كان وصف (المتوالية القصصية) هو الأكثر دقة عندي لمجموعة (أيام ما كنا
لبعضنا) لنهلة أبو العز، الصادرة حديثًا عن دار روافد؛ فالقصص تدور داخل مكان واحد
(الحارة) كما أنها تتناول حياة مجموعة محددة من الشخصيات المتكررة التي تعيش فيها،
والأهم من هذا أن القصص لا تنتهي بأحداث ختامية قاطعة تفصل كل قصة عن الأخرى وإنما
تأتي نهاية كل قصة بما يشبه التعليق التقريري أو الإشارة الوصفية التي تجعل من هذه
القصة مجرد فصل لم يُغلق أو (حالة اجتماعية) على سبيل المثال ضمن سيرة أكثر
اتساعاً وهي الحياة داخل الحارة التي تمتد عبر قصص المجموعة.
لكن بعيدًا عن التصنيف أتصوّر أن التصدير الذي افتتحت بكلماته نهلة
أبو العز مجموعتها وهو من الحكاية رقم 77 من حكايات حارتنا لنجيب محفوظ؛ أتصور أن
هذا التصدير أشبه بالعين الداخلية أو البصيرة التي لها دورها الهام في قراءة القصص،
وبالشكل الذي يتجاوز الارتباط بين التفاصيل المشتركة لعالم الحارات المصرية .. أتحدث
تحديداً عن القيمة الجمالية للضحك التي يؤسسها هذا المقطع:
"تذكرتُ أنني طالب بين طلبة متنافسين، في مدرسة تجمع بين طلبة
الأزقة المتخاصمة، في حارة وسط حارات متعادية، وأني كائن بين ملايين الكائنات
المنظورة وغير المنظورة، في كرة أرضية تهيم وسط مجموعة شمسية لا سلطان لي عليها،
والمجموعة ضائعة في سديم هائل، والسديم تائه في كون لا نهائي، وأن الحياة التى
انتمى إليها مثل نقطة الندى فوق شجرة فارغة ، وأن على أن أسلم بذلك كله ثم أعيش لأهتم
بالأحزان والأفراح، لذلك لا أتمالك نفسي من الضحك."
إنه الضحك الذي يمكن بل من الضروري الإنصات إليه داخل الحكايات
المختلفة: حينما يرقد (فيشة) في المستشفى مريضا بفيروس سي، والذي لم يعطه وقتاً
لأكل تفاح عم (سيد) الذي جاء به إليه في زيارته. حينما تعود (يسرية) التي تنظف
سلالم العمارات إلى طفلها الصغير الجائع بكيس شيبسي كهدية إضافية ثمينة مع إفطاره.
حينما تضحك (أم شلبي) وهي تتساءل بتفاخر (هو فيه نسوان في الحارة في حلاوة
الداية؟) بعد أن اكتشف أهل الحارة زواج (أبو علا) بها على زوجته.
(الذهول يسيطر على الموقف والرجل لا يرد ويكتفي بوضع وجهه في الأرض،
خرجت «أم شلبي» من المنزل ترتدي قميص نوم ستان أحمر طويلًا وعليه روب ستان مفتوح،
شعرها مفرود على طوله، وجهها أبيض مُشرب بحُمرة، تهادت وسط الزحام برشاقة وثقة
نجمة على سجادة مهرجان كان الحمراء، ووقفت وسط الجميع وبدأت الحديث والعيون عالقة
بها:
- فيه إيه؟ متجمعين في الخير دايمًا، أحب أطمنكم، «أبو علا» كان
عندي وكنا بنتعشى سوا، طابخة له فتة ولحمة زي ما طلب، ما هو من حقه يطلب، مش
جوزي؟!).
يُعرّف الضحك نفسه هنا بوصفة أكثر ما في الألم من مرارة، وأكثر ما في
الغرابة من دهشة، وأكثر ما في الاستسلام من خضوع للقدر. إنه الإدراك الثابت داخل
الصور المتغيرة للعالم لتلك الضآلة الشخصية التي قصدها نجيب محفوظ في تصدير
المجموعة. أن الضحك ببساطة هو كل ما في وسعك القيام به كاستجابة لائقة بحقيقتك
(الكوميدية) كنقطة ندى فوق شجرة فارغة.
(سمع صوت «أم فتحي» ومعها أحد تطرق الباب، فتح وهو غير مرحِّب بأي شخص
يأخذه منها، دخلت، هرب من نظراتها، قالت وهي تجلس على الكنبة:
- اسمع بقى، انت زي ابني وهي بنتي، من يوم ما جت الحارة واشتغلت في
الحضانة وأنا نفسي أفرح بيها، هي مقطوعة من شجرة، وأبلة «عفاف» صاحبة الحضانة
بتخليها تبات في الحضانة.
كان يسمعها وهو يعد الشاي، متمنيًا أن تكف عن الكلام، فجأة سقطت صينية
الشاي من يده، هي «رحمة»، نفس خجلها ونفس رقتها، وقامت هي من جنب «أم فتحي» وألقت
بنفسها في حضنه).
يمكننا ملاحظة أيضًا أن طاقة الضحك الذي يتوجب الإنصات إليه تصل
ذروتها في نهاية القصص، وهي بطريقة إيحائية تعادل الوصول إلى نفس الذروة في نهاية
حياة كل شخصية .. كأن هذه الدرجة القصوى هي الختام المنطقي لسلسلة من المفارقات
الحتمية غير المعقولة التي تمثل التاريخ (الهزلي) لهذه الشخصيات، وحينما نستخدم
صفة (الهزلي) هنا فكأنما نحاول أن ننتج تحديداً أو هوية ملائمة لمعاناة غير قابلة
للإحاطة أو التفسير أو حتى الرؤية.
(قبل ما تضربيني اسمعيني، أنا بكره الحضانة خالص.. العيال هناك ريحتهم
وحشة وأبلة «عفاف» على طول بتزعق، وكل يوم تحفَّظنا نفس الكلام وساعات بتسيبنا
وتتكلم مع واحد في التليفون، قلت لها أنا عاوزة أرسم ضحكت عليَّ وهي بتقوله في
التليفون بنت «علية» فاكرة روحها فنانة، وكمان هترسم بالعشرين جنيه.. مش كفاية
متحملة قرفكم؟! خليني يا ماما أستنَّاكي في البيت أو عند ستي لغاية ما ترجعي، أنا
هاعلِّم نفسي ومش عاوزة أروح تاني).
تستخدم نهلة أبو العز الراوي العليم في قصص المجموعة وهو ما يدفعنا
للتساؤل حول الشخصية التي تتقمص دور هذا الراوي داخل الحارة، والتي يمكن الشعور
بأنها ظلت متوارية طوال الوقت .. إن من ضمن ما يمكننا استنتاجه عن هذه الشخصية هو
المسافة الفاصلة التي تتخذها بين وجودها المبهم وكافة الحكايات والمشاهد البصرية
التي ترصدها .. المسافة الآمنة التي تتيح لها عدم التورط بوصفها جزءً من لعبة
القهر اليومية لأهل الحارة حتى لو كانت عنصرًا جسديًا منها، وفي نفس الوقت يجعلها نسخة
دالة من جميع الشخصيات الأخرى، لديها القدرة على تخطي الحيز الضيق لحركتها. إنه
أمر شبيه بما كتبه هنري برجسون في كتابه (الضحك):
(ابتعدوا بأنفسكم ، شاهدوا الحياة كمتفرج لا مبالٍ.. الكثير من المآسي
تتحول الى كوميديا يكفي أن نسد آذاننا بوجه صوت الموسيقى في صالون فيه حفلة راقصة
حتى يبدو الراقصون سخفاء في الحال).
إن تساؤل (من يراقب؟) هو استفهام يتعلق بالكيفية التي يمكن معها أن
تتحوّل الفرجة اللامبالية إلى انحياز في أعظم صوره. بالطريقة التي يمكن من خلالها
أن يصبح الحياد المنعزل هو الشكل الأقوى للتعاطف. إن الراوي العليم هنا بمثابة
تجسيد مختبئ للإيمان المتحسّر بضرورة ألا تمر كل هذه الآلام ثم تتلاشى دون ثمن ولو
كبصمة كتابية للضحك.
(رفع وجهه فانهمرت دموعه.
- ما لك يا أبو ولادي؟ فيه حاجة حصلت؟
رد عليها وهو يُجفف دموعه بُكم جلبابه:
- «عبد الوهاب» مات.
- «عبد الوهاب» مين؟
- «عبد الوهاب» يا ولية! المغني، موسيقار الأجيال.
- آه.. الله يرحمه، وانت بتعيط عليه ليه؟ كان من بقية أهلك؟
- طول عمرك جاهلة، «عبد الوهاب» هو الراجل اللي لما أسمعه تتغير
أحوالي، هنسمع مين بعده).
يمنحنا عنوان المجموعة ملامح للراوي العليم الذي يتنقل من قصة لأخرى
.. يعطينا إلهاماً بطفولة ما لهذا الراصد المتواري، ويمكننا بالعودة إلى الملاحظة
الافتتاحية لهذه القراءة عن أن القصص لا تنتهي بأحداث ختامية قاطعة تفصل كل قصة عن
الأخرى وإنما تأتي نهاية كل قصة بما يشبه التعليق التقريري أو الإشارة الوصفية
التي تجعل من هذه القصة مجرد فصل لم يُغلق أو (حالة اجتماعية) على سبيل المثال ضمن
مشهد أوسع وهو الحياة داخل الحارة التي تمتد عبر قصص المجموعة؛ يمكننا بالعودة إلى
هذه الملاحظة اكتساب دعم إضافي لهذا الإلهام الخاص بالطفولة وفقًا لانسجام هذا
الطريقة في المراقبة والتدوين مع الذات الطفولية .. قد يكون الراوي هو الطفل الذي
تعمّد الغياب عن جميع القصص، وقد يكون واحدًا من الأبناء الذين تعاقب حضورهم قصة
بعد أخرى، وهو في جميع الأحوال يخاطب في العنوان (أيام ما كنا لبعضنا) هذا الآخر
الذي بمقدرونا اعتباره كل شخصية داخل المجموعة حيث تستطيع أي من هذه الشخصيات
بدورها أن تخاطب أي آخر على هذا النحو كأنها تخاطب الزمن أو بالأحرى تخاطب هذا
الهامش القديم المتبدد الذي كان يمكن من داخله أن نتأمل العالم ونضحك بصورة أُجبرت
على المحو.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 2 ديسمبر 2017