تقوم هذه الدراسة على سؤال أساسي: لماذا جعل نجيب محفوظ رصاصات سعيد مهران تقتل (للمرة الثانية) شخصًا “غير مقصود”؟ …
إذا كان على سعيد مهران واتساقًا مع قصة محمود أمين سليمان “سفاح الاسكندرية” التي استلهم منها نجيب محفوظ روايته “اللص والكلاب”؛ إذا كان عليه أن يتحوّل إلى قاتل، وهو ما حدث بالفعل حين قتل شعبان حسين العامل بمحل الخردوات بشارع محمد علي والذي سكنت أسرته شقة المستهدفين بالانتقام: عليش سدرة وزوجته نبوية بعد مغادرتهما؛ فإن تكرار “القتل الخاطئ” الذي قام به سعيد مهران حين أراد الانتقام من الصحفي رؤوف علوان فأنهى حياة بواب قصره يمثل ما هو أبعد من “القتل الخطأ” خاصة حين نعرف أن محمود أمين سليمان أو “السفاح الأصلي” لم يقتل سوى مرة واحدة فقط، دون قصد، وضحيته كان أحد البوابين كما تذكر الوثائق الخاصة بالقضية. يتعلق الأمر بأن رصاصات سعيد مهران لم تكن طائشة كليًا، وأنها كانت تضمر قصدًا خفيًا للقتل “العام” وليس شخصًا معيّنًا فحسب.
“اقترب من الباب حتى كاد يلتصق به، وصوب مسدسه إلى الداخل، وانتظر بقلب خافق وعين غائصة في ظلمة الردهة. وترامى صوت يصيح “من؟”. صوت رجل، صوت عليش سدرة، ميّزه رغم نبض الصدغ الدوّي. وفُتح باب في الناحية اليسرى فخرج منه ضوء خفيف، ثم لاح شبح رجل يتقدم في حذر. ضغط سعيد على الزناد فانطلقت الرصاصة كصرخة عفريت في الليل. وصرخ الرجل بدوره وتهاوى فأدركه بأخرى قبل أن يستقر فوق الأرض”.
استعمل الراوي العليم فعل “التمييز” ختامًا لصيغة يتدرّج فيها مستوى تحديد “الصوت”: (ترامى صوت .. صوت رجل .. صوت عليش سدرة) .. لو أن سعيد مهران كان متيقنًا من البداية وحتى النهاية من أن الصوت لعليش سدرة بالفعل لجاءت صيغة التعرّف على الصوت مباشرة وحاسمة كالآتي: (وترامى إلى سمع سعيد مهران صوت عليش سدرة يصيح “من؟”) .. هذه الصيغة المفترضة ما كانت لتمنع من اكتشاف سعيد مهران لاحقًا بأنه لم يكن صوت عليش سدرة، وأن تأكده كان مخادعًا، وفي نفس الوقت ما كانت لتخدش الهيمنه المعرفية للراوي العليم لأنه كان محقًا في وصف “الوهم” الذي وصل إلى “سمع” سعيد مهران؛ فالفرق واضح بين أن يذكر الراوي العليم بأن عليش سدرة قد “قال شيئًا ما”، وأن يذكر أن صوت عليش سدرة “ترامى إلى سمع سعيد مهران” .. في الحالة الأولى يؤكد الراوي العليم أن الصوت لعليش سدرة، وفي الثانية يشير إلى ما سمعه سعيد مهران فحسب والذي قد يكون مخطئًا، أي أنه شأن يرجع للشخص الذي استقبل الصوت وليس للراوي العليم.
لكن الراوي العليم بالتدرّج السابق أراد أن يوحي بأن سعيد مهران لم يكن متيقنًأ فعلًا من أن الصوت لعليش سدرة، وأن فعل “التمييز” الذي اختتم به هذه الصيغة كان نوعًا من التبرير اللاشعوري للقتل .. القتل في المطلق .. حتى لو كان الهدف غير مؤكد .. حتى لو كان ثمة شك باهت يناوش الوعي تجاه الشخص المراد قتله .. هذا صوت عليش سدرة وإن لم يكن صوته حقًا .. سأقتل في جميع الأحوال لأن هذا ما يتحتم عليّ فعله .. ليس هناك فرق بين أن يكون الصوت لعليش سدرة أو صوت شخص آخر .. كان “نبض الصدع الدوي” المقترن بتمييز الصوت معادلًا للدفعة الحاسمة التي حالت بين سعيد مهران والتردد والإرجاء والتبيّن .. الدفعة العفوية الفائرة، والمشحونة بغضب جارف بلغ ذروته، استجاب لسطوتها فورًا سعيد مهران لينفذ ما جاء من أجله بصرف النظر عن أي شيء آخر حتى لو كان نوعًا من الارتياب في هوية صاحب الصوت .. بذلك أصبح المقتول أيًأ يكن بالنسبة لسعيد مهران هو عليش سدرة .. صرخته هي صرخة عليش سدرة حتى لو اتخذت طبيعة مختلفة.
“الصوت الذي سمعه لم يكن صوت عليش سدرة. الصوات الذي سمعه لم يكن صوات نبوية. الجسم الذي سقط كان جسم شعبان حسين العامل بمحل الخردوات بشارع محمد علي. سعيد مهران جاء ليقتل زوجته وصاحبه القديم فقتل الساكن الجديد شعبان حسين”.
نلاحظ هنا أن الراوي العليم يعرض الأفكار التي تدور في ذهن سعيد مهران في اللحظات الأولى لاكتشافه أنه قتل شخصًا آخر بدلًا من عليش سدرة، يعرضها بشكل تقريري لا بصورة ذاهلة تلائم الصدمة .. وأي صدمة! .. نحن نتحدث عن قتل شخص بريء ونجاة الآثمين من الموت .. كان سعيد مهران في تلك اللحظات شخصًا يخبر نفسه بما حدث، أكثر من كونه شخصًا غير مصدّق، مندهشًا ومتساءلًا، يعجز عن استيعاب كيف جرى الأمر على هذا النحو .. هذا الاستعمال اللغوي يشير إلى أن سعيد مهران يعيش بطريقة ما حالة تذكر تلقائي لما سبق أن تجاهله .. يستعيد ما أنكره قبل الضغط على الزناد .. ما أُجبر على دهسه وعدم التراجع لكي ينجز انتقامه مهما كان ذلك الذي يوجد وراء باب الشقة .. بذلك تكون الصيغة الفعلية للفقرة السابقة والتي تم إخفاؤها لغرض دفاعي وراء الأسلوب الذي يومئ إليها ولا يصرّح بها:
“انتبه إلى أن الصوت الذي سمعه لم يكن صوت عليش سدرة. أن الصوات الذي سمعه لم يكن صوات نبوية. الجسم الذي سقط كان جسم شعبان حسين العامل بمحل الخردوات بشارع محمد علي. سعيد مهران جاء ليقتل زوجته وصاحبه القديم فقتل الساكن الجديد شعبان حسين بدلًا منهما”.
لنقارن الآن بين الاستفهامات الاستنكارية المضطربة التي وجّهها سعيد مهران لنفسه عقب هذا العرض التقريري لأفكاره أو “الانتباه إلى ما لم يكن متيقنًا منه” كي يشبع بواسطة عقاب الذات (الندم والانغماس في الشعور بالذنب)؛ يشبع حاجته إلى التطهر مما ارتكبه، وطمس انتباهه إلى ذلك الشك الباهت الذي كان يناوش وعيه قبل إطلاق الرصاص محاولًا تثبيت “قناع” غفلة كاملة ومحكمة عن هوية صاحب الصوت لحظة القتل، وبين الثناء الساخر اللاحق لهذه الاستفهامات الذي وجّهه سعيد مهران إلى مسدسه الذي “يستطيع أن يفعل به أشياء جميلة”:
“من أنت يا شعبان؟. أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني. هل لك أطفال؟. هل تصورت يوما أن يقتلك إنسان لا تعرفه ولا يعرفك. هل تصورت أن تُقتل بلا سبب؟. أن تُقتل لأن نبوية سليمان تزوجت من عليش سدرة؟. وأن تُقتل خطأ ولا يُقتل عليش أو نبوية أو رؤوف صوابا؟. وأنا القاتل لا أفهم شيئا ولا الشيخ علي الجنيدي نفسه يستطيع أن يفهم. أردت أن أحل جانبا من اللغز فكشفت عن لغز أغمض”.
“بهذا المسدس أستطيع أن أصنع أشياء جميلة على شرط ألا يعاكسني القدر. وبه أيضا أستطيع أن أوقظ النيام فهم أصل البلايا. هم خلقوا نبوية وعليش ورؤوف علوان”.
سطور قليلة تفصل بين الاستفهامات الاستنكارية المقترنة بالحيرة والعجز عن استيعاب ما يبدو أنه خارج الحدود الإدراكية لأي عقل، وبين الثناء الساخر على ذلك المسدس الذي أنهى منذ قليل حياة شخص “بريء”، باعتباره قادرًا على إفاقة “النيام” لأنهم “أصل البلايا”. هذه المقارنة تكشف عن اللغز الأكبر والأكثر غموضًا الناجم عن محاولة سعيد مهران لحل لغزه الشخصي: هل يتعلق الانتقام بعليش سدرة ونبوية ورؤوف علوان فحسب، أم أن الانتقام يتجاوزهم كشخصيات خائنة تستحق القتل؟. هل يريد أن ينتقم حقًا من هؤلاء بالتحديد أم أن رغبته الانتقامية تضمر ولو بكيفية مراوغة وشاحبة استهدافًا أشمل؟ استهدافًا لـ “النيام” أو “أصل البلايا”. المتورطون بـ “نومهم” في ما ارتكبه عليش سدرة ونبوية ورؤوف علوان ضده. الذين خلق “نومهم” هؤلاء الخونة. “الإيقاظ” هنا يرادف القتل. النيام يحتاجون لأن يُقتل أحدهم حتى يفطنوا إلى آثامهم المستترة. النيام يحتاجون إلى الشعور بأن كلًا منهم قد أصبح قتيلًا مؤجلًا لكي يبصر جريمته في حق سعيد مهران.
لكن هذا اللغز لن يكون لغزًا حقًأ إلا بإرجاعه إلى ذلك السر الغيبي الذي يضمن ويسمح بحدوث تلك المأساة البشرية. مفهوم “الأبوة” الذي ظاهره حكمة متعالية، متبرءة من الشر، ومتوارية في بلاغة جوفاء وطقوس تضليلة يجسدها الشيخ علي الجنيدي أو “سيد الأحياء”. الحكمة التي تزيف مبررات “مقدسة” لجحيم سعيد مهران. ذلك المفهوم المترفع الذي منح إمكانات الأذى للبشر ولم يعطلهم عن استخدامها مكتفيًا بـ “الأمر والنهي”. السر الذي يعلم أنه لا أمر ولا نهي بقادر على حماية أحد. الأذى الذي لا يمكن أن يطال السر نفسه. ذلك ما سيجعلنا نقرأ هذه السطور في “اللص والكلاب” وتحديدًا ـ وهذا التوقيت جوهري للغاية ـ بعد أن عاد سعيد مهران من رحلته القاتلة الأولى وقبل اكتشافه أنه لم يقتل عليش سدرة وإنما قتل شخصًا آخر:
“ومر بيده بخفة فوق جيب المسدس وساءل نفسه ترى ماذا يصنع هذا الشيخ لو أنه صوب نحوه مسدسه؟. متى يمكن أن يهتز هدوؤه المثير؟”
سعيد مهران هنا يصوّب ـ متخيلًا ـ مسدسه إلى السر الغيبي الذي يمثل الشيخ على الجنيدي حكمته المتعالية. إلى اللغز الأكبر الذي شكّل أرواح النيام. إلى “الأبوة” التي تمتلك السلطة المخبوءة لـ “الخيانة” و”القتل”، التي ما كان للشر وجود إلا بمشيئتها. يهدد الطمأنينة الأزلية لذلك السر المتحصن بهيمنة البلاغة والطقوس. يهزأ من المبررات “الكونية” الساذجة والهزلية لجحيمه. كأن سعيد مهران يفكر ـ وهو ما سيمتد بصورة أوضح بعد اكتشافه أنه قتل شخصًا آخر بدلًا من عليش سدرة ـ في أنه لا يفعل أكثر مما يقوم به الجميع. يستخدم ما أتيح له مثل الجميع. كل قتيل قاتل بطريقة ما. لكل شخص رصاصاته الطائشة، ولأنها ما كان يمكن أن تُطلق لولا تلك الإرادة الخفية، كلية المعرفة والقدرة، التي تضمن وتسمح بذلك؛ فإنها ليست رصاصات طائشة في حقيقة الأمر.
جزء من كتاب (رصاصات غير طائشة / قراءة مغايرة لرواية “اللص والكلاب”)
يصدر قريبًا…
تحميل العدد