اكتشفت في هذه الندوة ـ من ضمن مفاجآت غريبة ومؤسفة أخرى ـ أني مطالب بإبداء آراء فورية تعقيبًا على نصوص الجالسين التي تتوالى على مسامعي، وتلك كانت المرة الأولى في حياتي التي أواجه فيها موقفًا كهذا. كنت قد توجهت إلى الندوة وأنا أحمل نسخًا من إحدى قصصي القصيرة ظنًا مني أنها ستوزّع على أعضاء المنتدى لكي تُناقش في ندوة الأسبوع القادم، وأن ما ستتم مناقشته اليوم هي القصص التي وُزّعت الأسبوع الماضي. لكنني كنت مخطئًا. لم أفهم كيف يمكن لشخص ما أن يمتلك من الجرأة “المستحسنة” ـ بألطف وصف ممكن ـ ما يجعله يقدم تأويلًا، ولو كان بسيطًا أو “انطباعيًا” بالتعبير الشائع، لنص “استمع” إليه و”لمرة واحدة” فقط! لم أفهم كيف يمكن لشخص ما أن “يتحدث” عن نص لم ينفرد به في عزلة قرائية “قدرًا لائقًا من الوقت” وليس مجرد “ثوان معدودة”!. كان هذا يختلف ـ بل يناقض ـ أن تتبادل مع صديق مقرّب القراءة والإنصات لنصوص كل منكما، اعتمادًا على نوع من التشارك في الشغف الأدبي، وعلى عدم وجود حد زمني لإعادة القراءة والاستماع والنقاش بينكما حول النص ـ باعتباركما صديقين ـ وحتى هذا كنت أشعر معه باضطرار ما. لكن أن يحدث ذلك في “ندوة عامة” وبين أشخاص قد لا يقابلون بعضهم ولو صدفة خارج مبنى قصر الثقاقة فهو لم يكن بالنسبة لي أكثر من تورط في هزل “ثقافي” تحكمه سماجة لا أخلاقية.
وجدت نفسي ـ وبعد وصلة التصفيق الجماعي الآلية عقب قراءة كل نص ـ أتمتم بكلمات قليلة، متلعثمة، تسقط من ذاكرتي بمجرد التفوّه بها، أزيح بها وحسب ذلك الحجر الثقيل الذي يلقيه مدير الندوة على صدري كلما أتى دوري في “التعليق”. كان يمكن إدراك مدى ما تتسم به كلماتي من ارتباك وخواء حين تقارن بالطلاقة الامتداحية والاستهجانية لدى الحضور ـ الملقب بعض أفراده كالعادة بالأديب الكبير والناقد القدير ـ في تعقيباتهم العفوية المتماسكة على النصوص، وبما يؤكد خبرتهم الكبيرة في “التعليق”.
بعد خروجي من الندوة، رحت أفكر في أن رغبتي في الانضمام إلى “جماعة أدبية”، واكتساب رفقة من “الأصدقاء الكتّاب”، والانخراط بشكل ما في “عمل ثقافي”؛ هذه الرغبة منعتني من الاعتذار عن “التعليق” على نصوص الحاضرين. كان عمري 16 سنة وقتها، وحينما أستعيد تلك الذكرى الآن أجدها رغبة منطقية تمامًا في هذه المرحلة المبكرة من حياتي ككاتب، كما أن قراري بعدم حضور هذه الندوة مرة أخرى كان منطقيًا أيضًا. حصيلتي من “الاستياء” التي خرجت بها من تلك التجربة كانت أقوى من رغبتي في أن يعرف الآخرون ذلك الشاب الصغير الذي يختبر خطواته الأولى في “المجتمع الأدبي” وأن يقرؤا أعماله ويتحدثوا عنها.
بعد انضمامي لاحقًا لنادي الأدب بقصر ثقافة المنصورة، وكذلك الندوة الأدبية الأسبوعية لحزب التجمع ـ حيث الحياة أجمل بدون تصفيق ـ كنت تقريبًا الكاتب الوحيد الذي لا يعلّق على نصوص الحاضرين؛ أقرأ قصتي القصيرة وأستمع، وإن أصر مدير الندوة على أن أقول شيئًا فإنني لا أتناول في تعقيبي إلا فقط ما أعجبني من النص، وبشيء من الاقتضاب، أما تلك الأشياء الأخرى التي تبدو للوهلة الأولى أنها تثير مشاعر سلبية لدي فكنت أعلّق عليها قائلًا “أحتاج لقراءة النص مرة أخرى”. لم يكن سهلًا عندي على الإطلاق أن أوجّه “انتقادًا” لكاتب ما في أمر قد يتغيّر موقفي منه لو أعدت التأمل والتفكير في النص ثانية، ووفقًا للشروط “البديهية” المناسبة لذلك.
بعد سنوات طويلة أصبحت أتحدث في الندوات العامة التي أحضرها كمناقش رئيسي عن الأعمال الأدبية “المسموعة” مثلما أقارب النصوص في ورشتي الإبداعية الخاصة. أشير لكاتب العمل إلى زاوية نظر مختلفة قد تستحق الالتفات لها، إلى طريقة مغايرة للكتابة ربما تؤدي إلى أفق أكثر جدارة بالاكتشاف. وبالرغم من أنني أفعل ذلك مؤكدًا ومشددًا في كل مرة على أنه ليس “تعديلًا استعلائيًا” يقلل من شأن ما هو مكتوب بالفعل إلا أن ذلك الارتباك القديم الذي رافقني خلال لحظة “التعليق” الأولى على نص أدبي ما زال يلازمني وإن لم يشعر به من حولي .. الحذر من التسبب دون انتباه في أذى لشخص كتب شيئًا ما بالكيفية التي أرادها، أي أنه فقط مارس حقه الأصيل ككائن في “التعبير عن نفسه”، ولا يمكن أن يكون ذلك موضع إدانة أو لوم أو توبيخ أو تجريح أو سخرية احتيالًا على “الحق في إبداء الرأي”، أو انتهازًا وقحًا لـ “النصح والإفادة”. عزائي دائمًا أن هذه “الجرأة” من جانبي في تأويل النص “المسموع” لا تتعامل معه ـ حين يغيب التواصل بيننا ـ بوصفه اعتداءً على ذاتي أو ذائقتي أو على “الأدب” و”الثقافة”، حيث إما أن يُستبدل هذا النص وفقًا لما أراه “صحيحًا” و”عميقًا” و”مفيدًا”، أو يستحق أن يُزاح من الوجود! عزائي دائمًا أنني لا أتحدث إلى كاتب أبدًا بطريقة “كيف تجرؤ على الكتابة بهذه الطريقة السيئة!” أو “كان من الأفضل أن تفعل كذا وكذا وكذا!” أو “عليك أن تبحث عن هواية أخرى!” مثلما تفرض الدناءة النقدية العامة المتجذرة في التاريخ، وتحديدًا بتكريس من يُطلق عليهم “رواد الفكر والأدب”. عزائي أنني دائمًا أتحدث إلى كاتب النص بطريقة “لنفكر معًا في احتمالات أخرى ليكون أمام حرية اختيارك مزيد من الأفكار لشكل الكتابة الذي تريدها أن تتخذه”. ومع ذلك يظل التحدث عن نص بناءً على “السماع” فقط جرأة، ليست نقية بالكامل من سوء الخلق في أحسن الأحوال.
أفكر في كل القطعان البشرية المتناسلة في تزايد عبر الزمن، والتي تمتهن تحقير النصوص والكتّاب باعتبار أن هذا شيء عادي وبديهي وضروري؛ أفكر في كونهم يكابدون بؤس الألوهة المعطلة، ومن ثمّ لا يسمح وعي ونفس وطبيعة أيًا منهم إلا بالخضوع لمسخرة “الحساب والعقاب” حيث لا يجب على الكاتب أن ينتج نصًا “يخالف ذائقتي”! كما ليس مسموحًا له أن يحصل على ما يقرره أو ينتقيه بنفسه من دعم أو معاونة بعيدًا عن “سلطتي التأديبية”!. أولئك الذين لا يطيقون الحرمان أو التجرد من ألف لام التعريف الزائفة كما ذكرت في كتابي “نقد استجابة القارئ العربي”:
“إذا لم تكن هناك قوانين جمالية مفروغًا منها ويتعيّن اتباعها في العمل الروائي مثلًا لإعادة تشكيل تجربة القارئ؛ فإن الطرق المتحوّلة التي يعيد بواسطتها هذا القارئ تشكيل العمل الروائي ليست قوانين هي الأخرى بل ملامح لخبرة دائمة التكوّن، ومرجئة الإشباع طوال الوقت .. إذا لم يكن هناك (الكاتب) بألف لام التعريف، الكلي، (الإلهي)، فإن (القارئ) بألف لام التعريف، الكلي، أو (الإلهي) ليس له وجود أيضًا وإنما يدعي فقط لنفسه هذه الألوهية .. هناك (كاتب / قارئ)، و(قارئ / كاتب) فحسب، أي انعدام تام للهيمنة المثالية، سواء لكاتب يسيطر بلذة التداول الكامل على جميع القراء، أو لقارئ (مخاطب وحده، أو محكي له وحده) يسيطر (بلذة المعنى الواحد) على جميع الكتّاب .. نحن نضيف ألف لام التعريف للكاتب أو للقارئ للإشارة إليه في حالة معينة (هنا والآن)، وليس ذلك الكائن الذي يقدم نفسه ممثلًا لجميع القراء (في كل مكان وزمان)”.
تحميل العدد