(لطالما كانت حياتي صراعًا ضد الموت. أُنهي القصة، وأنطلق إلى
صندوق البريد، لأضعها هناك، وأقول "حسنًا أيها الموت .. لقد سبقتك" ..
أترى؟ .. في كل مرة أكتب فيها قصة قصيرة، أو مقالة، أو قصيدة، أو انتهي من رواية
جديدة، أنا متقدم على الموت). راي برادبيري.
يجلس عازف الترومبيت ليشاهد لقاءًا مترجمًا مع إدواردو غاليانو بعنوان
(الحياة بلا خوف) .. يرى الضحكة الساخرة لغاليانو في إحدى اللقطات وهو يقول (على الجانب الآخر، هنالك أبناء العاهرة) .. يعيد عازف الترومبيت المشهد ثم يثبّته. هو
شخصية متخيلة في رواية نُشرت منذ ست سنوات .. في بداية هذا العام فقد عازف
الترومبيت وخلال أقل من شهرين اثنين من عائلته كان يعتبرهما من أقرب البشر إليه ..
لم يخبر أحدًا من أصدقائه، ولم يكتب إشارة ولو بسيطة عن ذلك على فيسبوك، حتى أنه
كان يبدو من الخارج أمام نفسه وأمام الآخرين كأنه لم يختبر سوى جرح صغير فحسب .. شعر بالعتمة
المقبضة للموت في داخله ومن حوله كما لم يجربها من قبل، كأنه لم تعد هناك ذرة وجود
للحياة في أي مكان بالعالم، الموت فقط .. كل شيء مهما كان أصبح قابلا للفقدان في
أي لحظة وبصورة حتمية أكثر من أي وقت مضى، ولهذا ظل طوال العام الذي افتتحه الموت
بتلك القسوة المرعبة، ظل يُسمي كل أمر يتمكن من إنهائه بـ (الغنيمة)، كل حدث جيد
يمر به، كل رغبة يحققها، كل أثر يتركه، كان بالنسبة له مكسبًا من الموت لا من
الحياة .. الموت المهيمن، المتمادي في المباغتة، الذي جعل الأشخاص القليلين في
حياة عازف الترومبيت ـ بالاحتمالات الطاغية لفقدهم ـ عذابات مؤجلة، يعرف تمامًا
بعد عمر زاخر بالفقد أنه لم تعد لديه أي قدرة على تحمّل مواجهتها.
في نهاية 2017 سمع عازف الترومبيت قطتين (ذكر وأنثى) تموءان
بعنف أسفل نافذته:
ـ (هذا كثير جدًا .. لابد أن الكثير جدًا في حد ذاته خاطئ .. الكثير
جدًا بغض النظر عن أي شيء آخر هو أمر سيء .. أريد أن أفسر الكلمات مثلما أتمنى،
وأن يكون تفسيري صحيحًا بشكل مطلق .. لا أريد أن أفترض تأويلات أخرى للكلمات .. لا
أريد أن أفهم، أريد فقط أن أفسر الكلمات مثلما يحتاج ألمي، ومثلما يحتاج تاريخ هذا
الألم الذي قد لا يبدو واضحًا للجميع، وربما لا علاقة له بالأمر أصلا .. سأتناسى
اضطهاد المؤسسات والنقاد والمثقفين الذي كنت أملأ العالم بالصراخ ضده قبل أكثر من
عشرين عامًا .. سأدعي عدم وجوده لأحكم الآن من لحظتي الحالية على معارك الآخرين
التي لا أعرف عنها شيئًا .. سأعمم وأحرّف النوايا وأدعي معاني لم يقصدها أحد، ولا
أريدكم أن تعايروني بهذا).
ـ (حتى لو كان في هذا تأكيد على أنك لا تشعر بنقص يقودك لتوجيه عداءٍ ما
نحو شخص معيّن بينما أحتاج في المقابل لتوجيهه لك أنت بالذات؛ لا بأس أن أعيش الآن
في دور المتحدث الرسمي باسم شِلل المثقفين .. حتى لو لم يصمد ما سأقوله، وسيتغير،
ويتبدل لو عشت في مكان آخر وظروف أخرى، وأعطاني هذا التناقض مظهرًا مهينًا ومضحكًا
.. حتى لو لم أتذكر أو تغافلت أو لو لم أكن على وعي بالتأثيرت غير المحدودة لسلطة
مدينة ما، والتي لا يمكن حصرها في سياقات ثابتة؛ لابد أن أمنح مبالغات مقصودة لما
تقوله، ولابد أن أرفض الاعتراف بأي حق يخالف ما أقتنع به، حتى لو لم يكن مصوبًا
ضدي بشكل شخصي، كأنما هناك "بطحة" في "رأسي" لا أطيق أن
يجبرني أحد على تحسسها).
يبتسم عازف الترومبيت كرجل أبيض القلب يريد ـ بصدق تام ـ أن يحصل
الجميع على السعادة التي يستحقونها، وألا يُحرم أي قط أو قطة من التقدير اللائق به
.. ينظر إلى اللقطة المثبّتة لإدواردو غاليانو ثم يضحك امتنانًا للموت.