفرض بقائها كـ “أحجار”.

“ليل 

وفي صالتنا المكيفة 

امتزج

عرقنا الناشف

عرقنا المستمر 

في بحيرة واحدة

تقرفصنا حولها

اصطدنا منها الحكايا 

اجتررنا من بطنها

صندوق ذكريات العائلة 

صور أصدقاء بترناهم من بيتنا

صور أقارب محنطين في المنفى

صور عائلة 

لم تكن قد نُـثرت بعد 

كملح فوق رأس العالم”.

الأحجار في قصائد منى كريم هي أحيانًا “ذكريات العائلة” وقد تحوّلت بفعل “الاجترار” إلى “شذرات هذيانية”، تطفو ـ كغرق مضاد ـ من بحيرة “العَرَق المشترك” التي ترقد “الحكايا” في قاعها. صور الماضي إذن وفقًا لهذا الطفو الذي يعيد تمثيل الغرق بصورة عارية تتحوّل إلى خيال ثأري من الذاكرة. تفكيك للمشاهد القديمة، لا كأنها لم تحدث، وإنما بوصفها احتمالات مشوشة لما يأبى الحدوث. “النسخة الأصلية” هي “حكاية متفردة” مجهولة، تمت إزاحتها فيما يسبق الماضي، ليصبح كل احتمال “واقعي” تأكيدًا على استبعاد تلك الحكاية. على احتجازها المحصّن خارج “الوجود”.

“أصواتكم التي تقاذفت اسمي

كجمرة يستحيل استقرارها

تشتعل بألفتنا الأزلية 

كيف يحتفظ كل منكم 

بنسخ أصلية من حياتي 

جلسنا ننقحها لأسابيع 

نزيل عنها أولًا ثلج المنفى

نلامس أطرافها التي تقصفت 

نقارن سردياتنا المتعددة

لتلك المرة التي صفعتني أمي 

للمرة المليون

أسباب الصفعة وتبعاتها 

وعلى أي مسافة شهدها كل منكم”.

“صفعة الأم” مثلًا يُشار إليها كأمر حدث، كلحظة موثقة في الذاكرة، لكن ما جرى ليست الصفعة التي يتم تذكرها، بل فرضياتها الغائمة التي تحجب طبيعة “الصفع” نفسه. الإشارات المبهمة التي تتقدّم على الفعل دون حد، وتحوم حول ضبابيته دون قدرة على اختراقه، ومن ثم يتحوّل “الاحتمال المضلِل” إلى “إثبات قهري” للحكاية، بديلًا اضطراريًا ـ متغيّرًا ـ لغيابها.

“نكتب المشهد كاملًا 

ونفكر في العدد الهائل من الحكايا

في قلب البحيرة 

كم منها سنجتر وكم منها سنرمم”.

هذا الكشف الذي تؤديه الكتابة هو بمثابة “تحرير الأصوات”، أو “تفتيت الأحجار” الذي يقوم بعمله التقويضي عبر حيلة “التنقيح” و”الترميم”؛ فالذات لا تستعيد الماضي كما يبدو، ولا تبحث عن “وجوهه الحقيقية” بالتعبير البلاغي المروّض، ولكنها تستعمل هذا الماضي في تذويب الذاكرة، ليصبح الماضي والذاكرة مفهومين مختلفين، متنافرين، يتصارعان، ليس كل منهما ضد الآخر وحسب، وإنما ضد نفسه بالضرورة.

“نهار / جلست في المطار / بينما تنتظرونني خارجه/ لم نعلم أن للصحراء أبوابًا/ يمكن إغلاقها./ في لونها الأصفر / رأيت شحوبكم،/ القلق الذي تشكل على وجوهكم/ ككثبان متحركة،/ الوقت الذي تكدس بيننا / في أكياس رملية/ وبينما انتظرني حارس الصحراء/ ليأخذني منكم / طلبتم مني أن أحلم بالعودة / “ولكن..” قلت “كيف؟” / وبعدما / نثرني كملح على رأس العالم / صارت الحياة جرحًا مفتوحًا / متعفنًا وورديًّا/ وعدت إلى شقتي الباردة/ التي لم تسبق لكم زيارتها/ ركضت وضحكت وقفزت / علّي أملأ الفراغ / الذي خلفته ألفتكم الأزلية”.

تُخلق الذاكرة الشبحية بأنقاض الماضي، بحسب الخصوصية التدميرية وتشريح الانهيارات. بأشلاء الذاكرة الجماعية التي تقاتلها الذات، لكنها في ذلك لا تعتمد الرصد بقدر ما يميزها الارتجال، أي أنها تقاوم “النسق” ومن ثمّ فهي ذاكرة مناوئة لـ “التذكر”.

“علي أتصبب بكامل عرقنا

يمتزج في بحيرة واحدة

أنزل إليها مثقلة بالأحجار 

بانتظار أن تجتروني يومًا منها”.       

النزول إلى بحيرة “العرَق المشترك” بثقل الأحجار هو قتل “السردية العائلية” المعادل لانتحار مجازي يُبقي الذات التي تشكلها التفسيرات “الصفعات” المتعددة لتلك السردية خارج الموت وخارج الحنين. يؤجل الاجترار بقدر ما تبتعد “النسخة الأصلية” المجهولة عن إمكانية الاسترداد. النزول إلى بحيرة “العرَق المشترك” بثقل الأحجار يؤجل الاجترار بقدر ما تحاول الذاكرة الشبحية أن تكون أكثر من مجرد جرح صغير في الماضي الذي “يحكيه” الجميع.

“جسدي مركبتي

أقودها كمراهق مستهتر

تصطدم بالآخرين، بالأرصفة

تجتاز الإشارة الحمراء في الثانية الأخيرة

فيهز شرطي الموت رأسه”.

الجسد لا يعيش “حياة” وإنما يختبر “كابوس سقوطه” بشكل متكرر. تعاود الذات تمثيل لعبة الولادة طوال الوقت كشيء يُدفع نحو التحطم بـ “عفوية مبررة”.  هنا تبدو “القيادة” كأنها باروديا متعمّدة لقرار “الإيجاد”. تقمص ساخر لـ “الإرادة الحرة” التي تمنح المنطق الكوني لهذا “الإيجاد”. الجسد حصيلة من إكراهات محطمة تزّيف تماسكها وسط كل ما يتظاهر بأنه “موضع آمن” أو “فرصة نجاة”، وليس على الذات كي تفضح السقوط البدائي للجسد، الذي يستبق وهم الحركة، سوى تمثيل “الإهمال” كما لو أنه مشيئة هذه الذات، مقامرة عدائية تقصد الذات خوضها وليس عرضًا مؤقتًا من التورط في العالم من أجل ما هو منفصل عن العالم. هذه المسايرة التهكمية كأنها تختلس حياة ما داخل “كابوس السقوط”، تعيد الولادة بوصفها “لعبة كتابة”. كأنها محاولة لوضع لغم ما في كواليس العرض بأثر رجعي قبل أن يبدأ.

أخبار الأدب

6 أبريل 2025