الخميس، 8 مايو 2025

أنشودة دموزي الأخيرة: ملامسة الإيهام

لعل أكثر ما يُلاحظ في رواية “أنشودة دموزي الأخيرة” لنبهان رمضان هي الكيفية التي تجسّد بها اللغة طبيعة التيه والشرود والارتباك التي يتسم بها السارد المتحدث، وذلك بعكس حالات مشابهة في روايات أخرى يعمد خلالها السارد استخدام لغة تقصد التماسك والاتزان كنوع من المراوغة الدالة لتلك الطبيعة أو سعيًا للتخلص أو التبرؤ منها فيما يُعرف بالفرق بين “حكي الاضطراب”، و”الحكي عنه”. لذا فالراوي هنا يتمثل في لغته الملامسة لا الاقتحام؛ حيث تكشف هذه اللغة عن المسافة الوعرة أو الحاجز الاغترابي بين السارد والتجربة أو “الإيهام بالجدوى”، بين نزعته التأملية والتورط بشكل فعلي في صراعات الواقع. تجدر الإشارة إلى التطابق هنا بين صوتين تطاردهما دومًا احتمالات الفصل اعتمادًا على “زاوية النظر” أو “المكان الذي يشغله “ناقل الحكاية” بالتفرقة بين “ما يُحكى حيادًا” و”تنظيم الحكي وفقًا لانحياز ما”، أو بين “الراوي” و”السارد” حيث لدينا هنا ذلك الصوت الذي لا يحكي وحسب، وإنما ينتقي ويرتّب ويستبطن ويحلل ويفسر، أي أنه يتظاهر بالاستحواذ على ما يحكيه وإن كان يوطد ما يناقض ذلك.  

“لكنهم لا يعلمون أنني أنفذ وصيتها الأخيرة لي في آخر زياراتي السرية لها في مستشفى جامعة المنصورة، حيث كانت تعيش آخر أيامها قبل أن تخرج منها ليلة موتها إلى منزلها الذي يبعد عن منزلنا بمنزلين آخرين”.

لننتبه مثلًا إلى “التكرار” في لغة السارد والذي يشير إلى سعي مضمر للتيقن والتأكيد على الأشياء والأفعال التي أرغم على استعمالها بوصفه عالقًا في ما تكوّنه هذه العناصر والتفاصيل من متاهات، وذلك ما يجعل الراوي موضع استخدام لتشابكاتها الغامضة في حقيقة الأمر لا مُستعمِلًا لها. في الفقرة السابقة وبتكرار كلمة “منزل” بصيغ متعددة ومتعاقبة نجد مثالًا على محاولة لغوية مُلحّة لاستبصار المعنى الملغز أو الغاية المجهولة لذلك الحضور البديهي الذي يأخذ مُسمّى “المنزل” باعتباره فضاءً عدائيًا مخاتلًا تسكنه الأشباح، حيث تُهدر حيوات اضطرارية ما كان يجب أن تكون أي منها هي “الحياة”، ويهيمن “الموت” على كل رجاء للخلاص. هنا يتحوّل “المنزل” إلى استفهام، استجواب لفكرة “السكن” المتعذرة: لماذا فُرض علينا ألا نعيش في ملاذات آمنة، لا تٌهدد بالفناء؟ ذلك تساؤل جدير بالجالس في عربة تسير ضمن موكب جنائزي نحو “المثوى الأخير”.

“خرجت من الحمام، عدت إلى غرفتي ارتدي ملابسي، دق جرس الباب، طالبتني أمي أن أفتح الباب؛ لأنها غير قادرة على الوقوف بالسرعة المطلوبة لكي تفتح الباب. عندما فُتح الباب، وجدت نعيمة ذات الوجه المستدير تحيطه بطرحة سوداء شيفون كأنه برواز يظهر بياض بشرتها”.

لننتبه أيضًا إلى انفصال الوعي عن الفعل تجسيدًا لشرود السارد حيث يُستبدل الفعل المعلوم بالمجهول ـ بعد تكرار معهود لكلمة “باب” ـ ويتحوّل “فتحت الباب” إلى “فُتح الباب” لتمثل اللغة ذلك الإدراك المبهم عند الراوي بكونه “غير فاعل” أو “موضع استخدام” كما ذكرت من قبل، وكأن ثمة إرادة لا تخصه تنوب عن ذات غائبة، غير مستوعبة، في تنفيذ الأداءات، وذلك ما يجعل الفعل في أبسط صوره رضوخًا لقهر ما، مسايرة لضرورة ملتبسة، ولا يستند إلى انتباه حقيقي. يتخذ الشرود كذلك مظهرًا آخر في التسميات الخاطئة أحيانًا؛ فمحل الفول الشهير في ميت حدر اسمه “العطافي” وليس “العطفاوي”، فإذا ما اقترن بـ “وجبة العشاء” لأصبحت “وجبة العشاء العطافي” كما أن أغنية “الصلح خير” لـ “نادية مصطفى” وليست لـ “نادية صالح”.

“ومع تواصل الدراسة أصبح الجلوس في فناء الكلية بين المحاضرات المعادل الموضوعي لرؤية نجمتي المفضلة في جوف الليل، أتابع وأراقب بلا هدى فقط ما يلفت انتباهي من حركات الطلاب والطالبات؛ وأحيانًا الأساتذة، ربما استغرق ذلك ساعات طويلة وأحيانًا أسهو عن موعد المحاضرة، فيدخل الدكتور المحاضرة دون أن أدري، الأيام تمر كعقارب الساعة دون عودة للوراء، لا شيء يتغير”.

من هنا يمكن القول إن مراقبة السارد لمشاهد الواقع هي ممارسة تخييلية تجاه نفسه في المقام الأول. تلصص على تلك الذات المحتجزة وراء ارتباكه، وكأنه يمكن انتزاعها مجردة من القمع بواسطة وجوه وأجساد الآخرين أو ما يختبئ في أرواحهم ودون دراية لهم به. هذا ما يدفع الراوي لأن يصوغ بارتباكه ما يطفو من هذه الأرواح عبر الوجوه والأجساد، كأنما يخلق أسرارها وفقًا لهواجسه، وبتنويعات على الملامسة لا الاقتحام، كما أشرت سابقًا، في مجاهدة عسيرة لتخليص ذاته المجهولة من قيودها الغيبية، مستعينًا بـ “هكذا تكلم زرادشت” فيما يمثل ديالوج بين السارد ونيتشه، وهو ما سيقوده منطقيًا إلى توثيق السعي لمناوشة تلك الذات التي يعجز عن إيجادها أو كتابة القصة القصيرة.

“تريد الصعود إلى أعالي الفضاء الرحب وروحك تتوق إلى النجوم. لكن غرائزك السيئة هي أيضًا تتوق إلى الحرية”.

في هذا المقطع تحديدًا من “هكذا تكلم زرادشت” يتكشّف جوهر التوق الروحي عند الراوي بكونه ليس انقطاعًا عن الملذات الحسية وإنما تحريرًا لها، أي يشملها مسار النجاة ويمر عبر كوابيسها حتى يعيد تلك المباهج الغرائزية الماكرة إلى أصل محصن مخبوء، لا يخدشه الشر.  

حين تقرأ مثلًا “أمي كانت تقرأ في مصحفها الذي اعتادت أن تقرأ منه بصوت عال” فإنك من الوارد أن تفكر ـ خاصة لو كنت محررًا أدبيًا يتلهف على اصطياد ما يفضح بصيرته الأبوية البائسة ـ في السبب الذي منع الراوي من قول: “أمي كانت تقرأ في مصحفها بصوت عال كما اعتادت” …

إن ذلك التكرار (كوجه ناصع للتردد) في سعيه المضمر للتيقن والتأكيد على الأشياء والأفعال، والشخوص التي تكوّن متاهات السارد بطبيعة الحال، يرتبط بما يشكل وعيه من كبت وتحيزات ومفاهيم نمطية، لذا فالتكرار بمثابة وشاية بالشك الخفي والمحاكمات اللاواعية عند الراوي تجاه الكليشيهات الاجتماعية والثقافية التي تستعمل وجوده “العالق”، وتزيف رجعيتها بأقنعة بلاغية مصطنعة من التسامح. تلك الإكراهات التقليدية المتوارثة التي تسيطر على منظور السارد وتجبره كطفل ساذج على ترديد الحكم المدرسية وإعادة تدوير التلقينات الأخلاقية القاصرة حتى مع مجابهته الكلامية للذوات المتشددة، المتسلطة بعنف الفكر والفعل، وكأن لغته الأشبه بالتلعثم هي أسلوب تفاوض مع الأعراف والتقاليد الشعبوية المستحوذة على وجهات نظره مثلما تحاصر حركته في العالم. محاولة للتشبث بشيء حقيقي عبر “تشتت اللغة”، والمتمثل كذلك في المراوحة بين الفصحى والعامية، يعيد ولادته خارج التيه.

“بينما جلسنا نحن الثلاثة نتحدث عن الشعر الذي سمعناه الليلة في الندوة أغلب الوقت أسمع منهما عن قصيدة النثر الجديدة المتطورة بعد محمود درويش ونزار قباني، وما الحداثة فيما سمعناه الليلة طوال الوقت، أستمع ولا أشترك في الحديث وعندما يطلب رأيي أجيب بطريقة مقتضبة”.

نلاحظ كذلك كيف يوظف السارد علامات الترقيم في التمثيل لشكل آخر من الارتباك وهو ما يُعرف بـ “مضغ الكلمات”، حيث لا تكتفي لغة الراوي بطمس المفردات في لحظات معينة وترك فراغات معاندة للاتساق فحسب، وإنما تقوم أيضًا بمحو علامات الترقيم في بعض الأحيان، وذلك يختلف عن “التكثيف” اللغوي؛ فهذا المضغ للكلمات ـ في تجسيده لحالة اللهاث والاختناق الناجمة عن الاضطراب ـ بوسعه أن يبرز سطوته بصورة أعنف في ما قد يوصف بـ “الفضفضة” أو الإسهاب في الوصف أو البوح، وخاصة مع وضوح النبرة الطفولية التي تمرر تعبيرات عاطفية غافلة وكلمات متقطعة أو متداخلة ببعضها.

“إنها فكرة الموت الرحيم، ما أدهشني كيف يكون الموت رحيمًا، ذلك الكائن الذي يفرق الأحباب عن بعضهما البعض، حرمني من أبي مبكرًا، يحرم الأب من ابنه، والابن من أبيه، والأم من أبنائها، ويحرم الأبناء من حنانها، الرحمة ليست صفة للموت أبدًأ مهما كان الشخص بغيضًا وعلى درجة كبيرة من المقت والكره، فهناك من يريده ويحتاج إليه حتى ولو كان طفلًا رضيعًا أو شحاذَا يحنو عليه”.

لذلك تبدو الشخصيات المحيطة بالسارد أشبه بأصداء لنزاعاته مع تاريخه الشخصي وما يتجاوز هذا التاريخ، حيث لا تمتلك تلك الشخصيات بصمة وجودية تتخطى المعاناة الاجتماعية بأشكالها المختلفة، نظرًا لأن “ملامسة” الراوي لحيوات تلك الشخصيات لا تسمح لأي منها أن تحفر سيرة أرقها الخاص في الرواية مثلما أراد أن يفعل لنفسه، وكأنهم ظلال مشوّشة لماض أبعد وأكثر تمنعًا مما يمكن له أن يقبض على مشيئته، ومن ثمّ فما يبدو حوارًا بين السارد وشخصية أخرى يقترب من أن يكون مونولوجًا داخليًا للسارد نفسه، وكأن ما تقدمه كل شخصية عن عالمها في تلك الحوارات لا يعدو سوى طيف ضبابي، يحوم حول عالم الراوي الذي لم يمتلكه مطلقًا.

أخبار الأدب

4 مايو 2025