الأربعاء، 7 مايو 2025

مقطع من "نصفي حجر"

"لماذا سيذهب (م) إلى هناك؟ .. لماذا سمح لشخص ما يُطلق على نفسه أحد ممثلي القانون أن يخبره بشيء عبر الهاتف في صورة "تبليغ صارم بالتعليمات"؟ .. لماذا ظل يستمع إليه حتى أنهى حديثه ثم أغلق الخط كأنها مكالمة عادية بين شخصين يعرفان بعضهما جيدًا، بينهما ماض مألوف من القرب والتشارك، وينغمسان في صلة مفهومة يتوقع أن تبقى ممتدة حتى موت أحدهما، أو حتى موت (م) بالأحرى؟

لنفس السبب الذي لم يتخذ (م) من أجله رد فعل عدائي حقيقي حين استيقظ على وجود ممثلي القانون في بيته .. السبب الذي يمزج بين أشياء قد تبدو متناقضة لمن يبصرها، حيث لا يمكن لأحد أن يبصرها حقًا، بينما وحده (م) يعرف سر التجانس المجهول الذي يشملها.
في السابعة إلا ربع خرج (م) من بيته في منطقة الجوازات متجهًا نحو حي الحسينية .. كأنه يخطو إلى الشوارع للمرة الأولى .. كأنه لم يتنفس مطلقًا رائحة النسيم البارد المعطّرة بالاحتراق الليلي .. كأنه لم ينصت لهمهمات الماضي وهي تحاول التسلل من الضجيج الذي يفرم سمعه .. يسير به اتجاه مضاد لكل المسارات التي تناقلت جسده من قبل .. تستنشق أنفاسه الرائحة الطفولية المُسكرة .. كل "شارع" يكشف إذن عن الكيفية المستترة في باطنه التي تجعله "طريقًا" .. رائحة النسيم البارد تُعرّي نارها المحتجبة .. الهمهمات القديمة تخترق أذنيه .. رجال ونساء وأطفال وقطط وكلاب يرمقونه بتلهف ساخر وهم يعبرون من حوله ببطء أو يتوقفون على جانبي خطواته المرتبكة .. وجوه محتشدة، تحلق ابتساماتها المتهكمة داخل الشرفات ووراء النوافذ .. بعكس ما ظل يفعل طوال أربعين سنة؛ لم ينظر إليهم .. لم يتفحص ملامحهم، أو يراقب انفعالاتهم وحركاتهم، أو يلقي بنفسه في هوة انطباعاتهم الخفية .. كان ذلك الممر الشرفي الممتد داخل المدينة، المنظّم بالاستهزاء والتشفي يبقي عينيه لأسفل، تاركًا لهما وحسب إمكانية اختلاس النظر بين حين وآخر .. كأن كل هذه الكائنات لا تمثل نفسها بقدر ما تجسد كابوسًا ذاتيًا أصبح الآن في أقصى درجات سطوعه .. كأنه كان يربي كل هذه الوجوه بداخله على مدار عمره، وقد حانت في هذا المساء لحظة تشييعها له تحت سماء حالكة وغيوم رمادية كثيفة، حيث لن تُجدي أية مراوغة .. لهذا كانت نشوته غير مسبوقة".
مقطع من رواية قيد الكتابة