“مربع معلق في الهواء بخيوط، كل خيط يمثل عمر أحد ساكنيه، في شماله بوابات تغير واقع من يسكنه، في الجزء الغربي منه يعيش أهل المقت، والشرقي لا يملك سوى أرض واسعة، وادٍ ضيق، وشلال، في منتصف المربع متاهة، وحوائط متوازية، في جنوبه أعمدة قماشية، جسم معلق غريب، وقنوات حمراء، الجنوب الشرقي منه يعيش في أهل النور. للمربع مدخل مظلم مجهول، ساكنو المربع، يملكون أجسامًا لولبية في صدورهم، يتصلبون أحيانًا، طعامهم الهواء الأصفر. ينغلق المربع كثيرًا، النور يأتي عليه فتتغير الأشياء فيه، المربع ينتج البشر والأقدار التي نراها حولنا”.
كنوتة “جاز” سردية كتبت ابتهال الشايب روايتها “شوك وحيد”. يتظاهر النص شكليًا ـ كما في “الجاز” ـ بنوع من الانضباط الأدائي، حركات ثابتة بتنويعات منسجمة، أحلام تتكوّن وتتطاير ومشاهد تُنسج وتتداخل، أماكن وأشواق وهواجس، أحاجي وتبدلات وتصنيفات، تنفتح على انسلالات وعرة، جامحة، تتحوّل بدورها إلى ما يشبه الهيكل الكابوسي للرواية أو متاهتها المتشذرة، كأنما تكشف هذه الانسلالات عن نفسها كبنية خفية أو كصوت رئيسي ـ ممزق ومتوعد ـ للسرد. ما يبدو اتساقًا إذن هو عناية ماكرة بالطيش، لتصبح النغمات والإيقاعات المتفاوتة “أصداءً” غامضة لما يقع خارج فكرة الانتظام، أي خارج المعنى ذاته.
“القدر العظيم
أنا مجرد فكرة في مربع معلق في الهواء بعيدًا في أرجاء الحياة، وُلدت من نفس أحد الوحيدين الموجودين بكثرة داخل المربع. بالرغم من أن لا أحد يسمعني، لكنني ورثت من ذلك الوحيد أسلوبه في الحديث، وجميع الكلمات. ستعرفون الوحيد الآن.
الوحيد
ليس بوسع كل منّا التصلب، إلى ثبات طويل وقوي يحتاج، لا يملكه أغلب ساكني المربع الذي أعيش فيه. ذلك أفضل، لأنه يسهل نزع الأجسام اللولبية المعلقة في صدورهم، فيلتصقون بمصادر الضوء الساكنة أعلى المربع، يختفون، مخلفين في الهواء قطع غبار لطيفة أستنشقها فأهدأ”.
هذه الأصداء، تحضر شعوريًا بالأساس، وبتكثيف مغوٍ، أي أنها لا تنبعث كناتج لأصل معرفي، أو كأثر لوجود ملموس ومن ثمّ إلى غاية قابلة للفهم “تجسيد عقلاني للنجاة”، ولكنها تحضر كناتج لما لا يوجد، كأثر لغياب، إيماءات إلى العدم بوصفه مصيرًا استباقيًا لما يُسمى “الإدراك”. الأصداء ليست سوى نفسها: أداءات مضادة فحسب، وخزات موسيقية متأرجحة، لطشات ألوان كامدة في لوحة تجريدية، تلويحات لغوية لإزاحة اللغة؛ ليس فقط “أي حكاية يمكنها أن تكون شيئًا آخر”، ولكن “لا حكاية يمكنها أن تكون أصلًا”.
“الوحيد
بين حلقات المتاهة نتخذ أول طريق مستقيم يظهر لنا، لا أعرف هل رأى الشبيه المتاهة مثلي؟ يجري أمامي، جسمه ضئيل قليلًا عني، أحاول اللحاق به، خيط آخر تُخرجه عيني، تربطني بذراعه كي لا أضيع بسبب ضعف نظري، صياح مرفقي من الألم أتجاهله وأقاوم، أخيرًا إلى غرب المربع نصل”.
من هنا يبدو “النزاع” ضبابيًا أو في احتمال دائم للتشوّش، بالنظر إلى أن “المفاهيم” التي تحدد موضوع النزاع معطوبة في جوهرها، أي أنها ـ فضلًا عن قابليتها المستمرة للتغير والاستبدال ـ صيرورة محو ذاتي، وذلك تحديدًا ما تمثله الانسلالات الوعرة والجامحة في “الجاز”: تفتيت الغرض، أو بالأحرى تفكيك المصير.
“الوحيد
شارد أنا، في أي مكان أريد التصلب ولا أستطيع، كُره أبي يقلص قدرتي على تحمل التصلب، القليل من الغبار أريد، أكره المربع وساكني الجزء الغربي وأهل النور، في غرفتي تترك عيناي جسمي، ليسقط على الأرض رأسي، ظهري يحتاج إلى رأسي كمسند، كيف سيراني أهل النور؟! كيف سألصق بمصادر الضوء ساكني المربع؟! ماذا سأفعل بعيني؟! أتثبت رأسي بجسمي أم تحمي جسمي اللولبي، أم تنزع الجسم اللولبي الخاص بالآخرين، أم بها أبتلع الهواء الأصفر أم ماذا؟! سيظل رأسي مخلخلًا إذا أمسكت عين واحدة بجسمي، وشيئًا آخر فعلته العين الأخرى”.
لهذا يمكن ملامسة هذا الأنين الجنائزي في الرواية، لا باعتباره وعيًا ناجمًا عن التنافر بين الرؤى ، وإنما كخيال بلا “واقع”. الوجود لم يحدث، اصطنع قرينًا سرابيًا فحسب. الخيال عدم حضور، حدس بما يخاطبه الشعور، ولا يمكن للتأمل استبصاره. الوجود خارج ما يُفترض من “مقولات” لتكريس “حقيقة” الكائن الذي بعجزه عن استرداد “كونيته” تحتم أن يصنع نموذجه الأمثل، صورته اللازمنية، ظله المتعالي الذي لا يُخدش. ذلك النموذج المستأثر بـ “الوجود”، يضمن إنقاذ الكائن من “اللاوجود” ليعبر بتلك العدمية المؤقتة نحو التعويض الأبدي.
“الوحيد
صوت أبي إلى أذني يتسرب، يناديني، الشجار يبدأ، يجلدني بعنف عن طريق الإهانات، والذل بالهواء الأصفر الذي أخذه منه.
“جريت كأن الخوف منهم هو ما سينزع جسمي اللولبي، رأسي الغائر لم يستطع التمييز بين جنودنا وجنود أهل النور” أجيب، وإهاناته القاسية تبكيني كأنها تزيل قشور جسمي.
ينظر إليّ بازدراء:
“أقارب من ألصقتهم بمصادر الضوء من جنودنا سيذيعون الثورة، سيطلبون من البوابات الشمالية تغيير واقعي وواقعك، أو سيجذبون الخيط الخاص بي أو بك لنموت، البديل سيدخل الصبر والرضا بيننا وبينهم، سيعطيهم الكثير من الهواء الأصفر هذه المرة، لكن المرة القادمة نهايتك ستكون”.
على هذا النحو تصير الذاكرة ارتجالًا، لأنها لن تكون “الماضي” كما يُشار إليه بدقة وإنما نوع من الخيال أو هي مصدر الخيال نفسه؛ فالصوت ما هو إلا ومضات تتبعثر بين الأبوة وفرضياتها المعتمة. شكلية الموت “كإيهام بالحياة يتقدم على حدوثها المحتال” تقود هذه البعثرة حيث تختفي الأبوة تحت وطأة الانتهاك المضمر، المختبئ في “الخضوع البشري”. الهوية هنا ليست أكثر من محاكاة هزلية لمواراة التقويض الذي يمارسه “الابن” تجاه مفهوم “الأبوة” لا بوصف “الأب” جسدًا مؤجلًا يحتاج إلى المراعاة، ولكن لأنه “رجاء مدخر” يحيط بشبق البنوة لطمس “السراب الدنيوي”، للقبض على النشوة الغيبية التي لا تنفد.
“تمزق في أغشية الوحيد ناحية الظهر، لا يراه أو به يشعر، كيف التمزق في حياته وهو يجب أن يكون قدر عظيم؟!، الوحيد ضدي، يناهض محاولات وجودي، وددت إخباره بذلك، مرارًا أقف في الأماكن الفارغة بين كل مزق وآخر، كي يشعر لكنني خفيف للغاية، أسحب أطراف التمزق لكن التمزق متصلب بقراره في الوجود، لم تكن مثل هذه الأشياء محور الوحيد كذلك، ما زال الشبيه عن تلك الأنثى يتحدث مع الوحيد، وعن الغبار الغائب، أتركهما. عدد كبير من ساكني الجزء الغربي آثروا الذهاب معًا كي يحموا بعضهم، خلفهم أسير، لا أعرف لمّ شعور بالخطر يعاينني! بالرغم من عدم ذهاب الوحيد معهم، فإنني مثلهم خائف، كأنني سأغير واقعي”.
لذلك فـ “الشبحية” في الرواية ليست عنف الأطياف المهدرة تجاه الماضي، وإنما خلخلة لجوهر “من كان حاضرًا” قبل أن يصير “شبحًا”، ومن ثمّ للماضي ذاته وليس لما يعبّر عنه وحسب. الشبحية هنا معارضة لبداهة الحضور التي تشيّد مسرح العيش، حيث يتعطّل القرار البلاغي لتكشف التجربة عن زيفها، وكأن الشبحية إقرار بأن “الحياة في مكان آخر” حيث لا تناقض، ولا حاجة للتعزية، ولا خاطر للاستحالة. الشبحية هي الكائن قبل أن يكون حيًا أو ميتًا، أي عندما كان ـ بكيفية مبهمة ـ غير قابل للتهديد بالغياب. هي الكائن حين كان نصًا، وقد جرت استعادته ليتنبئ بأثر رجعي ذلك الثأر الذي سيخطه.
أخبار الأدب
2 مارس 2025