الأربعاء، 11 يونيو 2025

النسيان

من مقعدي على رصيف المقهى رأيتها تقترب من بعيد وسط الزحام والضجيج .. متسولة عجوز، ملامحها غير واضحة، وملابسها رثة، تخطو بقدمين ثقيلتين، وتسأل العابرين إحسانًا .. أبعدت عينيّ عنها لأعاود التطلع إلى عربة النقل المتوقفة أمام محل الفِراشة المقابل للمقهى حيث ينقل العاملون إليها قماش الخيام والأعمدة الخشبية والمقاعد والطاولات والسجاجيد تمهيدًا لتشييد سرادق عزاء في مكان ما .. تخيلت أن هذا السرادق المنتظر لشخص لا يزال على قيد الحياة .. أنه ربما استيقظ من قيلولته منذ قليل ويجلس الآن ليشرب الشاي في هذا العصر الشتوي داخل شرفته ويتأمل العابرين بحيرةٍ متعبة ورجاء صامت، وحينما يبصر عربة النقل هذه بكل ما تحمله وهي تقترب من بيته ثم تتوقف أمام بوابته؛ فإنه سيشير من مكانه، وبابتسامة شاحبة، لهؤلاء العمال بالانتظار قليلًا .. تخيلت أن العمال سيظهرون استياءً بينما يتبادلون النظرات الضجرة ويشعلون سجائرهم وينفثون دخانها في الهواء ثم يستدعون كلمات افتتاحية لذكرى مشتركة قد تُساعدهم على تمضية الانتظار الذي لا يعرفون كم سيستغرق .. تخيلت أن طفلًا صغيرًا سوف يدخل إلى الشرفة ليقف بجوار ذلك الشخص الذي انتهى من كوب الشاي واتخذت نظرته المتطلعة إلى العابرين مزيدًا من التوهان والتوسل، بالرغم من الابتسامة التي لم تفارق شفتيه .. كأن هذه الابتسامة هي آخر ما يملكه لاستنطاق الماضي ومناشدة الغيب .. آخر ما يملكه لوداع هذا الطفل الذي لم يتوقف بكل ما لديه من فضول مشفق ورغبة نقية في اللعب عن التلصص بطرف عين على ملامح ذلك الشخص وهو يسند رأسه بيده المرتكزة على سور الشرفة .. تخيلت أن الطفل لن يدرك من الأمر سوى أن ذلك الشخص الذي كان جالسًا بجواره قد اختفى وحسب بحلول المساء، وأن سرادق العزاء الذي انتصب أسفل الشرفة ليس إلا مكيدة ملغزة دبرها الغرباء الذين يعبرون داخل السرادق وخارجه، وأن تلك النظرة الواهنة، المتحسرة، وغير المصدقة، التي كانت آخر ما رآه من الشخص الغائب لا تزال مستيقظة في مكان مجهول، وأنه سيصل إليها حتمًا في لحظة ما ليلبي لها كل الذي تستحقه، حتى ما لم تكن على وعي به .. تخيلت أن الطفل حينئذ سوف يكتشف غضبه، يتوحد بغريزته الانتقامية، يدرك ما عليه أن يقوم به طوال حياته: أن يسترد ما حرمته السماء من الجميع، أو أن يعاقبها بضراوة.

انتبهت إلى أن المتسولة العجوز قد أصبحت أمامي حينما بدأت عربة الفِراشة في التحرك .. نظرت إليها فوجدت وجهها يحمل ملامح أمي، وبعينين منطفئتين وزائغتين، وبابتسامة منهكة، وبصوت خافت ومرتعش تقول كأنما تستجدي شيئًا لي وليس لها: أعطني موتي.

اللوحة: “الأم والطفل” /  بابلو بيكاسو