خرجت من البيت في الصباح الباكر، أحمل الحقيبة القماشية الكاروهات الكبيرة ذات اليدين الخشبيتين، وبداخلها الساندويتشات وترمس الشاي .. قابلت صديقة أمي عند ناصية السوق حسب الموعد ثم توجهنا إلى بيت جدتي الذي يقع في حارة ضيقة من حي شعبي حيث صعدنا سلالمه المتهدمة وطرقنا باب جارتها العجوز التي كانت في انتظارنا .. صعد ثلاثتنا إلى سطح البيت وجلسنا هناك لنأكل الساندويتشات ونشرب الشاي ونتحدث حتى الظهيرة .. نزلنا جميعًا إلى الشارع ثم ذهبنا إلى المقهى المطل على النيل حيث يجلس أصدقاء أخي الكبير .. شاركناهم لعب الطاولة والدومينو حتى العصر، ثم ذهب أحدهم لإحضار وجبة الغذاء لنا .. خرجنا من المقهى بعد تناول الطعام كي نتوجه كلنا إلى منزل صديقة أختي الكبرى .. رأيناها تنتظرنا في شرفتها، وبعد لحظات نزلت إلينا ثم ذهبنا معها إلى أحد المحلات لشراء بعض الأقمشة .. كان المساء في بدايته حينما خرجنا من المحل في طريقنا أنا وصديقة أمي وجارة جدتي وأصدقاء أخي الكبير وصديقة أختي الكبرى إلى بيت صديق أبي .. استضافنا الرجل العجوز داخل ما يشبه استراحة واسعة في الدور الأرضي من منزله .. كانت مضاءة بالنيون الأبيض الساطع، ومؤثثة بالمقاعد والأرائك الناعمة، وتطل شبابيكها المفتوحة على الصمت المظلم لأرض زراعية كبيرة، والذي يتخلله الصفير المتواصل لصرصور الليل .. كانت هذه الأرض تفصل البيت عن طريق السفر الملوّن بالضوء الأصفر لمصابيح أعمدة الإنارة المتراصة على امتداده، وهو ما جعلنا نشاهد الشاحنات العتيقة الضخمة التي لم يتوقف عبورها من هذا الطريق .. أمضينا الوقت في الكلام والضحك وشُرب القهوة حتى التاسعة تقريبًا ثم خرجنا من منزل صديق أبي لنتوجه جميعًا إلى مطعم أحد الفنادق الذي يجلس أصدقاء أخي الأكبر تحت أضوائه الخافتة في انتظارنا .. ظللنا هناك حتى الواحدة بعد منتصف الليل حيث تناولنا العشاء وشربنا (ستلا) مع سجائر (المارلبورو) والفول السوداني ثم خرجنا من الفندق أنا وصديقة أمي وجارة جدتي وأصدقاء أخي الكبير وصديقة أختي الكبرى وصديق أبي وأصدقاء أخي الأكبر .. كان الظلام يمطر بقوة متأرجحة بينما نخطو داخل سكون الشوارع القريبة من الفندق ثم نصعد سلالم البيت القديم إلى شقة امرأة جميلة كانت مقصدًا دائمًا لأخي الأكبر وأصدقائه .. فتحت لنا المرأة الجميلة بابها، وحينما دخلنا وجدنا العديد من رفيقات الليل في انتظارنا .. كانت فروع الزينة الورقية المزركشة تتعانق في سقف الصالة، وتتدلى من كثافتها بالونات غزيرة تلتصق بألوانها المختلفة ابتسامات لوجوه صغيرة .. كان صوت (وردة) ينبعث من المسجّل الكبير المستقر داخل المكتبة العريضة وهي تغني: (دي كل حاجة اتغيرت، آآآه قدام عينيا .. وكل شيء في الدنيا حلو، حلو حلو بأقول دا ليا .. وأي حاجة ألمسها تحلو في إيديا ودا من نهار حبك ما جه ما جه، وسلم عليا .. آ يا حبيبي كنت واحشني، من غير ماشوفك وتشوفني، والقدر الحلو آهو جابني .. الحلو الحلو جابني، وجابك علشان تقابلني، وجابك علشان تقابلني، واتارينا، كنا تايهين ولقينا .. أحلى أيام ليالينا .. واحنا فيها لوحدينا). أطفأت المرأة الجميلة أضواء الشقة ثم فتحت شرفتها الواسعة عن آخرها ونحن نتجرد جميعًا من ثيابنا ونجلس أمامها في الظلام المتوحد بالعتمة الممطرة في الخارج .. كان كل ما في المدينة ينكمش ويتحوّل إلى نسائم باردة تتدفق عبر الشرفة كي نتنفسها وتغتسل بها أجسادنا العارية التي سلمناها لرفيقات الليل .. كافة الحكايات تعبر إلى دمائنا بينما نحدق في الغيوم الكثيفة ونراقب المطر فنرتعش أنا وصديقة أمي وجارة جدتي وأصدقاء أخي الكبير وصديقة شقيقتي الكبرى وصديق أبي وأصدقاء أخي الأكبر بدفء من نوع آخر، أو كأن لذة هذا البرد الجارف هي الجوهر الحقيقي للدفء .. مشاهد للبشر في كل الشوارع والبيوت تتلاحق برقة متناهية وتتجمع داخلنا .. جميع ذكريات المدينة تسكن أرواحنا بتدرّج ناعم مع جلوس المرأة الجميلة المبتسمة على الأرض أمامنا .. بين الأفق السماوي الممتد بغيومه الداكنة عبر الشرفة وعيوننا .. نتمعن في ملامحها فنجدها تتقلّب بتناغم حنون بين وجوه أمي وجدتي وأخي الكبير وأختي الكبرى وأبي وأخي الأكبر .. نرى سعادتهم الكاملة داخل هذا التبادل لملامحهم في وجه المرأة الجميلة .. يبدأ هذا الوجه في الامتزاج بالأفق السماوي الممتد ورائه لحظة بعد أخرى .. يصبح جسدها العاري كله جزءًا من هذا الأفق وهي تتمدد على الأرض أمامنا بينما تصل بنا رفيقات الليل إلى ذروة النشوة .. نرى خيالات متباينة لجسد المرأة تتراقص من حولنا ثم تتلاشى ومعها يختفي كل شيء: المرأة الجميلة ورفيقات الليل وفروع الزينة والبالونات والشرفة بينما بقي الظلام والبرد والغيوم الداكنة الكثيفة كما هم .. تستغرق المدينة الموزعة داخلنا في النوم كطفلة آمنة على صوت المطر، وغناء وردة وهي تُعيد (في يوم وليلة) دون توقف.