الثلاثاء، 1 أبريل 2025

الحبكة المحتالة (5): الحكمة الذكورية لحكاية الصبية المقتولة

كيف يمكن أن يكون الوزير مسؤولًا عن جريمة قتل رجل لزوجته؟ ..إذا كان الوزير جعفر البرمكي مسؤولًا عن قتل الصبية التي عثروا على جثتها داخل صندوق في البحر باعتباره “وزيرًا”؛ أليست المسؤولية ـ وفقًا لهذا المنطق ـ تقع في المقام الأول على هارون الرشيد باعتباره “خليفة”؟ .. ما العدل في أن يأمر هارون الرشيد بصلب أربعين من بني عم جعفر البرمكي إذا لم ينجح في العثور على القاتل؟ .. ألا يعد الأمر بقتل الوزير وأربعين من بني عمه تبروءًا “إجراميًا” للخليفة من مسؤولية قتل الصبية وتوطيدًا لصورته الباطشة “الإرهابية” التي يحكم بها البلاد أكثر من كونه يريد فعلًا تحقيق “العدل”؟ .. لماذا لم يعترف الزوج بقتل زوجته قبل اللحظة التي أوشك فيها الخليفة على صلب الوزير جعفر، بما أنه يشعر بالندم ويريد القصاص من نفسه خشية مطالبة الزوجة “يوم القيامة”؟ .. بأي منطق يعفو هارون الرشيد عن الزوج الذي نحر زوجته بالسكين وقطع رأسها وأعضاءها ثم وضع جثتها في صندوق وألقاه في البحر وبقي طوال المدة التي لم تُكتشف جريمته خلالها دون اعتراف إذا كان هناك شخص آخر “الوزير” بالإضافة إلى أربعين من بني عمه هم من كانوا سيصلبون جراء هذه الجريمة؟ .. أي صدفة تجعل الشخص “العبد” الذي اعتبره الخليفة هو الجاني الأصلي “لأن الزوج معذور بحسب هارون الرشيد” يكون خادمًا لدى الوزير جعفر؟ .. بأي منطق عتق هارون الرشيد رقبة هذا العبد بعد أن كان قد اعتبره المسؤول الحقيقي عن قتل الزوجة، وبعد أن كانت جريمته ستتسبب في “مذبحة جماعية” لعائلة الوزير؟ .. كيف يمكن لجريمة بدأت بالحكم على وزير وأربعين من بني عمه بالصلب ومرت باعتراف الزوج بالقتل ثم اعتراف العبد بالكذب؛ كيف يمكن لهذه الجريمة أن تنتهي دون أن يعاقب أحد؟

إن الأمر لا يتعلق بالقتل أو اكتشاف الجاني أو العقاب، وإنما بكيفية تلفيق حبكة عن “القوة” و”العدل” لخليفة يعتمد على حكمة “الحكايات” في تبرير مشيئته .. هنا لا يهم المنطق، وإنما كيفية تمرير صورة خارجية مهيبة للخليفة يخضع ويتودد لها المحكومون، غير المساءلين أو المجادلين، بل والمؤمنين والمدافعين عن تفاصيل هذه الصورة وما تستند إليه .. هؤلاء ليسوا مقصورين على زمن محدد، بل إن الذين لديهم استعداد للتغني بهذا الشكل الوحشي للحكم، والذي تبرره أعراف وتقاليد ذكورية راسخة، هؤلاء يتناسلون في تزايد لا ينقطع عبر الزمن .. أعراف وتقاليد ليست منفصلة بالتأكيد عن الغريزة العقائدية أو سلطة “الدين”، ويمكن القول إن الإيمان بالمقدس الغيبي يوفر بديهيًا إمكانية تحريضية بالغة السهولة لانتهازه في ممارسة هذه الأعراف لسطوتها.

أستعيد الآن فقرات من مقالي عن رواية “يوم آخر للقتل” للكاتبة هناء متولي:

“تخاطب شهرزاد الرجل الذي يدرك بشكل غير واع بأنه حُرم من أصل كامل ومحصن، وأنه بكفاحه الغريزي المستمر لتعويض هذا الحرمان (الفعل الدنيوي) قد ازداد ابتعادًا عن  ذلك الأصل المجهول أي تعمّق غيابه في بشريته. تخاطب الرجل الذي يتمرد دون استيعاب على قدره كإنسان، أي على النموذج المثالي الذي تجرّد منه، مجاهدًا بهذا التمرد أن يسترد ذلك الأصل أو ما حوّله الإنسان إلى مثال كوني مطلق يتم الخضوع له أو استرضاء ما يُعتقد أنها الإرادة الخفية لهذا النموذج، وليتبرأ بفعل الكبت من هذا التمرد بإحالته عفويًا إلى قوى غيبية مستقلة مثل “الشيطان” يُنسب لها العصيان أو الممارسات الفاسدة، خاصة تلك التي تتصل مباشرة بما يُسمى “الماورائيات”. تخاطب شهرزاد الرجل الذي يحتمي بنصوص تمييزية اتخذت طبيعة السلطة الذكورية (التقاليد والأعراف والمحرمات) التي أنتجتها منذ القدم، وتوطدت سطوتها عبر الزمن”.

“أصبح تمرد شهريار على الصفة الإنسانية والإرادة الضمنية لامتلاك الأصل الخيالي الغامض الذي يعجز أن يكونه، وباعتماده على الأسس النصية التي خطها التحيز الذكوري؛ أصبح هذا التمرد قائمًا على “قتل النساء”.

“يتخذ الأمر إذن هذه الصيغة: رجل يحاول تعويض “إعجازيته الغائبة” عبر جسد المرأة، ولكن استمتاعه بهذا الجسد يرسخ افتقار الرجل لذلك الأصل الإعجازي، كلما حاصر هذا الجسد وقمعه كلما أيقن أن سلطته الذكورية زائفة، غير مطلقة، ومن ثمّ يتعيّن عليه مواصلة الانتقام من هذا الجسد حتى يستعيد نموذجه الخيالي. على جانب آخر تحاول المرأة تعويض “شهرزادها المتعالية” بأن تكون شهية من غير تنكيل بحريتها، كما أرادت سارة في المرآة أيضًا “تؤكل من دون جهد”، ولكن جسدها يوقن أنه لن يمنح المتعة الأبدية، ومن ثمّ يتعيّن عليها الثأر من شهوة الرجل الذي دمغ جسدها بالشر وقدمها قربانًا لخلاصه المستحيل، حتى تسترد ذلك الجسد المقصي (تمنحه لها المرآة) الذي يُشبِع دون نقصان”.

كان “الرجل” في حكاية “الصبية والتفاح وريحان العبد” يستعمل المرأة في محاولة إثبات ألوهيته، وفي الانتقام من عجزه عن أن يكون “إلهًا”.